1- أيها الإنسان... أنت في امتحان
2- الثّبات في النّزال... يحتاج إلى رجال
3- إن لم تكن من القائمين... فلا أقلّ أن تكون من المنتظرين
4- أيها المرابطون في فسطاط المسلمين
مقدمة:
المؤمن الكامل هو الذي إذا عاهد الله لا يغيِّر ولا يبدِّل، ومن علامات رسوخ الإيمان في المؤمن الصادق أنَّه لا يبدِّل ولا يغيِّر.
أمَّا الإنسان الذي إن أصابَهُ خير اطْمأنَّ به، وإن أصابَتْهُ فِتْنة انْقلب وَجْهه، فهذا الإنسان المُتَقَّلِب.
قال بعضهم كما قص الله علينا في كتابه: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
وأمّا المؤمنون بحالهم قبل مقالهم (صدقوا ما عاهدوا الله عليه).
1- أيها الإنسان... أنت في امتحان
صدِّق أيُّها المسلم أنَّه لا ينجو مؤمن على وجه الأرض من يوم آدم إلى اليوم من امتحان، لقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
حكمُ المنيــةِ في البـريـة جار ما هــذه الـدنيا بــدار قــرارِ
طُبعتْ على كدَرٍ وأنتَ تريدُها صفـواً مـن الأقذارِ والأكـدار
ومُكلِّــفُ الأيامِ ضــدَّ طبــاعِها مُتطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ
ويبيّن الله تعالى حال فئتين أمام الامتحان والابتلاء والاختبار: ذلك النموذج الكريه، نموذج الذين عاهدوا الله من قبلُ لا يُولون الأدبار، ثم لم يوفوا بعهد الله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15].
وصورةٌ وضيئةٌ لنموذجٍ من المؤمنين اكتملت فيهم صورةُ الإيمان، في مقابل صورة النفاق والضعف ونقضِ العهد من ذلك الفريق، فقال سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
ويعقِّب ربنا سبحانه عليها ببيانِ حكمةِ الابتلاء، وعاقبةِ النقضِ والوفاء، وتفويضِ الأمر في هذا كلِّه لمشيئة الله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24].
2- الثّبات في النّزال... يحتاج إلى رجال
معركةُ الحقِ والباطل مستمرةٌ حتى قيامِ الساعة، وفي هذه المعركة تُكتشف معادنُ الرجالِ من أشباه الرّجال.
أخبرنا الله تعالى عن المؤمنين الصادقين الذين استمروا على العهد والميثاق مع الله تعالى، وما غيّروا هذا العهد ولا نقضوه ولا بدّلوه، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ كلمةَ: {رِجَالٌ صَدَقُوا} تدلُّ على أنّ المقامَ مقامُ جِدٍ وثباتٍ على الحق، وقلوبٍ رسخ فيها الإيمانُ رسوخَ الجبال، وهؤلاء الرجال وفّوا بالعهد الذي قطعوه أمام الله على أنفسهم بأن يبلوا في سبيل نصرة الإسلام حتى يصيبوا إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر.
فالعهدُ هنا كما هو واضحٌ عدمُ الفرارِ من الزحف والقتال، والآيةُ الكريمةُ تمتدح قلّةً قليلةً من المؤمنين الصادقين قد ثبتت في الحرب مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، بعد أن سبقتها آيةٌ توبّخُ وتستنكرُ فرارَ المنافقين وضعيفي الإيمان حينما خافوا الموتَ والقتلَ، فالآيتان توضحان أنّ الكثيرَ ممن عاهدوا لم يصدّقوا عهدَهم مع الله ورسوله؛ والقلةُ القليلةُ جاءت الآيةُ الثانيةُ لتثني عليهم وتشكرَ صدقَهم وتميِّزَهم عما سواهم من السواد الأعظم الذين فرّوا وتولّوا وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأعداء من الكفار.
حُقَّ لهم أن ينعتَهم اللهُ بقوله: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} إنه الصدقُ الكاملُ فيما عاهدوا الله عليه، من القيام بدينه، ونصره بكل ما يقدرون عليه من مقالٍ ومالٍ وبدنٍ وظاهرٍ وباطنٍ.
ومِن وصفِهم: الثباتُ التامُ على الشجاعة، والصبرُ، والمضيُّ في كلِّ وسيلةٍ بها نصرُ الدين.
