1- أهميّة الوصيّة في حياة المسلم
2- للوصيّة خمسة أحكامٍ، فتعرّف عليها
3- همساتٌ في أذن الموصي والوصيّ
مقدمة:
إنّ من الحقائق الّتي لا يشكّ فيها أيّ عاقلٍ: أنّ الموت نهايةٌ حتميّةٌ لكلّ مخلوقٍ، ولكن رغم حتميّتها فإنّ الإنسان كثير الشّرود والغفلة، فيحتاج من يذكّره بين الفينة والأخرى، ويوقظه من غفلته، وإنّنا في زمنٍ كثرت فيه الأوباء والأمراض، وانتشر فيه موت الفجأة انتشار النّار في الهشيم، فصارت دواعي التّذكير أبلغ، ورسائل الموت أوضح، فربّما من أصبح بين الأحياء أمسى بين الأموات، ومن أمسى بين الأحياء لم يأت عليه الصّباح إلّا وهو بين أطباق الثّرى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ".
لذا لا بدّ أن ترحل نظيفاً طيّباً، لا يطالبك أحدٌ بتبعةٍ، سليم اليد، طيّب الدّخل، لا تشوبك فيه شائبةٌ، ولا يعلق بذمّتك أحدٌ، ولا يوقفك في حشرك مخلوقٌ.
من هنا، ومن رحمة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأمّته، وحرصه على سلامتها، جاءت وصاياه بالوصيّة.
تلك الرّسالة المباركة الّتي تبعثها لمن بعدك، من أهلك وإخوانك وأحبابك، يجدونها بعد رحيلك، موضّحاً لهم تبعاتك، مشجّعاً لهم فيها على المعروف، ناصحاً لهم حتّى بعد موتك، مبرئاً ذمّتك من كلّ الحقوق والتّبعات.
1- أهميّة الوصيّة في حياة المسلم
إنّ الإنسان العاقل إذا أُنعمَ عليه بالمال الّذي يزيد عن نفقته ونفقة عياله، يحرص على استثمار هذا المال لصالحه هو، ويبحث عن السّبل الّتي تعود عليه بفوائد في مستقبله، المستقبل الطّويل في حياة الآخرة، فليس من العقل في شيءٍ أن يكدح الإنسان عمره كلّه في جمع المال واستثماره، ثمّ يموت فجأةً، ويأكله الورثة لقمةً سائغةً، ويشقى هو بحسابه وتبعته.
ومن أجل هذا فقد جاءت الشّريعة بثلاثة أبوابٍ مشروعةٍ، هي في الحقيقة فرصٌ استثماريّةٌ مجزيةٌ ومضمونةٌ، وتحقّق هذا المقصود، وهي الصّدقة والوقف والوصيّة، وسنتحدّث في موضوعنا هذا عن أحد هذه الأبواب المباركة، وهو الوصيّة، لكثرة الأسئلة عنها، وكثرة الجهل في تطبيقها.
الوصيّة: هي الأمر بالتّصرّف بعد الموت، وتنقسم إلى قسمين:
أوّلاً: وصيّةٌ ماليّةٌ: وهي التّبرّع بالمال بعد الموت، بأن يوصي الإنسان بشيءٍ من ماله ينفّذ بعد موته، من تبرّعٍ في وجوه الخير، بخلاف الصّدقة الّتي هي تبرّعٌ حال الحياة.
ثانياً: وصيّةٌ غير ماليّةٍ: بأن يعهد الإنسان ببعض التّصرّفات الّتي تُفعل بعد موته، كأن يوصي أن يتولّى تغسيله فلانٌ، والصّلاة عليه فلانٌ، أو يتولّى تزويج بناته بعد موته فلانٌ، ونحو ذلك.
والوصيّة مشروعةٌ بالكتاب والسّنّة، قال عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 18]،
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ).
وإنّ هذه الوصيّة الشّرعيّة الّتي حثّ عليها الشّرع ورغّب فيها؛ لَهِيَ من صالح الأعمال الّتي تبقى ذخراً للإنسان بعد مماته، وتثقّل موازين حسناته، وترفع درجاته.
الوصيّة: وصالٌ بين الإنسان والحياة الدّنيا، يفارق الإنسان الدّنيا بجسده وبدنه، وتبقى الوصيّة كأثرٍ من آثاره، يُكتب له فيها الأجر، ويحطّ عنه بها الوزر، قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قال: قَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ).
2- للوصيّة خمسة أحكامٍ، فتعرّف عليها
إنّ ممّا ينبغي أن نعرفه أنّ الوصيّة تدور عليها الأحكام الخمسة:
أوّلاً: الوصيّة الواجبة: يأثم المكلّف بتركها، وذلك حينما يكون عليه حقوقٌ لا يعلم بها إلّا هو وصاحب الحقّ، فيجب عليه أن يوصي لتثبيت الحقّ لصاحبه، ولقطع الخصومة الّتي قد تنشأ غالباً في مثل هذه الأحوال، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجبٌ، فمن كان في ذمّته حقٌّ، سواءً كان حقّاً لله -كالزّكاة ونحوها- أو حقّاً لآدميٍّ -كالدَّين- فعليه أن يبادر إلى أداء الحقوق في حياته، فإنّ عجز فلْيوصِ وصيّةً واضحةً بهذه الحقوق إبراءً لذمّته.
ثانياً: الوصيّة المستحبّة: لمن كان عنده مالٌ زائدٌ عن حاجة ورثته، فيوصي بما تيسّر من أعمال القرب والبرّ والخير، بما لا يتجاوز الثّلث، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ).
