السبت 11 شوّال 1445 هـ الموافق 20 أبريل 2024 م
من أخلاقنا في الجهاد(3) :(الإخلاص، الاستعداد للشهادة، الثقة بنصر الله)
الأربعاء 1 ربيع الآخر 1436 هـ الموافق 21 يناير 2015 م
عدد الزيارات : 6248
عناصر المادة
1- الإخلاص:
2- الاستعداد للشهادة:
3- الثقة بنصر الله:

من أخلاقنا في الجهاد

 الإخلاص، الاستعداد للشهادة، الثقة بنصر الله


مقدمة

" إن التجربة التي عشناها في السنوات الماضية – بحلوها ومرها – لتملي علينا ضرورة العودة إلى صقل المفاهيم، وأهمية مراجعة النفس لتحديد معالم الطريق، ومعالم الشخصية الإسلامية كما ينبغي أن تكون، لا كما هي كائنة.
إن التربية الأخلاقية تؤخذ بالمعايشة والقدوة والمواقف الحياتية، وما الكلام عن الأخلاق سوى إشارات على الطريق تُذكِّرُ بالقيم وترفع الأبصار إلى القمم لنرى البون الشاسع بين ما نحن فيه وما ينبغي أن نكون عليه.
وحين نحس بأزمتنا الأخلاقية وحاجتنا الملحة إلى التأديب والتهذيب عندئذ قد نضع أقدامنا على بداية الطريق بمجاهدة النفس وحسن الصحبة والتناصح ومجالسة الصالحين.." من كتاب هذه أخلاقنا بتصرف يسير.
إن ديننا هو الخُلُقُ كلُّه، وحتى عند القتال والمقارعة بالسيوف نرى العدل والإنصاف والرقيّ في معاملة العدوّ، ولا غرابة في ذلك فسيد المجاهدين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (الأحزاب:21)

 

1- الإخلاص:

قال تعالى:(قُل إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ..)(الأنعام:162-163)
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ:( أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام:«لَا شَيْءَ لَهُ» فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام: «لَا شَيْءَ لَهُ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ) أخرجه النسائي/3140، وحسنه الألباني.
إن المسلم إذا عمل عملاً ولم يخلص لله فيه فإنَّ بإمكانه أن يرجع ويستأنفَ ذلك العمل ويحققَ فيه الإخلاصَ، إلا الذي قُتِلَ وهو يُقارعُ الأعداءَ فإنه إن لم يخلص النيةَ فلن يستطيع الرجوع مرة أخرى ليستدرك ما فاتَهُ من الإخلاصِ. والذي لا يُخلص في جهاده فيموت فمصيره النار والعياذ بالله.
إنَّ حَمْلَ السلاحِ فيه فتنةٌ على النفسِ من ناحيةِ الإخلاصِ، لأنَّهُ يُثيرُ كوامِنَ الفُتُوَّةِ والشجاعةِ في نفس حامِلِهِ، وهو مَدْعاةٌ لأن يَقَعَ في المحظورِ( يقاتِلُ شجاعةً) أي ليُقالَ عنه شجاعٌ.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:( إن أول الناس يوم القيامة يقضى عليه رجل استشهد، فأُتي به فعرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدتُ، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يُقال جريءٌ، فقد قيلَ، ثم أُمر به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقيَ في النارِ ...). رواه مسلم/4923
أين الجهادُ والتعبُ؟وأين الرباطُ والسهرُ؟ وأين ألمُ البردِ والحرِّ و الجوعِ والعطشِ؟
كلُّه ضاعَ لأنَّه لم يكن للهِ.

