قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا).
عباد الله : كنا قد ذكرنا في لقائنا الماضي كيف تحزب المشركون (1) لقتال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تصدى لذلك بحفر الخندق الذي فاجأ المشركين. وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة ضعيفة؛ لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، وكان شغلهم الشاغل رشقَ المشركين بالنبل، حتى لا يجترئوا على الاقتراب من الخندق أو اقتحامه. ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعض الصلوات، فعن جابر رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش. فقال: يا رسول الله، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا والله ما صليتها)، قال: فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بُطْحَان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب. وقد استاء النبي صلى الله عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين، فقال: (ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس).
الله أكبر، يتحسر على فوات وقتها، وهم معذورون يجالدون العدو، ويذودون عن حياض الدين، فعجبًا لمن يقرع النداء مسامعه في كل حين، فيبقى حبيس الكسل والغفلة، معرضًا عن نداء ربه، منشغلاً بملذات الدنيا وشهواتها.
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوى في ترقب نتائج الحصار، فإن ذلك لم يكن من شيمهم، فخرجت منهم جماعة فيها عمرو بن عبد وُدّ، فتَيَمّمُوا مَكَانًا ضَيّقًا مِنَ الْخَنْدَقِ فَاقْتَحَموه، فنادى عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدّ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَقَامَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ مُقَنّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ: أَنَا لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ، فَقَالَ: (إنّهُ عَمْرٌو، اجْلِسْ)، وَنَادَى عَمْرٌو: أَلا رَجُلٌ! -يُؤَنّبُهُمْ وَيَقُولُ- أَيْنَ جَنّتُكُمُ الّتِي تَزْعُمُونَ أَنّهُ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ دَخَلَهَا، أَفَلا تُبْرِزُونَ لِي رَجُلا؟ فَقَامَ عَلِيّ، فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ: (اجْلِسْ إنّهُ عَمْرٌو)، ثُمّ نَادَى الثّالِثَةَ وَقَالَ: وَلَقَدْ بُحِحْت مِنَ النّدَا ءِ بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ؟
وَوَقَفْتُ إذْ جَبُنَ الْمُشَـ جَّعُ مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَكَذَاك إنّــي لَمْ أَزَلْ مُتَسَرّعًــا قَبْــلَ الْـهَزَاهِـــزْ
إنّ الشّجَاعَةَ فِي الْفَتَى وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَقَامَ عَلِيّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا لَهُ، فَقَالَ: (إنّهُ عَمْرٌو)، فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ عَمْروًا. فَأَذِنَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَمَشَى إلَيْهِ عَلِيّ، حَتّى أَتَاهُ وَهُوَ يَقُولُ:
لا تَعْجَلَنّ فَقَدْ أَتَا ك مُجِيبُ صَوْتِك غَيْرُ عَاجِزْ
ذو نِيّةٍ وَبَصِيرَةٍ وَالصّدْقُ مُنْجِي كُلّ فائِزْ
إنّي لأَرْجُو أَنْ أُقِـ ـيمَ عَلَيْك نَائِحَة الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نجْلاءَ يَبْـ ـقَى ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَلِيّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ مَنَافٍ؟ قَالَ: أَنَا ابْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: غَيْرَك يَا ابْنَ أَخِي مِنْ أَعْمَامِك مَنْ هُوَ أَسَنّ مِنْك، فَوَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك، فَقَالَ لَهُ: يَا عَمْرُو إنّك قَدْ كُنْت عَاهَدْت اللّهَ أَلا يَدْعُوَك رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى إحْدَى خَلّتَيْنِ إلا أَخَذْتهَا مِنْهُ، قَالَ لَهُ: أَجَلْ، قَالَ لَهُ عَلِيّ: فإِنّي أَدْعُوك إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَإِلَى الإِسْلامِ، قَالَ: لا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، قَالَ: فإِنّي أَدْعُوك إلَى النّزَالِ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ يَا ابْنَ أَخِي؟ فَإِنّي أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَك، فَقَالَ لَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ: وَلَكِنّي وَاَللّهِ لا أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَك، فَغَضِبَ، فسَلّ سَيْفهُ كَأَنّهُ شُعْلَة نَارٍ، ثمّ أَقبَلَ نحْوَ عَلِيّ مُغْضَبًا، فاسْتقبَلَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَضَرَبَهُ عَلَى عَاتِقِه فَسَقَطَ وَثارَ الْعَجَاجُ، وَسَمِعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ التّكْبِيرَ، فَعَرَفَ أَنّ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَدْ قَتَلَهُ. ثمّ أَقْبَلَ علي نَحْوَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُتَهَلّلٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: يا أبا الحسن، هَلا سَلَبْته دِرْعَهُ؛ فَإِنّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ دِرْعٌ خَيْرٌ مِنْهَا، فَقَالَ: إنّي حِينَ ضَرَبْته اسْتَقْبَلَنِي بِسَوْأَتِهِ؛ فَاسْتَحْيَيْت ابْنَ عَمّي أَنْ أَسْتلِبَهُ، ثم قَالَ:
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ وَنَصَرْتُ رَبَّ مُحَمّدٍ بِصَوَابي
فَصَدَدْتُ حِينَ تَرَكْتُه مُتَجَدّلا كَالْجِـذْعِ بَيْـنَ دَكَـادِكٍ وَرَوَابِـي
وَعَفَفْتُ عَنْ أَثْـوَابِهِ وَلَوْ أَنّنِـي كُنْت الْمُقَطّـرَ بَزَّنِـي أَثْوَابِـي
لا تَـحْسَبـنّ اللّهَ خَاذِلَ دِينِــهِ وَنَبِيّــهِ يَــا مَعْشَـرَ الأَحْـزَابِ
وفي هذه الأثناء خرج عدو الله كبير مجرمي يهود بني النضير حُيَيّ بن أخطب حتى أتى بني قُرَيظة، وكانوا قد وادعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوه، فما زال بهم حتى نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا صار المسلمون بين فكَّين، وأصبحوا في قبضة عدوّين، جيوش المشركين أمامهم، وبنو قُرَيظة خلفهم. واشتدت الأزمة على المسلمين، وصاروا كما قال الله تعالى: (إِذ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا)، وجعل المنافقون يسخرون ويستهزئون ويجهرون بالحقد ويقولون: كان محمدٌ يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! وهكذا أصبح الأمر شديدًا وحرجًا على المسلمين، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخطيط لمجابهة هذا الظرف الراهن، فاستشار سعد بن عبادة وسعد بن معاذ رضي الله عنهما في أن يصالح غَطَفَان على ثلث ثمار المدينة مقابل أن ينصرفوا ويعودوا، فأجاباه قائلَين: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعًا وطاعة، وإن كان شيئا تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه؛ لقد كنا وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرًى أو بيعًا، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا إليه، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف. وصوَّب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، وقال: (إنما هو شيء أصنعه لكم؛ لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة). وفي خِضَمّ هذه الابتلاءات، وفي قلبِ الحِصارات، جاءَ نصر الله من فوقِ سبع سموات، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)، فبعث الله تعالى ريحًا شديدة في ليلةٍ شاتية باردة مظلِمة، فجعلت تقلِب القدورَ، وتطرح الآنية، وتقلب عليهم الحِجارة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلّي، ويدعو ويقول: (اللهمّ منزِلَ الكتابِ، سريع الحساب، اهزِم الأحزابَ، اللهمّ اهزِمهم وزلزلهم).
يقول حذيفة رضي الله عنه: لقد رأيتُنا ليلةَ الأحزاب والأحزاب فوقَنا، وقريظةُ اليهود أسفَل منّا، نخافهم على ذرارِينا، وما أتَت علينا قطّ ليلةٌ أشدّ منها ظلمةً ولا أشدّ ريحًا، في أصواتِ ريحها أمثالُ الصواعق، وهي ظلمةٌ ما يرى أحدُنا أصبعَه -إلى أن قال: فسمعتُ المشركينَ يقولون: الرحيلَ الرحيلَ لا مُقام لكم، وإذا الريحُ في عسكرهم، فوالله إني لأسمع صوتَ الحجارة في رحالهم وفُرشِهم، والرّيح تضربهم بها. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا). وتفرّق الأحزاب، وعادَت قريش كما عادَت غطفان لم ينالوا خيرًا، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (لن تغزوَكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنّكم تغزونهم). وهكذا كان حتى فتَح الله مكّةَ. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بعد: (لا إله إلا الله وحدَه، صدق وعدَه، ونصر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزم الأحزابَ وحدَه، فلا شيء بعدَه). أما يهود بني قريظة الذين نقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث عما حل بهم سيكون في الخطبة المقبلة إن شاء الله. أقول هذا القول وأستغفر الله .