قال تعالى: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا).
عباد الله: كنا قد ذكرنا في خطب غزوة الأحزاب (1) ، (2) ، (3) كيف أن قبائل العرب قد رمت المسلمين عن قوس واحدة بتدبير اليهود، فحمى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بالخندق، وفي ساعة الحصار الحرجة غَدَرَ يهودُ بني قريظة ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم. ومما زاد الأمر سوءا أن يهود بني قريظة بعد أن نقضوا عهدهم أرسلوا إلى حصون المسلمين والتي فيها النساء والأطفال ليروا هل أبقى النبي صلى الله عليه وسلم حماة لهم في هذه الحصون أم لم يبقِ أحدا، وكانوا يريدون من ذلك الاستيلاء على أموال المسلمين ونسائهم وأطفالهم.
وهذا ما يدندن حوله أعداء الله اليوم من دهم للبيوت في غيبة أصحابها، وسلب ونهب ممتلكاتها، وما يقوم به خبثاؤهم من اختطاف للفتيات واغتصابهن وقتلهن، ليجبروا المسلمين على التخلي عن حقوقهم وثوابتهم ومطالبهم، وهيهات هيهات من ذلك، وما علموا أن ذلك يزيدهم ثباتا وإصرارا.
فبينما يهودي يطوف بالحصن إذ رأته عمة النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها، فما كان منها إلا أن نزلت عليه بعمود، فضربته أولى وثانية وثالثة حتى قتلته، ثم احتزت رأسه، ثم طلعت به إلى أعلى الحصن، ثم رمت برأسه فإذا هو يتدحرج بين أرجل اليهود، فقال قائل اليهود: قد علمنا أن محمدا لم يترك النساء من غير حماة. فرضي الله عن صفية، فقد كانت أول امرأة قتلت مشركا في الإسلام؛ فرحمها الله وأخرج من أصلاب هذه الأمة نساء كتلك المرأة، بل رجالا كصفية.
فلوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ ذَكَرْنَا لفُضِّلَتِ النِّسَاءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٌ وما التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
عند ذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ إلى بني قريظة ليستطلع الأمر، وليتأكد هل نقض بنو قريظة عهدهم أم لا! فلما وصل إليهم استقبلوه أسوء استقبال؛ حيث أنهم سبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونالوا منه، وقالوا له: مَنْ رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فحاول سعد أن يذكرهم بعقدهم وعهدهم فتصامُّوا عنه، فلما خوَّفهم عقبى الغدر، وذكر لهم مصير بني النضير شتموه بأقبح الشتائم. وأصاب المسلمين القلق حينما عاد سعد بن معاذ يحمل هذه الأنباء، فعظُم الخطب، واشتدَّ الكرب، وضاق الحال بالمسلمين، وزاد الخوف على الأنفس وعلى النساءِ والذراري في المدينة، قال تعالى: (إِذ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا).
واستمرَّ الحال على ذلك قريبًا من الشّهر.
ولما كان الخندق حائلاً بين الجيشين لم يجرِ بينهما قتال مباشِر أو حربٌ دامية، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة بالسهام. وفي هذه المراماة قتل ستة من المسلمين، وعشرة من المشركين. ورُمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكْحَل، فدعا سعد قائلا: (اللّهم إنك تعلم أنه ليس أحدٌ أحبُّ إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللّهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لها حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجُرْها واجعلْ موتتي فيها، ولا تمتني حتى تُقِرَّ عيني مِنْ بنِي قريظة).
وهذا الدعاء من سعد يصور مبلغ ما انطوت عليه قلوب المسلمين من غيظ لخيانة اليهود وتمزيقهم المعاهدة القائمة.
لقد جمع اليهود مع الغدر اللؤم والخسة، فلقد تبين أن حرص بني قريظة -في الأول- على التزام العهد إنما كان خوفاً من عواقب الغدر فقط، فلما رأوا أن المسلمين قد أحيط بهم من كل جانب انضموا إلى المشركين المهاجمين. إنها محاولة متعمدة للإجهاز على هذه الأمة ودينِها، وتسليمِها إلى من يقتل رجالها ويسترق نساءَها ويبيع ذراريها في الأسواق، وإلا فماذا يستطيع الإنسان أن يفهم من هذه الخيانة؟ وهكذا هم اليهود في كل زمان يتآمرون على الإسلام وأهله مع كل أحد، حتى أنهم يتآمرون مع بعض حكام المسلمين ضد شعوبهم كما هو في هذه الأيام واضح جلي، لكل ذي عقل سوي.