ومن المجاهدين من يقاتلُ حميَّةً، أي انتصاراً لقومِه وعشيرتِه، فيخرجُ للجهاد ونيتُه أن يرفعَ ذكرَ عائلتِه، أو يخرجُ انتقاماً لعُصْبَتِهِ وجماعتِهِ، فيُقتل فيكون في جهنم
رجل من أهل النار:
ذكر قصته ابن هشام في السيرة، والواقدي، وابن كثير:
رجلٌ اسمُه قُزْمان، كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول إذا ذُكِرَ له:( إنَّهُ من أهلِ النارِ). قال: فلما كان يوم أُحد قاتل قتالاً شديداً، فَقَتَلَ وحده ثمانيةً أو سبعةً من المشركين، وكان ذا بأسٍ، فأثبتَتْهُ الجراحةُ، فَاحْتُمِلَ إلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ ، قال: فجعلَ رجالٌ من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليتَ اليومَ يا قُزمانُ فأبشرْ، قال : بماذا أُبشرُ؟ فوالله إنْ قاتلتُ إلا على أحسابِ قومي، ولولا ذلك ما قاتلتُ. فلما اشتدَّت به جِراحَتُهُ أخذ سهماً من كِنَانتِه فَقَتَلَ به نفسَهُ). السيرة لابن هشام ج6/ 43
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: سُئِلَ رسول الله عليه الصلاة والسلام عن الرجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميةً، ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟
فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

يقاتل ليُرى مكانُه:
وبعض المجاهدين ممن يشارك في عمليةٍ قتاليةٍ، أو يكون قائداً لها، ثم يكون النصر على يديه، لا يرضى إلا بأن يُذكرَ اسمُه، ويُذاعَ خبرُه ، وينتشرَ صيتُه في الإعلام وعلى شبكات التواصل.
إنَّ مَدْحَ الناسِ للمجاهدِ بأفعالِهِ وحُسْنِ تدبيرِه وحكمتِه لا ضَيْرَ فيهِ، بل هو من عاجل بشرى المؤمن كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم من حديث أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ
ولكن أن يكون همُّ المجاهد هو المدحُ والذكرُ والظهورُ فهذا هو المحظورُ.
وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:( الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكْرِ، والرجل يقاتل ليُرى مكانُه، فمن في سبيل الله؟
قال: (من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله).


أيها المجاهد: عِلْمُ الله بك يكفيكَ
صلاحُ الدينِ رحمهُ اللهُ عندما فتح بيت المقدس، وحرَّر المسجدَ الأقصى من الصليبيين، هل حرَّرَهُ بمفردِهِ؟ أم كان معه آلافُ الجنودِ؟
أين هم أولئك الجنودُ الذين كانوا في جيشِ صلاحِ الدينِ؟
لماذا لا نعرفُ أسمائَهم؟ لماذا لم يذكُرْهُمُ التاريخُ؟
هل ضرَّهم عدمُ معرفتِنا بهم؟
والله ما ضرَّهم ما دام أنَّ اللهَ يعرفُهم.
إخلاصٌ منقطعُ النضيرِ:
عندما حاصرَ مُسْلِمَةُ بنُ عبدِ الملكِ قلعةً من قِلاعِ الرومِ حصاراً طويلاً، اشتدَّ ذلكَ على المسلمين، وآذتهم سهامُ العدوِّ
فعَمَدَ أحدُ الجنود وحفر نَقْبَاً ودخل إلى داخل الحصن وفَتَحَ البابَ للمسلمين، ثم دخل المسلمون الحصن وفتح الله عليهم وانتصروا، واختفى ذاك الرجلُ فلم يَعْرِفْهُ أحدٌ، فسأل مُسْلِمَةُ عن صاحبِ النَّقْبِ فلم يجبه أحدٌ، ثم عَزَمَ عليهم إلا عَرَفَ صاحبَ النَّقْبِ،
فلما كان الليلُ دخل ذاك الرجلُ على مُسْلِمَةَ وقال له: جئتُ أخبركَ عن صاحبِ النقبِ، ولكنه يشترطُ عليكَ قبل أن تعرفه، قال: فليشترط، قال: أن لا تسألَ عنه بعد اليومِ، ولا تعطيهِ عطاءً، ولا تدلَّ عليه، قال مُسْلِمَةُ: له ذلك،
قال الرجل: أنا صاحبُ النَّقْبِ، ثم خَرَجَ،
فصار مُسْلِمَةُ يدعو في صلاته:( اللهم احشرني مع صاحبِ النقبِ).
-    عن البراء بن عازب، في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )(الحجرات:4)، قال: قام رجل فقال: يا رسول الله( إنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وإنَّ ذَمِّي شَيْنٌ)، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذاكَ اللهُ عزَّ وجلَّ). رواه الترمذي وصححه الألباني.
أي: ذاك الله الذي حمدُه زَيْنٌ، وذمُه شَيْنٌ.
فلا أَحَدَ يَزِيْنُ مَدْحُهُ، أو يَشِيْنُ ذَمُّهُ إلا اللهُ عزَّ وجلَّ.

