1- الأُمناء هم العُظماء
2- الأمانة واجب الجميع
مقدمة:
لقد أرشد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أمّته إلى الأخلاق الفاضلة، وحثّهم على التّحليّ بالصّفات الحميدة، فذكر أربع خصالٍ عظيمةٍ، مَن رُزقها كانت خيرًا له مِن الدّنيا وما فيها، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ).
فمِن بين هذه الخصال: أداء الأمانة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النّساء: 58].
قال الشّوكانيّ رحمه الله: "هذه الآية مِن أمّهات الآيات المشتملة على كثيرٍ مِن أحكام الشّرع، لأنّ الظّاهر أنّ الخطاب يشمل جميع النّاس في جميع الأمانات، فتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولًا أوليًّا، فيجب عليهم تأدية ما لديهم مِن الأمانات، وردّ الظُّلامات، وتحرّي العدل في أحكامهم، ويدخل غيرهم مِن النّاس في الخطاب، فيجب عليهم ردّ الأمانات أيضًا، والتّحريّ في الشّهادات والأخبار".
فالأمانة ينبوع السّعادة، ومصدر الفلاح، بها يثق النّاس بالمرء فيمنحونه أموالهم يتّجر بها، وأعمالهم يتصرّف فيها، ويجد الأمين المعونة على الشّدائد في كلّ وقتٍ، فهو مُقرَّبٌ إلى الله، مُنعّمٌ في أهله، مُحبّبٌ مِن النّاس، إن قال قُبل قوله، وإن طلب أُجيب إلى طلبه، فالنّاس واثقون مِن دِينه وأمانته، لأنّه لا يماطل في حقٍّ، ولا يسوّف في وعدٍ، ولا يغدر في عهدٍ، وبهؤلاء ترتقي الأمّةٌ، وتحظى بالمكانة المرموقة العالية، وتزدهر التّجارات، وتروج الصّناعات، ويعيش النّاس في جوٍّ يسوده الأمان، وتغمره السّكينة والاطمئنان، ولقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنّ أمّته لا تزال بخيرٍ مالم ترَ الأمانة الّتي تُؤتمن عليها غنيمةً حلالًا لها، فعندئذٍ ينزل البلاء، ويعمّ الشّقاء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا اتُّخِذَ الفَيْءُ دُوَلًا، وَالأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا... فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ، وَزَلْزَلَةً وَخَسْفًا وَمَسْخًا وَقَذْفًا وَآيَاتٍ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ).
وبهذا نعلم أنّ الأمانة ضروريّةٌ لأبناء المجتمع جميعهم، لا فرق بين عالمٍ وحاكمٍ، ولا بين موظّفٍ وتاجرٍ، ولا بين رجلٍ وامرأةٍ.
أدِّ الأمانةَ والخيانةَ فاجتنبْ واعدلْ ولا تظلمْ يطبْ لك مكسبُ
1- الأُمناء هم العُظماء
إنّ أداء الأمانة في نظر الإسلام مِلاك الأخلاق العالية، وقوام الشّمائل النّبيلة، وأصلٌ مِن أصول التّديّن الصّحيح، وشعبةٌ مِن شعب الإيمان الكامل، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَالَ: (لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ).
فهي مِن أهمّ التّكاليف شأنًا، وهي صفة المقرّبين {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشّعراء: 193].
وخُلُق المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشّعراء: 124-125].
وقد وُصِف بها موسى عليه السلام {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
وتمثّل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، فها هي القبائل مِن قريش لمّا اختصموا في شأن الحجر الأسود، رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: رضينا هذا الأمين، هذا محمّدٌ.
كما دعا إلى حِفظها ورعايتها، عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: "أخبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ: أَنَّ هِرَقْلَ قالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذا يَأمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، قالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ".
فكان قدوةً لأصحابه، فهذا أبو بكرٍ رضي الله عنه يقول: "أصدق الصّدق الأمانة".
ولمّا أُتِي عمرٌ بتاج كسرى وسواريه، جعل يقلّبه بعودٍ في يده ويقول: "والله إنّ الّذي أدّى إلينا هذا لأمينٌ"، فقال رجلٌ: يا أمير المؤمنين: أنت أمين الله، يؤدّون إليك ما أدّيت إلى الله، فإذا رتعت رتعوا، قال: "صدقتَ".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ. وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا).