وفي خِضَمّ هذه الابتلاءات، وفي قلبِ الحِصارات، جاءَ نصر الله من فوقِ سبع سموات، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)، فبعث الله تعالى ريحًا شديدة في ليلةٍ شاتية، باردة مظلِمة، فجعلت تقلِب القدورَ، وتطرح الآنيةَ، وتقلب عليهم الحِجارة. فارتحل الأحزاب، وانفك الحصار وعاد الأمان، وأهمُّ من ذلك أن الإيمان الصادق نجح في هذه المحنة، وهتف النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)، وقال: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا).
إن أهم درس من دروس غزوة الأحزاب -أيها المؤمنون- هو أن العدو مهما جمع عدّته وعتاده، ومهما ضيق على المسلمين الحصار، ومهما ازداد عددُه، وكثر سوادُه، ومهما قلَّ عدد المسلمين، وضعفتْ قوتهم، وأحيطَ بهم، فإن الأمر كله لله القوي العزيز وبيده سبحانه، وهو القادر في أية لحظة على إهلاك العدو وإضعافه بجنوده الكثيرة التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ)، (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).
ولهذا -أيها الإخوة- فإن النصر لا ينتظر تكافؤ العدد والعدة الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم، فيكفي المؤمنين :
- أن يعدوا ما استطاعوا من القوى
- وأن يتقوا الله
- وأن يثقوا بنصره
- ويثبتوا ويصبروا، قال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا).
يقول عبد الله بن رواحة لأصحابه في غزوة مؤتة: (والله، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة).
لكن أول عُدَدِ النصر والاستعداد هو الرجوع إلى الله والالتصاق بركنه الركين، والانتصار على النفس وشهواتها، ودحر الشيطان وأعوانه.
والأعداء ما كانوا أعداء إلا لمخالفتهم لأمر الله، فإذا اشترك الفريقان في المعصية والمخالفة فليس هناك مزية، ولماذا ينصرنا الله عليهم؟
إن المؤمن حينما يعادي ويعارك، وحينما يقاتل ويجاهد فهو إنما يعادي لله، ويعارك لله، ويجاهد في سبيل الله، ويقاتل بقوة الله.
وإن من حكمة الله في الابتلاء أن تستيقظ النفس، ويرق القلب بعد طول غفلة، فيتوجه الخلائق إلى ربهم يتضرعون إليه، ويطلبون رحمته وعفوه.
وكفى بالتضرع -أيها المسلمون- دليلاً على الرجوع إلى الله، ولجوءًا إليه، وأملاً في الفرج من عنده، وحِرْزًا واقيًا من الغفلة؛ فلا يُرجَى في الشدائد إلا الله، ولا يُقصَد في المُلِمّات سواه، ولا يُلاذ إلا بجنابه وحماه، ولا تُطلَب الحوائج إلا من بابه. لا سند إلا سنده، ولا حول ولا قوة إلا به، لا ملجأ منه إلا إليه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، هو المتصرف في الملك ولا معقب لحكمه.
نعم أيها الإخوة، في البلاء يتجلّى توكل المتوكلين، ومن وجد في قلبه اعتمادًا على غير ربه فليراجع إيمانه. يقول سعيد بن المسيب: "التوكل على الله جماع الإيمان". وأصدق من ذلك وأبلغ قول الحق تبارك وتعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ).
فاتقوا الله أيها المؤمنون، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) ، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
فسنّة الله جاريةٌ قديمًا وحديثًا، وغربة الدين وضَعف المسلمين لا ينبغي بحالٍ أن تقودَ إلى الإحباط وخَور النّفوس، بل يجب أن تكونَ دافعًا للصبر والبذل والثّبات حتى يأذنَ الله تعالى بالفَرَج. هذا من أهم دروس غزوة الأحزاب أما يهود بني قريظة الذين نقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث عما حل بهم سيكون في الخطبة المقبلة إن شاء الله. أقول هذا القول وأستغفر الله