 

2– الاستعداد للشهادة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَرضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: (خَيْرُ مَعَايِشِ النَّاسِ لَهُمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً، طَارَ عَلَيْهِ إِلَيْهَا، يَبْتَغِي الْمَوْتَ أَوِ الْقَتْلَ مَظَانَّهُ،...) وذكر تمام الحديث. رواه ابن ماجة/3977، وصححه الألباني

"الموتُ قدرٌ محتومٌ على كل مخلوقٍ، والشهادةُ أسمى صورِ الموتِ، يصطفي اللهُ لها من يشاءُ من عباده، والمؤمنُ مأمورٌ على كل حالٍ بالاستعداد للموت، فمن كانت أمنيته الشهادةُ كان أولى بالاستعدادِ، وأحرى بالتطلعِ لاصطفاءِ اللهِ له". (من كتاب هذه أخلاقنا/39)
لقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تمني الموتِ لضرٍّ نزل بالعبد، ولكن لمَّا كان للشهادةِ من فضلٍ عظيمٍ؛ ولأنها سببٌ في نصرة الدين وعبادِ اللهِ المستضعفينَ؛ فإنه يجوز تمني القتل والاستشهاد في سبيل الله، بل يجوز أن يتمنى المقاتل أن تُقطَّعَ أوصالهُ وتُمَزَّقَ أشلائهُ في سبيل الله.
صور من استعداد الصحابة للشهادة:
- قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: إن عبد الله بن جحشٍ قال له يوم أُحد:
ألا تدعو الله؟ فخلَوا في ناحيةٍ، فدعا سعدٌ فقال:
يا رب، إذا لقيتُ العدوَّ فلقِّني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حَرْدُهُ، أقاتلُه ويقاتلُني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتلَه وآخُذَ سَلَبَهُ، فأمنَّ عبدُ اللهِ بن جحشٍ، ثم قال:
اللهم ارزقني رجلاً شديداً حردهُ، شديداً بأسهُ، أقاتلُه فيك ويقاتلُني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتُك غداً قلتَ: مَن جَدَعَ أنفَكَ وأذنَكَ؟
فأقول: فيك وفي رسولكَ، فتقولُ: صدقتَ.
قال سعدٌ: يا بني، كانت دعوةُ عبد الله بن جحشٍ خيرٌ من دعوتي، لقد رأيتُه آخرَ النهارِ وإن أنفَه وأذنَه لمعلقتان في خيطٍ.)( السيرة النبوية للصلابي/ 484، وانظر حلية الأولياء 1/108).
قال ابن القيم رحمه الله:
( وقال عبد الله بن جحشٍ في ذلك اليوم: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدوَّ غداً، فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: فيم ذلك؟ فأقول فيك). أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه، ووافقه الذهبي، وله شواهد – وانظر زاد المعاد ج3/ 186- 187)
- وهذا عبد الله بن رواحةَ في غزوة مؤتةَ – كما ذكر ابن هشام -  عندما ودّعهمُ المسلمون قالوا: صَحِبَكُمُ الله، ودَفَعَ عنكم، وردَّكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسألُ الرحمـــنَ مغفـــــرةً                   وضَرْبًة ذاتِ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أو ضربةً بِيَدَيْ حرَّانَ مُجْهِــــزَةً                   بِحَرْبَةٍ تُنفِذُ الأحشاءَ والكَبِـــــدَا
حتى يُقالَ إذا مرُّوا على جَدَثِي                   أَرْشَدَهُ اللهُ من غازٍ وقد رَشَـدَا
وكان استشهاده في تلك المعركة.
- صورة أخرى لأنس بن النضر رضي الله عنه الذي لم يُكتب له القتالُ يومَ بدرٍ:
روى البخاري عن أنس رضي الله عنه، قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: (يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئنِ اللهُ أشهدني قتال المشركين لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع»، فلما كان يومُ أحدِ، وانكشف المسلمون، قال: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، - يعني المشركين - ثم تقدم»، فاستقبله سعدُ بن معاذ، فقال: «يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد»، قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صَنَعَ، قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أختُه ببنانه، قال أنس: " كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)(الأحزاب: 23)، إلى آخر الآية )( البخاري / 2805 - 4048)
ليس معنى الاستعداد للشهادة أن تزجَّ نفسك في الموت، وأن تعرِّضَ نفسَكَ للقتلِ، بل احْتَمِ بخندقٍ، واستكمِلِ الأسبابَ، وتحرَّزْ من الأخطارِ، لأن زيادةَ يومٍ في عُمُرِ المسلمِ يزدادُ فيه طاعةً، وينكأُ فيه عدواً، ويغيظُ به كافراً لخيرٌ.
ولكن معنى الاستعداد للشهادة أن توطِّنَ نفسك على الموت إن وقع، وليس المراد أن يقع الموتُ ولا بدّ.
روى البخاري أن ابن عمر سأل نافعاً، على أي شيء بايع الصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ على الموت؟ (قال: لا، بل بايعهم على الصبر)
ويليه في صحيح البخاري حديث عن سلمة يثبت أن البيعة كانت على الموت.

