1- الوقت هو الحياة
2- أبناؤنا والإجازة الصَّيفيَّة
مقدمة:
إنّ اللّيل والنّهار يبليان كلّ جديدٍ، ويقرّبان كلّ بعيدٍ، يطويان الأعمار، ويشيّبان الصّغار، ويفنيان الكبار، وهذا مؤذنٌ بأنّ هذه الدّنيا دار عبورٍ لا دار قرارٍ، وإنّ في اختلاف اللّيل والنّهار لعبرةً، وفي توالي الأيّام وتصرّم الأعمار لتذكرةً {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النّور: 44].
فصاحب البصيرة النّيّرة يدرك حكمة الله في تعاقب الشّهور والأعوام، وفي سرعة مضيّ اللّيالي والأيّام، الّتي تمرّ كأنّها حلمُ نائمٍ، وخيالٌ زائلٌ، فبالأمس كان النّاس يُعدّون العدّة للسّفر إلى الدّيار المقدّسة لأداء مناسك فريضة الحجّ، أحد أركان الإسلام، وها هُم اليوم رأيناهم عائدين بعد تلك الرّحلة الرّوحيّة الإيمانيّة الّتي مرّت كالبرق، وبقي أثرها وثوابها، وقبل فترةٍ وجيزةٍ -أيضًا- كنّا نتحدّث عن افتتاح المدارس، وإقبال الطّلّاب على مقاعد الدّراسة، لينهلوا مِن معين العلم والأخلاق، ولكن سرعان ما مضى العام الدّراسيّ، وأغلقت المدارس أبوابها؛ لتمنح الطّلّاب إجازةً صيّفيّةً كفترة استراحةٍ وجيزةٍ ليجدّد الطّلّاب نشاطهم وهممهم بعدها، وهكذا نرى كلّ الأيّام والأعوام مطايا نمتطيها إلى الدّار الآخرة، تنقلنا مِن دار العمل والكدح، إلى دار الحساب والجزاء ،ليقرأ الإنسان يوم القيامة ديوانه الّذي سطّره بنفسه في هذه الأيّام واللّيالي {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13-14].
ولذا فإنّ الأوقات الّتي تمرّ بالإنسان فُرصٌ ثمينةٌ، وكنوزٌ عظيمةٌ، إذا ما مضت لن تعود، بل تُحسب مِن عمره، وتكتب له أو عليه على حسب عمله فيها، فالسّعيد مَن اغتنمها قبل فواتها، والخاسر مَن ضيّعها، وغفل عن قيمتها:
فالوقت أغلى مِن الياقوت والذّهبِ والأحمق الغرّ مَن أمضاه في اللّعبِ
تراه مستحسرًا يوم الحساب وقد ساقوه للنّار ذات اللّفح واللهبِ
وقيل:
دقّات قلب المرء قائلةٌ له إنّ الحياة دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذِّكر للإنسان عمرٌ ثاني
1- الوقت هو الحياة
إنّ مِن أعظم نِعم الله على عباده أن أكرمهم بالأوقات ليعبدوه فيها، فيتقربوا إليه زُلفى، فالوقت أثمن ما يملكه المسلم، لأنّه يمرّ سريعًا ولا يمكن استرجاعه، يحافظ عليه العقلاء، ويهمله الأغبياء، ولعِظم أهمّيّته ومكانته، وضرورة استثماره وحفظه، فقد أقسم الله العظيم به في كتابه الكريم، والعظيم لا يقسم إلّا بعظيمٍ {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2].
وقال سبحانه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [اللّيل: 1-2].
ولقد حثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على اغتنام الأوقات، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ).
وأخبر أنّ الخاسر حقًّا مَن خسر وقته، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالْفَرَاغُ).
وليس يتحسّر أهل الجنّة على شيءٍ إلّا على ساعةٍ مرّت بهم لم يذكروا الله فيها، وإنّ تقارب الزّمان علامةٌ على قرب السّاعة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ).
ولقد حرص السّلف الصّالح على اغتنام دقائق أوقاتهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ).
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ رحمه الله قَالَ: قَالَت امْرَأَةُ عُثْمَانَ حِينَ أَطَافُوا بِهِ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ: "إِنْ تَقْتُلُوهُ أَوْ تَتْرُكُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي رَكْعَةٍ يَجْمَعُ فِيهَا الْقُرْآنَ".
وقال القاضي إبراهيم الكوفيّ: "مرض أبو يوسف، فأتيته أعوده، فوجدته مغمًى عليه، فلمّا أفاق قال لي: يا إبراهيم، ما تقول في مسألة كذا؟ قلت: في مثل هذه الحالة؟ قال: لا بأس بذلك، ندرس، لعلّه ينجو به ناجٍ، ثمّ قمت مِن عنده، فما بلغت باب داره، وإذا هو مات".
هكذا كان الصّالحون مع أوقاتهم، فهلّا اقتدينا بهم، وأعددنا الإجابات السّديدة.
2- أبناؤنا والإجازة الصَّيفيَّة
إنّ الإجازة الصّيفيّة نعمةٌ كبرى تأتي بعد طول دراسةٍ وجهدٍ، وبذلٍ وعطاءٍ، فالنّفس البشريّة بحاجةٍ إلى ترويضٍ وترويحٍ، واستراحةٍ مِن عناء السّهر والمذاكرة، ضمن ما أحلّ الله وأباح، وما الإجازة إلّا جزءٌ مِن أعمارنا، والمؤمن الحقّ إذا فرغ مِن أمور الدّنيا وأشغالها، وقطع علائقه معها، نصب نفسه للعبادة، وقام إليها نشيطًا مخلصًا، امتثالًا لقول ربّنا عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشّرح: 7-8].