فمنهم الباذلُ لنفسه، ومنهم الباذلُ لماله، ومنهم الحاثّ لإخوانه على القيام بكلِّ مستطاعٍ من شؤون الدين، والساعي بينهم بالنصيحة والتأليف والاجتماع، ومنهم المنشّط بقوله وجاهه وحاله، ومنهم الفذُّ الجامعُ لذلك كله، فهؤلاء خيار المسلمين: بهم قام الدين وبه قاموا، وهم الجبال الرواسي في إيمانهم وصبرهم وجهادهم، لا يردّهم عن هذا المطلب رادُّ ولا يصرفهم صارفٌ، ولا يصدّهم عن سلوكِ سبيله صاد، تتوالى عليهم المصائب والكوارث، فيتلقّونها بقلوبٍ ثابتة، وصدورٍ منشرحة، لعلمهم بما يترتب على ذلك من الخير والثواب والفلاح والنجاح.
وأما الآخرون، وهم الجبناء المرجفون، فبعكس حال هؤلاء: لا ترى منهم إعانةً قوليةً ولا فعليةً، قد ملَكَهم البخلُ والجبنُ واليأسُ، وفيهِم الساعي بين المسلمين بإيقاعِ العداواتِ والفتن والتفريق، فهذه الطائفة أضرُّ على المسلمين من العدو الظاهر المحارب، بل هم سلاحُ الأعداءِ على الحقيقة، قال تعالى فيهم وفي أشباههم: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} [التوبة: 47].
أي يستجيبون لهم تغريراً أو اغتراراً. فعلى المسلمين الحذرُ من هؤلاء المفسدين، فإنّ ضرَرهم كبيرٌ وشرُّهم خطيرٌ، وما أكثرَهم في هذه الأوقات.
3- إن لم تكن من القائمين... فلا أقلّ أن تكون من المنتظرين
بيّن قوله جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ}: أي ينتظر الوفاء بعهده مع الله، وكأن الله تعالى يقول: الخير فيكم يا أمة محمد باقٍ إلى يوم القيامة.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ-سُمِّيَتْ بِهِ- وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَبُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غِبْتُ عَنْهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَعْدُ، لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَيْنَ؟ قَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ! أَجِدُهَا دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَقَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
قد كانوا ناساً من البشر، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر، وضعفِ البشر، وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدودَ جنسهم البشري ووِسعهم، ويفقدوا خصائصه ومميزاته، نعم؛ كانوا ناسًا من البشر يفزعون، ويضيقون بالشدة، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة، ولكنهم كانوا -مع هذا- مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتمنعهم من السقوط، وتجدد فيهم الأمل، وتحرسهم من القنوط.
وحين نرانا ضَعِفنا مرة، أو زُلزلنا مرة، أو فَزعنا مرة، أو ضِقنا مرةً بالهول والخطر والشدة والضيق فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع...!
يتحتم علينا التمسك بالعروة الوثقى؛ لننهض من الكبوة، ونستردَّ الثقةَ والطمأنينةَ، ونتخذَ من الزلزال بشيرًا بالنصر، فنَثبُت ونستقر، ونقوى ونطمئن، ونسير في الطريق، وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذجَ الفريدَ في صدر الإسلام، النموذجُ الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسنَ بلائه وجهاده، وثباته على عهده مع الله، فمنهم من لقيه، ومنهم من ينتظر أن يلقاه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
4- أيها المرابطون في فسطاط المسلمين
ونحن إذ نستذكر صور الثبات والصمود، وتمر بأذهاننا أطيافُ أولئك النفر الذين صدقوا فبذلوا النفسَ ولم يبدّلوا ولم يتردّدوا أو يتشككوا... إذْ نستذكر هؤلاء فإننا اليوم نستذكرُ أبطالنا المرابطين في غوطة دمشق فسطاط المسلمين، ذلك الثباتُ من ثلةٍ من المجاهدين تقف في وجهِ دولٍ وامبراطوريات، تقاوم أعتى وأحدثَ الأسلحةِ على وجه الأرض، ثباتٌ في هذا العصر عزّ نظيرُه، بل ولا في عصورٍ قريبةٍ منه تجدُ مثلَه، إنّ مثلَ هذا الثبات الأسطوري، الذي يذكّرنا بالخندق وأُحُدٍ وبدر... هذا الثبات بحدّ ذاتِه بشرى بالنصر، فإنه ليس بعدَ مثلِ هذا الثبات سوى النصر بإذن الله.
فثِقوا بالله أيها المرابطون المجاهدون اليوم في غوطة دمشق، فإنّ ثباتَكم هذا الذي زلزل العالمَ وأدهشه، وقوّض مضاجعَ قوى الشر العالمية؛ ثباتُكم هذا هو من الله، وما أعانكم الله عليه إلا لعقبى من النصر والظفر يريدها لكم، فاستعينوا بالله، وماالصبر إلا من الله {واصبرْ وما صبرُك إلا بالله ولا تحزنْ عليهم ولا تكُ في ضَيقٍ مما يمكُرون} [النحل:127].