ويربط ابن حجر بين الروايتين ربطاً لطيفاً؛ فقال:( ولا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار، لأن المراد بالمبايعة: ألا يفرُّوا ولو ماتوا، وليس المراد بأن يقع الموت ولا بدَّ، وهو الذي أنكره نافعٌ رضي الله عنه وعَدَلَ إلى قوله:( بل بايعهم على الصبر)؛ أي على الثبات، وعدم الفرار، سواء أفضى ذلك بهم إلى الموت أم لا) (كتاب هذه أخلاقنا /ص 51 ، وانظر فتح الباري / شرح حديث 2958، ج 6/ 118،)
"وفي قول الله تعالى:(فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم)والسكينة هي الطمأنينة في موقف الحرب، فدلَّ ذلك على أنهم أضمروا في قلوبهم أن لا يفروا فأعانهم على ذلك.)( انظر فتح الباري / شرح حديث 2958، ج 6/ 118)
 [ومثلُ هذه التربية على الاستعدادِ للشهادةِ هي التي تجعلُ من ينشُد الشهادةَ جريئاً في الحقِّ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام:( أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) (أخرجه النسائي وأبو داود وغيرهم وصححه الألباني).
ويعلق الغزالي على هذا المعنى فيقول:( ولما علم المتصلِّبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حقٍّ عند سلطان جائرٍ، وأن صاحب ذلك إذا قُتِلَ فهو شهيدٌ، قَدِمُوا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاكِ، ومحتملينَ أنواعَ العذابِ، وصابرين في ذاتِ الله، ومحتسبينَ لما يبذلونه من مُهَجهِم عند الله) انتهى كلام الغزالي.
وبغير هذه النفسية تكون الأمةُ غثاءً كغثاء السيل، وتكون نتيجةُ تلك الغثائيةِ أنَّ الله ( ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن) ولمّا سُئِلَ رسول الله عليه الصلاة والسلام عن الوهن قال:( حب الدنيا وكراهية الموت)( أخرجه أبو داود وصححه الألباني/ 4297)
وذلك الوهن هو الذي يجعل الأمة تستمرئُ الذُّلَ وترضى بالدنيةِ].( هذه أخلاقنا/ ص 51 - 52)