وهنا تقع المهمّة الكبرى على عاتق الآباء؛ لتوجيه الأبناء نحو استغلال الأوقات فيما يرضي الخالق، ويعود على العباد بالنّفع، مِن خلال الأنشطة الّتي تنمّي قدراتهم ومهاراتهم، وتعزّز شخصيّاتهم، مع الحرص على تحقيق التّوازن بين التّعلّم والتّرفيه، فصلاح الذّريّة واستقامتهم على أمر الله، وتحلّيهم بالأخلاق السّامية، واشتغالهم بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، سببٌ لسرور الآباء والأمّهات {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74].
وقد سُئل الحسن عن هذه الآية، فقيل: يَا أَبَا سَعِيدٍ فِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْآخِرَةِ؟ قَالَ: "فِي الدُّنْيَا يَرَى الرَّجُلُ مِنْ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ عَمَلًا صَالِحًا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ".
ولأجل ذلك اهتمّ سلفنا الصّالح بالصّغار اهتمامًا عظيمًا، تعليمًا وتربيةً، وتوجيهًا ورعايةً، "مَرُّوا عَلَى الْأَعْمَشِ وَحَوْلَهُ فَتَيَانٌ، فَقَالُوا: انْظُرُوا إِلَى الْأَعْمَشِ قَدْ جَمَعَ حَوْلَهُ الصِّبْيَانَ، فَقَالَ: رُدُّوهُمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ يَحْفَظُونَ عَلَيْكُمْ دِينَكُمْ".
فكانوا يعلّمونهم الأدب والعلم، ويزرعون فيهم الهمم العالية، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِبَنِيهِ: "أَيْ بَنِيَّ هَلُمُّوا فَتَعَلَّمُوا، فَإِنَّكُمْ تُوشِكُوا أَنْ تَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ، وَإِنِّي كُنْتُ صَغِيرًا لَا يُنْظَرُ إِلَيَّ، فَلَمَّا أَدْرَكْتُ مِنَ السِّنِّ مَا أَدْرَكْتُ جَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونِي، وَمَا أَشَدَّ عَلَى امْرِئٍ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ فَيَجْهَلَهُ".
فالمطلوب حفظ الأوقات مِن الهدر، والأولاد مِن الضّياع، والأخلاق مِن الانهيار، وبمثل هذا ينبغي أن يرشد الآباء الأبناء، ويرفعوهم عن دنايا الأمور، ويربؤوا بهم عن رديء الأخلاق، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا).
فمِن أعظم المصائب ضياع الأوقات في العطالة والبطالة، ومِن أفدح الكوارث مصاحبة الأشراء وقرناء السّوء، وأعظم شيءٍ تُقضى فيه أوقات الفراغ تعلّم العلم وتعليمه، وإلحاق الأولاد في حلقات التّحفيظ، فإنّها مِن أعظم وسائل نفعهم، وحفظ أوقاتهم وأخلاقهم، ولا مانع مِن أن يتعلّم بعض الأولاد حرفةً في صناعةٍ ونحوها، فالعمل طاعةٌ وعبادةٌ، وفيه نفعٌ للفرد والمجتمع، وذلك خيرٌ مِن القعود والكسل.
خاتمةٌ:
الأيّام تتسارع، والأزمنة تتلاحق، وكلّ شيءٍ مِن حولنا يذكّرنا بقيمة الوقت الّذي نعيشه، كطلوع الشّمس وغروبها، ومنازل القمر وتقلّباته، وحركة الكون والكواكب، واختلاف اللّيل والنّهار، وهذا يوجب علينا أن نغتنم أعمارنا بما يفيدنا وينفعنا قبل أن تنتهي حياتنا، فنأسف على ماضينا، كما ذكر ربّنا في كتابه عن أهل الحسرة، فقال عز وجل: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24].
فالعاقل مَن يعرف قيمة وقته وشرف زمانه، فيقضي أوقاته في خيري الدّنيا والآخرة، حتّى لا يندم على لحظات عمره وأيّامه، فلقد أخبرنا ربّنا عن حسرة الكفّار في النّار على ضياع أوقاتهم {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].
فنحن مدعوّون للعمل واغتنام الأوقات قبل حلول العوائق، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا).
ولنحذر التّسويف والغفلة، فهما سلاحان ماضيان مِن أسلحة الشّيطان الّتي تفتك بالإنسان، فالمبادرة المبادرة باغتنام أوقاتنا في طاعة مولانا، وتقديم ما ينفع أمّتنا قبل انتهاء آجالنا، والحذر الحذر مِن العجز والكسل، فإنّهما آفةٌ مدمّرةٌ، وجديرٌ بنا ونحن نتكلّم عن أهمّيّة الوقت أن نتذكّر أنّنا في نهاية عامٍ هجريٍّ مضى مِن حياتنا، وطُويت صحائفه بما فيها مِن حسناتٍ وسيئاتٍ، وأصبحنا على أبواب عامٍ هجريٍّ جديدٍ، ولذا فنحن مطالبون بوقفة محاسبةٍ عمّا مضى، وإعداد العدّة، وتجهيز الخطّة للعمل الدّؤوب للعام المقبل، لنملأ الأوقات في خدمة الدّين والدّنيا.
الكنوز الثمينة في اغتنام العطلة الصيفيّة.