ثالثاً: الوصيّة المكروهة: إذا كان مال الموصي قليلاً وورثته محتاجون، فالأفضل عدم الوصيّة هنا، لأنّ الأقربين أولى بالمعروف، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعُودُنِي... فقَالَ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ).
رابعاً: الوصيّة المحرّمة: ولها صورٌ عديدةٌ وكثيرةٌ، كأن يوصي بأكثر من ثلث ماله أو يجعلها لوارثٍ، قال سبحانه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَار} [النّساء: 12].
ومن الإضرار بالوصيّة أن يحرم بعض الورثة حقّه، أو أن يقرّ على نفسه بدَينٍ لا حقيقة له من أجل أن يمنع الوارث من تمام حقّه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ).
سبحان الله! كيف يتجرّأ ذلك المخذول ليضارّ في وصاياه، أو يقرّ على نفسه بدَينٍ لا حقيقة له، من أجل أن يمنع الوارث حقّه وهو في حالة إدبارٍ من الدّنيا وإقبالٍ على الآخرة، وفي حالةٍ يَصدقُ فيها الكذوب ويتوب فيها الفاجر، ويأتي من يوصي بأمرٍ فيه محرّمٌ، كحرمان البنات من الميراث أو الأمر بالنّياحة، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ... فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ).
خامسًا: الوصيّة المباحة: وذلك عندما يكون المال قليلاً والوارث غير محتاجٍ، فالوصيّة مباحةٌ.
فلينظرْ كلٌّ منّا في حال وصيّته، وليحذرْ من الجور والإضرار في الوصيّة.
3- همساتٌ في أذن الموصي والوصيّ
إنّ تعجيل الصّدقة والبرّ في حال الصّحّة والحياة أفضل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الغِنَى، وَتَخْشَى الفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ).
ولكن مع ذلك فالتّبرّع بعد الموت باب خيرٍ وبرٍّ وتداركٍ للتّقصير، وأحسن ما يوصي به المرء بعد موته لأقاربه الّذين لا يرثون -إذا كانوا من ذوي الحاجة- قال عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180].
ولقد أثنى الله تعالى على المنفق عندما يبدأ بأقاربه، قال عز وجل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [البقرة: 177].
فكما أنّ الصّدقة عليهم في الحياة أفضل فكذلك بعد الموت، ففي الإنفاق عليهم صدقةٌ وصلةٌ، فانظر أيّها الموصي في سائر وجوه البرّ والخير، وتحرَّ الأنفع وما تكون الحاجة إليه أشدّ، وهذا يختلف باختلاف الزّمان والمكان، فمن ذلك على سبيل المثال: عمارة المساجد وخدمتها، وإعانة طلبة العلم وكفالتهم، ودعم المجاهدين في سبيل الله، وطباعة الكتب النّافعة، ومن مصارف الوصيّة عظيمة النّفع: الإسهام في تيسير العلاج الطّبيّ على الفقراء، فهذا بابٌ يغفل عنه الأغنياء، وكم يعاني بعض النّاس من ثقل التّداوي وكلفته، إمّا لفقره أو لفداحة مرضه وكثرة تبعاته، وقد يكون في هذا السّهم إنقاذ نفسٍ من الهلاك، والله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
كما أنّ من المصارف المقترحة المباركة أيضاً قضاء ديون المعسرين، عَنْ رِبْعِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْيَسَرِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ) قَالَ: "قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ".
ومعونة الشّباب العاجزين، وتأمين المسكن الشّرعي للعائلات المعدومة، وغير ذلك من أبواب الخير الّتي لا تحصى.
وأنت يامَنْ أُوكلتْ لك مهمّة تنفيذ الوصيّة -سواءً كنت وصيّاً من قبل الموصي أو وارثاً يؤول إليك تنفيذ الوصيّة-: عليك بتقوى الله، والمبادرة بتنفيذ الوصيّة كما أراد الموصي ما لم يكن فيها جورٌ أو إثمٌ، ولتحذرْ من نزعات الشّيطان وأطماع النّفس، لا سيّما إذا كانت المبالغ كبيرةً، فإيّاك أن تستغلّ ضعف الورثة وقلّة خبرتهم فتتحايل على وصيّة الميّت فتحابي نفسك أو من تحبّ، فتقع في الوعيد، قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181].
وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النّساء: 58].
خاتمة:
ما أجمل المسلم وأبهاه عندما يحرص على تطبيق سنّة النّبيّ ووصاياه، لا سيّما سننه المهجورة؛ والّتي منها: الوصيّة، ليبرهن باتّباعه لنبيّه على صدق محبّته لرسوله، فإنّ الحبّ الصّادق يُترجَم باتّباع رسول الله في الأقوال والأفعال، فبادروا بالوصايا قبل حلول المنايا، وأخلصوا فيها السّرائر والنّوايا، واحذروا الجور والاضرار، فإنّه موجبٌ للحسرة والنّدامة، وسببٌ لسوء الخاتمة، وموجبٌ للفتنة والشّرّ بين الورثة، وربّما كان من أسباب نزع البركة من التّركة، واستجلابٌ لغضب الله على كلًّ من الموصي والوصيّ.
لا تبيتوا -عباد الله- إلّا ووصاياكم مكتوبةٌ عند رؤوسكم، فإنّ آجالكم مجهولةٌ، ولكنّها جِدُّ قريبةٌ، فتداركوا بوصاياكم ما فاتكم من تقصيركم، يعلُ قدركم، وتُرفع درجاتكم في جنّة ربّكم.