كيف نستعد للشهادة؟
أولاً: التوبة الصادقة: وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال:( يضحكُ الله إلى رجلين يقتل أحدُهما الآخرَ يدخلان الجنة: يقاتل هذا في سبيل الله، فيُقتل، ثم يتوب الله على القاتل، فيُستَشهَدُ). (البخاري /2826)
فليس غريباً أن ينالَ الشهادةَ من كان له ماضٍ جاهليٍّ تاب منه، وقد رؤيت نماذجُ معاصرةٌ من صدقِ جهادِ حديثي الهداية.
ولا بدَّ في الاستعداد للشهادة أن يُتبِعَ التوبةَ بالعملِ الصالحِ حتى يوفقه الله للشهادة، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام:( إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعملَهُ، قيل: كيف يستعمِلُهُ؟ قال: يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبل الموت ثم يقبضُه عليه). (صحيح الجامع/305)
ولا يثبتُ لامرئٍ صدقُ سعيِه للشهادةِ بغيرِ التضحيةِ، ولا تضحيةَ بغيرِ جرأةٍ، ثم كيف يحمل المجاهدُ اسمَ المجاهدِ بغيرِ بذلِ الجهدِ؟! إذ أنَّ الجهادَ بذلُ أكبر الطاقة وأقصى الجهد وغايةِ الوُسْعِ في نصرة الإسلام.
ثانياً: الاخلاص وتجريد النية من الشوائب:
وتأمل هذه الصورة من غزوة خيبر لرجل يقاتل المشركين:( رجلٌ لا يَدَعُ لهم شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقيل: ما أجزأَ منا اليومَ أحدٌ كما أجزأَ فلانٌ).( البخاري:4202)
 فأخبرَ رسولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام أنه في النار ؛ لما يعلم من نفاقه، وتَبِعَهُ صحابيٌ فوجده لم يصبر على جراحه فقتلَ نفسَه.
فربما يُحْمَلُ رجلٌ مضرجٌ بدمائه من أرض المعركة، وهو عند الله من الخاسرين؛ لِما شاب نيتَه من عُجْبٍ، أو فخرٍ، أو عَصَبِيَّةٍ، أو حبِّ سمعةٍ.
ثالثاً: طلب الشهادة بصدق طريقٌ إلى نيلِها أو نيلِ أجرِها:
قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ).( أخرجه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين / 2412)
وروى مسلمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام: (مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا، أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ).

 

3- الثقة بنصر الله:

إن صاحب اليقينِ والثقةِ بالله لا يظهر حين يَرى قوةَ الإسلام وعزةَ أهلِه وبشائرَ نصرِه، وإنما يظهر حين يَحْلَكُ الظلامُ، ويشتدُّ الضيقُ، وتجتمعُ الكروبُ، وتتكالبُ الأممُ؛ لأن يقينه بأن العاقبة للمتقين، والمستقبلَ لهذا الدين.
ولا ندري على يد أي جيل يكشفُ اللهُ الغُمَّةَ، ويرفعُ شأنَ الأمةِ، ولكن الذي ندريه أن سنة الله في الكون كما أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام:( لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة) سنن ابن ماجه /8 وحسنه الألباني.
أيها المجاهدون: لا تيأسوا لكثرةِ الخاذلِ، وقلةِ الناصرِ، وتكالبِ الأممِ، فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، والطائفةُ الظاهرةُ على الحق لا يضرُّها من خذَلَها، وهي مستمرةٌ حتى يأتي أمرُ الله،
روى مسلم من حديث سمرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:( لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة).
ولقد بشر رسول الله عليه الصلاة والسلام ببشريات تُذِيبُ كلَّ يأْسٍ، وتدفعُ كلَّ قنوطٍ، وتُثَبِّتُ كلَّ صاحبِ محنةٍ، وتريحُ قلبَ كل فاقدٍ للأملِ بأبناءِ هذا الدينِ، حيث قال:( بشر هذه الأمة بالسناء والدِّينِ والرفعة والنصر والتمكين في الأرض..). (صحيح الجامع الصغير / 2825(صحيح)