وهكذا كانت الأمانة دليل الاستقامة، وعنوان العفّة والنّزاهة، قال الحسن البصريّ رحمه الله: "لا تستقيم أمانة رجلٍ حتّى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتّى يستقيم قلبه".
فيجدر بالمؤمن أن يعمل بدِينه فيفي له، ويؤدّي أمانته، ليحظى بأعظم المقامات.
2- الأمانة واجب الجميع
إنّ الأمانة في نظر دِيننا الحنيف واسعة الدّلالة، تشير إلى معانٍ عديدةٍ، وأمورٍ كثيرةٍ، مناطها شعور الإنسان بمسؤوليته الكبرى في كلّ أمرٍ يُوكَل إليه، وإدراكه الجازم بأنّه مسؤولٌ عنه أمام الله عز وجل، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ ومسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ ومسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مسؤولة عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ).
ولقد ذكر الله صفات المفلحين فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].
قال السّعديّ رحمه الله: "أي: مراعون لها، حافظون مجتهدون على أدائها، وهذا شاملٌ لجميع الأمانات الّتي بين العبد وربّه، كالتّكاليف السّريّة، والأمانات الّتي بين العبد وبين الخلق في الأموال والأسرار".
فالأمانة فضيلةٌ أثقلت كاهل الوجود، فلا ينبغي أن يُستهان بها {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72].
ولقد عظّم الله شأنها بكلّ أنواعها، قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: "القتل في سبيل الله كفّارة كلّ ذنبٍ إلّا الأمانة، وإنّ الأمانة الصّلاة والزّكاة، والغُسل مِن الجنابة، والكيل والميزان، والحديث، وأعظم مِن ذلك الودائع".
كما أنّ مِن أعظمها أمانة الولاية العامّة والخاصّة، فالسّلطان أمينٌ على الأمّة كلّها، على مصالحها الدّينيّة، ومصالحها الدّنيويّة، على أموالها فلا ينفقها في غير مصلحةٍ، كما يجب عليه تأدية الحقوق إلى أهلها، وإسناد الأعمال إلى مستحقّيها الأكفّاء لها، وحفظ أجسام النّاس وأموالهم، وصيانتها ممّا يؤذيها، وحفظ أسرار الدّولة، كما أنّ هناك أماناتٍ أخرى دونها، كأمانة الوزير في وزارته، وأمانة القاضي في محكمته، وأمانة الإنسان في أهله، حتّى إنّها تكون في الأموال والأعراض، والأجسام والأرواح، والمعارف والعلوم، والكتابة والإملاء، والشّهادة والقضاء، والنّصح والمشورة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ).
فيجدر بمَن قلّدهم الله مناصب لخدمة العباد أن يؤدّوها على أكمل وجهٍ، وأن يضعوا نصب أعينهم أنّهم فيما أُوكل إليهم مؤتمنون، وعمّا كُلّفوا به مسؤولون، عَنِ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يِستَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصْحِهِ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ).
خاتمةٌ:
أجْمِلْ بأن يتحلّى أفراد المجتمع جميعهم بخُلق الأمانة، كلٌّ بحسب وصفه ومكانته، فيشعر كلّ فردٍ بوجوب أداء الأمانة؛ ولو كان غيره خائنًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كَيْفَ أَنْتَ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ؟) قَالَ: وَذَاكَ مَا هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (ذَاكَ إِذَا مَرِجَتْ أَمَانَاتُهُمْ وَعُهُودُهُمْ، وَصَارُوا هَكَذَا)، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالَ: فَكَيْفَ تَرَى يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (تَعْمَلُ بِمَا تَعْرِفُ، وَتَدَعُ مَا تُنْكِرُ، وَتَعْمَلُ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَتَدَعُ عَوَامَّ النَّاسِ).
ولقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنّ رفع الأمانة علامةٌ مِن علامات السّاعة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)، قالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ).
فليؤدّ مَن اؤتمن أمانةً على أكمل وجهٍ، أيًّا كان نوع هذه الأمانة، وإن علم مِن نفسه العجز عن القيام بحقّها فليعتزل، ليسعد في الدّنيا، ويفوز في الآخرة، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا).