1- موائد ربَّانيَّةٌ
2- مقاصد اجتماعيَّةٌ
مقدمة:
إنَّ صباحنا هذا اليوم يختلف عن غيره مِن الصّباحات، وإشراق شمس اليوم مختلفٌ أيضًا عن إشراقٍ فيما سواه؛ إذ الوجوه فيه مستبشرةٌ، والنّفوس مبتهِجةٌ، والفرح يعمّ الصّغار والكبار، والسّرور يغمر صدور عباد الله أجمعين، فمِن أناسٍ أكرمهم الله جل جلاله بأن أفاضوا ليلة أمسٍ مِن صعيد عرفاتٍ، وقد تجلّى عليهم ربنا بالمغفرة والرّحمات، وباهى بهم أهل السّماء، إلى أناسٍ شركوهم في الأجر -إن شاء الله- سارت قلوبهم مع ظعون الظّاعنين، وسرَت أرواحهم في رياحين البيت العتيق، لكنّ رحمة الله أوسع وأشمل؛ فكما جعل لأهل الموقف خصوصيّةً فقد شرع لنا في هذه الأيّام مِن الفرح والسّرور وكذلك مِن الطّاعات والقُربات ما تبتهج به نفوس الصّالحين، وتقرّ به عيون عباد الله المتقين؛ فالعيد وأيامه موائد ربّانيّةٌ ومقاصد اجتماعيّةٌ.
1- موائد ربَّانيَّةٌ
قد شرع لنا الشّارعُ الحكيم، وسنَّ رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في هذه الأيّام عباداتٍ وطاعاتٍ وقرباتٍ يُسارع إليها المقبلون إلى الله، وتتشوّف إليها نفوس الطّامعين بالأجر والثّواب، الخائفين مِن الحوبة والعقاب، فهي أعمالٌ قليلةٌ، غير أنّ ثوابها عند الله كبيرٌ، وكذلك كلّ موائد الرحمن، ومنها:
الأضحية: سنة أبينا إبراهيم عليه السلام {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصّافّات: 107].
فهي سنّةٌ مستحبّةٌ عند جمهور العلماء، ومنهم مَن قال بوجوبها لمَن ملك نِصابًا زائدًا عن قوّته وأثاثه، يعني لمن بلغ حد اليَسار عُرفًا، وممّا ورد فيها: أنّها سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا).
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى، وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا".
وممّا ورد فيها أيضًا: ما جاء عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا).
البركة: عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ".
فقد دلّ الحديث على أنّ لهذا اليوم بركةً خاصةً تُرتجى، وطهارةً تُطلَب، وخير ما تُطلب به بركته وطهارته هو أن نطلبها بالتّكبير والدّعاء، وذلك أنّ أهل الجاهليّة كانوا يذبحون لطواغيتها، فجعلوا التّكبير استشعارًا للذّبح لله تعالى، حتّى لا يُذكر في أيّام الذّبح غيره.
ولذا خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيّام بقوله: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ).
وفي بعض الرّوايات زيادة: (وَذِكْرٍ لِلهِ).
2- مقاصد اجتماعيَّةٌ
إن عيدنا -نحن السّوريين- هذا العام مختلفٌ عمّا قبله؛ فكم مِن غائبٍ كانت تمنعه مِن العودة أفرُع المخابرات، وتذاكر المطارات، وإلى ما هنالك ممّا تعرفون، قد عاد اليوم ليحضر العيد بيننا، وآبَ مِن غُربته ليشاركنا هذه المائدة الرّبّانيّة العظيمة؛ لذا فنستطيع القول: إنّ مقاصد العيد الاجتماعيّة أحقّ ما تكون في هذا العيد، لاجتماع الأحباب وعودة الغُيَّاب، وهذه المقاصد لا تنفكّ ولا تبتعد عن تلك الموائد الّتي ذكرناها، وإنّما هي نابعةٌ مِن رُوح الشّريعة الغرّاء، ومنها:
التّكافل: فالعيد موسمٌ لزيارة الأحباب، ومصافحة القلوب، ومراعاة أحوال الفقراء، وتفقّد المعوزين مِن اليتامى والأرامل والمساكين، وهذا يتجلّى في سنّة الأضحية، كما يتجلّى في صلة الأرحام واجتماع النّاس، ويظهر بذلك مصداق حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم: عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
تربية النفس على البذل والعطاء: ويظهر ذلك في الأضحية وغيرها مِن الصّدقات في هذا اليوم الأغرّ (العيديّات)، فقال ربّنا سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
فإنّه موسمٌ للعطاء، وبه تكون النّفس سخيّةً أكثر ممّا في غيره.
التسليم لأمر الله تعالى والتوكل عليه حق التوكل: وهذا المقصد نأخذه إشارةً مِن قصّة الأضحية الأُولى، وكيف أنّ إبراهيم عليه السلام ما تلكّأ في أمرٍ علم أنّ ربّه سبحانه أراده منه، أو أمره به، وتبعه في ذلك ولدُه إسماعيل عليه السلام؛ فكان التّسليمُ لأمر الله الغرسَ الّذي غرسه إبراهيم عليه السلام في ولده، ويا نِعم الغرس! قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصّافّات: 102-107].
خاتمةٌ:
إنَّ أربح التَّجارات وأعظم البركات في التّعامل مع الله سبحانه وفي الإقبال على موائده إقبالَ الطّامعين بثوابه، الرّاجين قبول أعمالهم وقُرباتهم، وإنّ الخسار كلّ الخسار في تضييع هذه النّفحات، والبَوار كلّ البَوار في تفويت هذه السّاعات.
ثمّ إنّه -عباد الله- لكلّ زمانٍ عبادةً تختصّ به مع سائر العبادات العامّة، وإنَّ أعظم عبادةٍ هي ما خلصت فيه النّيّة؛ لذا فيحسُن أن نختم كلامنا بالتّذكير بهذا الأمر الخطير؛ إذ عليه مدار الأمر كلّه.