غزوة الأحزاب(2)
الكاتب : عبد الرحمن محمود الضحيك
الجمعة 15 أغسطس 2014 م
عدد الزيارات : 3070

قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا).
عباد الله : كنا قد ذكرنا في اللقاء الماضي - غزوة الأحزاب 1 - كيف تحزب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بمؤامرة نسجتها أيدي اليهود، والذين كانوا قد طُرِدوا من المدينة بسبب خيانتهم وغدرهم. وقبل أن تصل الأحزاب إلى المدينة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حفر خندقا في القسم المكشوف من المدينة. ولقد كان  أصحاب  رسول الله صلى الله عليه وسلم يعملون بجد ونشاط وهمة عالية، وإذا عرضت لأحدهم حاجة ضرورية استأذن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سرعان ما يعود إذا ما انتهى منها.
أما المنافقون فقد كان الواحد منهم يورِّي بقليل من العمل، حتى إذا رآه الناس ذهب إلى أهله في خفاء ودون استئذان، فأنزل الله تعالى فيهم: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
ونزل في المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذن لمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
وقد وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، وعلامات الرسالة ما ازداد بها المؤمنون إلّا إيمانًا وثباتا، فمن ذلك ما رواه ابن إسحاق قال: جاءت أخت النعمان بن بشير بحَفْنَة من تمر إلى الخندق ليتغدى أبوها وخالها، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منها التمر، وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق، فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثوب.
ولقد كان في هذه الغزوة من النَّصَبِ والتعب والجوع ما لم يكن في غيرها
قال جابر رضي الله عنه: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفُرُهُ، فَلَبِثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ نَطْعَمُ طَعَاماً، وَلاَ نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي، قَالَ: فَأَذِنَ لِي. فَجِئْتُ امْرَأَتِي فَقُلْتُ: ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ، قَدْ رَأَيْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لا صَبْرَ لِي عَلَيْهِ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: عِنْدِي صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَعَنَاقٌ –وهي الأنثى الصغيرة من المعز- قَالَ: فَطَحَنَّا الشَّعِيرَ، وَذَبَحْنَا الْعَنَاقَ، وَسَلَخْتُهَا وَجَعَلْتُهَا فِي الْبُرْمَةِ، وَعَجَنْتُ الشَّعِيرَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِثْتُ سَاعَةً، ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُهُ الثَّانِيَةَ فَأَذِنَ لِي، فَجِئْتُ فإِذَا الْعَجِينُ قَدْ أَمْكَنَ، فَأَمَرْتُهَا بِالْخَبْزِ، وَجَعَلْتُ الْقِدْرَ عَلَى الأَثَافِيُّ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّ عِنْدَنَا طُعَيِّمًا لَنَا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَقُومَ مَعِي أَنْتَ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ مَعَكَ، فَقَالَ: (وَكَمْ هُوَ)؟ قُلْتُ: صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَعَنَاقٌ، فَقَالَ: (ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ وَقُلْ لَهَا لا تَنْزِعِ الْقِدْرَ مِنَ الأَثَافِيِّ، وَلا تُخْرِجِ الْخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ). ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: (قُومُوا إِلَى بَيْتِ جَابِرٍ). قَالَ: فَاسْتَحْيَيْتُ حَيَاءً لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ، فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ قَدْ جَاءَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، فَقَالَتْ: أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَكَ كَمِ الطَّعَامُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَدْ أَخْبَرْتَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَنَا، قَالَ: فَذَهَبَ عَنِّي بَعْضُ مَا كُنْتُ أَجِدُ وَقُلْتُ: لَقَدْ صَدَقْتِ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ، ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابِهِ: (لا تَضَاغَطُوا)، ثُمَّ بَرَّكَ عَلَى التَّنُّورِ وَعَلَى الْبُرْمَةِ. قَالَ: فَجَعَلْنَا نَأْخُذُ مِنَ التَّنُّورِ الْخُبْزَ، وَنَأْخُذُ اللَّحْمَ مِنَ الْبُرْمَةِ، فَنُثَرِّدُ وَنَغْرِفُ لَهُمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لِيَجْلِسْ عَلَى الصَّحْفَةِ سَبْعَةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ)، فَإِذَا أَكَلُوا كَشَفْنَا عَنِ التَّنُّورِ وَكَشَفْنَا عَنِ الْبُرْمَةِ فَإِذَا هُمَا أَمْلأُ مَا كَانَا، فَلَمْ نَزَلْ نَفْعَلُ ذَلِكَ، كُلَّمَا فَتَحْنَا التَّنُّورَ وَكَشَفْنَا عَنِ الْبُرْمَةِ وَجَدْنَاهُمَا أَمْلأَ مَا كَانَا حَتَّى شَبِعَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ، وَبَقِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الطَّعَامِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَصَابَتْهُمْ مَخْمَصَةٌ فَكُلُوا وَأَطْعِمُوا)، فَلَمْ نَزَلْ يَوْمَنَا ذَلِكَ نَأْكُلُ وَنُطْعِمُ. قَالَ: وَكَانُوا ثَمَانَمِئَةٍ.
وهذه الحادثة -أيها الإخوة- تدل على حب الصحابة الشديد لله ولرسوله، وشفقتهم على بعضهم، كما تدل أيضا على تواضعه عليه الصلاة والسلام لأصحابه حيث كان يغرف بنفسه اللحم ويكسر لهم الخبز حتى صدروا عنه. وأعظم من هذا ما رواه البراء بن عازب قال: لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْفِرَ الْخَنْدَقَ عَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ، لاَ تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا.

الله أكبر، مربوطٌ على بطنه حجران، وبطون أصحابه حجر حجر، ولا يجدون ما يسد حاجتهم من الطعام، ويعدهم بهذه الوعود، ويصدقه المؤمنون، إنه الإيمان الذي يتجاوز حجب الغيب فيجعلها كأنها شهادة. إنه الاعتزاز بالله سبحانه والاعتماد عليه، إنه التوكل على الله الذي افتقدناه في أيامنا هذه، وصار اعتمادنا وتوكلنا على الأسباب المادية والمحسوسة، إنها الثقة بالله وبنصره، والتي صارت عند المسلمين اليوم متعلقة بالدرهم والدينار والقوى المادية البحتة أكثر من تعلقها بالمولى الكريم الذي عنده خزائن كل شيء وبيده مفاتيح كل شيء.
وبعد أن تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، أقبلت قريش في أربعة آلاف، حتى نزلت بمجتمع الأسيال، وأقبلت غَطَفَان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا إلى جانب أحد. ونزلت طائفةٌ منهم في أعالي أرضِ المدينة (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا). إيمانًا بالله واستسلامًا وانقيادًا لأمرِه وطاعةً لرسوله، وهذا هو حال المؤمنين الصادقين الموعودِين بالنصر، لا تزيدهم الشدائدُ إلاّ إيمانًا وازديادًا في الطّاعات وتمسُّكًا بأمرِ الله وحُكمِه، وتشبُّثا بدينهِ حتى يلقوا ربَّهم، فليس النّصر هو السلامةُ والدَّعَة والمتاع بزُخرُف الدّنيا ولو في حمأةِ المهانة، بل النّصر هو الثباتُ على المبادِئ وعجزُ العدوّ عن سَلبِ المؤمِنِ دينَه وإن آذاه في بدنه أو ماله. وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش، (وَإِذ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا). وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معَه من المسلمين فأسنَدوا ظهورَهم على جبل سَلع ووجوهَهم نحو العدوّ، بينهم الخندَق، وجعل النساءَ والذراري في آطامِ المدينة وحصونها. ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لم يكونوا مستعدين له حينما خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة -كما قالوا- مكيدة ما عرفتها العرب، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأسا. وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة ضعيفة؛ لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين وكان شغلهم الشاغل رشق المشركين بالنبل، حتى لا يجترئوا على الاقتراب من الخندق أو اقتحامه. والحديث أيها الإخوة عن غزوة الأحزاب وما جرى فيها من أحداث لم ينته، ولعل أن يكون للحديث بقية في الجمعة المقبلة إن شاء الله - غزوة الأحزاب(3) - . أقول هذا القول وأستغفر الله


http://shamkhotaba.org