-    قال تعالى:( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) الأنبياء 105
-    قال تعالى:( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) الأعراف 128
-    قال تعالى:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) النور 55
-    قال تعالى:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) التوبة 32
-    قال تعالى:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الصف 9
-    قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ..) الأنفال 36
إن أعداء الإسلام لا يفترون في الليل والنهار عن بذل كل ما يستطيعون لتنحية الإسلام جانباً؛ لأنهم يعلمون أنه ذلك المارد الذي إن انتفض أباد مدينة الشرق الملحدة، وحضارة الغرب الكافرة، فكم أُنفقت من الأموال على تنصير المسلمين، وتدعيم الاقصاد اليهودي، ودعم الأندية الماسونية، وإشاعة الرذيلة وتحطيم الأخلاق، وعلى حرب المسلمين في كل مكان، واليوم كم تُنفقُ من الأموال للقضاء على المسلمين الموحدين في سوريا وفي غيرها،( فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ).
-    عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول :(لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ). (مسند أحمد / 1695 وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وأخرجه الطبراني، والبخاري في التاريخ، وغيرهم)
ويؤيده حديث خباب في البخاري، قال عليه الصلاة والسلام:(والله ليَتِمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). البخاري / 3612
-    روى أحمد من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة، ثم سكت).( رواه أحمد / 18406، وقال صاحب الزوائد: رجاله ثقات. وصححه العراقي).
- صورة من ثقة النبي بربه:
في غزوة الأحزاب التي اجتمع فيها عشرة آلاف مقاتل ونزلوا قرب المدينة للقضاء على  النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه، وقد أشار سلمان على النبي عليه الصلاة والسلام بحفر الخندق.
اقترن حفر الخندق بصعوبات جمة، فقد كان الجوُّ بارداً، والريحُ شديدةً، والحالةُ المعيشيةُ صعبةً، بالإضافة إلى الخوف من مباغتة العدو، ويضاف إلى ذلك العمل المضني والتعب، حيث كان الصحابة يحفرون بأيديهم وينقلون التراب على ظهورهم، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يشاركهم العمل حتى وارى الترابُ جلدةَ بطنِه. انظر صحيح البخاري / 4106
وقد جاع الصحابة وجاع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كان يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع؛ رغم هذه الظروف الصعبة  كان أمل النبي بالله قوياً، وثقته بالله عالية، فقد اعترضت صخرة كبيرة في حفر الخندق فلم يستطع الصحابة أن ينقبوها، فقام رسول الله عليه الصلاة والسلام وأخذ المعول وضربها ضربة، فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ , فُتِحَتْ فَارِسُ) , ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى مِثْلَهَا فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ , فُتِحَتِ الرُّومُ). (مسند الحارث / حديث 692)
حتى قال معتِّبُ بن قُشَيْرٍ أخو بني عوف: محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدُنا لا يأمنُ على نفسِهِ أن يذهبَ إلى الغائطِ.
ولقد وصف اللهُ تلكَ المحنةَ الرهيبةَ أصدقَ وصفٍ فقال: ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) الأحزاب 10 – 11
وكان ظن المسلمين بالله قوياً، وقد سجله القرآن بقوله تعالى: ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)( الأحزاب 22)

1/ربيع الآخر/1436
الموافق لـ 21/1/2015م
 

دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 114) 80%
غير فعال (صوتأ 27) 19%
لا أدري (صوتأ 2) 1%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 143