اختيار الله خير - الثلج والبرد ابتلاء ورحمة
الخطبة الرابعة ضمن سلسلة (الإيمان والحياة)
مقدمة:
تظهر قوة الإيمان في النكبات لا في الركعات، وعند الرزايا لا في الزوايا، قال الحسن البصري: ( استوى الناس في العاقبة فإذا نزل البلاء تباينوا) صيد الخاطر /216
لقد شاء الله تعالى بحكمته ورحمته أن يرسل على عباده هذه الموجة العاتية القاسية من الثلج والبرد والصقيع، ليختبر بها صبرهم وجهادهم، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) محمد 31
وحتى يرفع درجاتهم في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ، لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ» قَالَ أَبُو دَاوُدَ: زَادَ ابْنُ نُفَيْلٍ: «ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ - ثُمَّ اتَّفَقَا - حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى» رواه أبو داود وصححه الألباني /3090
فالله هو الذي يبسط هذه السُحُبَ في السماء كما يشاء، (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ ) الروم 48
وهو الذي يصيب بالبرد من يشاء ويصرفه عمن يشاء، ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ )(النور:4)
فلا رادَّ لأمره سبحانه، ولا معقِّبَ لحكمه، لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسأَلون.
وهو سبحانه أرحم بعباده من الأم بولدها، ولو شاء ما ابتلاهم، ولكنه سبحانه يبتلي من يحبُّ ومن في إيمانه صلابة ليضاعف أجورهم ويكفر عنهم من خطاياهم، روى ابن حبان وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الناس على قدر دينهم فمن ثَخُنَ دينُه اشتد بلاؤُهُ ومن ضَعُفَ دينُهُ ضَعُفَ بلاؤُهُ وإن الرجل ليصيبُه البلاءُ حتى يمشي في الناس ما عليه خطيئة) .رواه ابن حبان وغيره وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير / 993 - 486
عناصر الخطبة:
1 – الصبر على البلاء.
2- البرد وذكرى الآخرة.
3- من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.
4- إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون.
5- الثلج والبرد والريح من أسباب النصر.
6- الرضا عن الله: ( لا تكتب اسمك في سجلات الخائبين).
7- تحمُّلُ البرد في طاعة الله مما يرفع الله به الدرجات، ومما يختصم فيه الملأ الأعلى.
1- الصبر على البلاء:
ما مثل البلاء إلا كمثل الضيف ينزل عليك، فإذا رحبت بقدومه وتفقدت حوائجه مقدما له قِرى الصبر، دون أن يشكو اللسان ضجراً، أو ينقلب القلب تسخطاً، فيا لذة مدائحك على لسان الملائكة، ويا فرحة تسجيل وصفك بالكرم والجود في صحفهم،
وما أصدق قول القائل:
الصبر مثل اسمه في كلِّ نائبة لكن عواقبه أحلى من العسل
ومن هذه العواقب:
- (وَاللَّ) آل عمران 14 هُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ 6
- (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر 10
- (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل 96
- (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة 153
- روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (...وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) البخاري /1469
- وفي حديث ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: (وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) المعجم الكبير للطبراني / 11243
- روى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا) البخاري /5648
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن صحيح / 3414
- عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة). رواه الترمذي وصححه الألباني/ 2396
- عَنْ أَنَسِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ . وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ) رواه مسلم /2807
- عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم/2999
2- البرد وذكرى الآخرة:
إن المؤمن ليأخذ من من شدة ما يمر به في الدنيا من أحوالها وأكدارها وأزماتها مُعْتَبَرَاً لشدة يوم القيامة وكربه؛ فإن كرب القيامة ينسي شدة الدنيا وكربها، (يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )(عبس:35-37)
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشتَكَتِ النارُ إلى ربها ، فقالتْ : ربِّ أكلَ بعضي بعضًا ، فأذِنَ لها بِنَفَسَيْنِ:نَفَسٍ في الشتاءِ ونَفَسٍ في الصيفِ ، فأشدُّ ما تجدونَ من الحرِّ ، وأشدُّ ما تجدون من الزَّمْهَرِيرِ .) (البخاري/ 3260، ومسلم /617)
هذه النار عندما اشتكت إلى خالقها، والشكوى كانت من أنه قد أكل بعضها بعضاً، فكيف بالذي في داخلها؟ وكيف بمن يعذب فيها؟ وكيف بمن حكم الله عليه الخلود فيها؟ نسأل الله اللطف والسلامة.
قال تعالى:( لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاء وِفَاقًا)(النبأ 24-25-26).
وقال تعالى: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) (ص:57)
قال ابن عباس: "الغساق: الزمهرير البارد الذي يحرق من برده، وقال مجاهد: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده، وقيل: إن الغساق: البارد المنتن" أجارنا الله - تعالى - من جهنم بفضله وكرمه.
3- من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل:
إن المؤمن طالبُ جنة، ولا يرضى لما يبذلُ ثمناً دون الجنة، وهل تُنالُ الجنة بالراحة؟! إن النعيم لا يُدركُ بالنعيم
قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران 142
غمسةٌ في الجنة تنسي آلام العمر:
- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ) (رواه مسلم /2807)
4- إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون:
عن حذيفة رضي الله عنه: (أنَّ الناسَ تفرَّقوا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليلةَ الأحزابِ فلم يبقَ معه إلا اثنا عشرَ رجلًا فأتاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأنا جاثمٌ من النومِ فقال يا ابنَ اليمانِ قم فانطلق إلى عسكرِ الأحزابِ فانظر إلى حالِهم قلتُ يا رسولَ اللهِ والذي بعثَك بالحقِّ ما قمتُ لك إلا حياءً من البردِ ، قال انطلق يا ابنَ اليمانِ فلا بأس عليك من بردٍ ولا حرٍّ حتى ترجعَ لي فانطلقتُ حتى أتيتُ عسكرَهم فوجدتُ أبا سفيانَ يُوقِدُ النارَ في عصبةٍ حولَه وقد تفرقَ الأحزابُ عنه فجئتُ حتى أجلسَ فيهم فحسَّ أبو سفيانَ أنَّهُ قد دخل فيهم من غيرِهم فقال ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيدِ جليسِه قال فضربتُ بيدي على الذي عن يميني فأخذتُ بيدِه ثم ضربتُ بيدي على الذي عن يساري فأخذتُ بيدِه فلبثتُ فيهم هنيهةً ثم قمتُ فأتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو قائمٌ يصلي فأومأَ إليَّ أن ادْنُو فدنوتُ حتى أرسلَ عليَّ من الثوبِ الذي كان عليه ليُدفئني فلما فرغ من صلاتِه قال يا ابنَ اليمانِ اقعد ما خبرُ الناسِ فقلتُ يا رسولَ اللهِ تفرق الناسُ عن أبي سفيانَ فلم يبقَ إلا في عصبةٍ تُوقِدُ النارَ وقد صبَّ اللهُ تبارك وتعالى عليهم من البردِ الذي صبَّ علينا ولكنا نرجو من اللهِ ما لا يرجون)(رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 139 ورجاله ثقات.
إن الذي أصابنا من الثلج والبرد والصقيع قد أصاب عدونا مثله، فهم يألمون كما نألم، لكننا نتفوق عليهم بأن الله بعثه رحمة لنا، وبلاءً ونقمة عليهم.
5- الثلج والبرد والريح من أسباب النصر:
إن الثلج والبرد والمطر والريح جند من جنود الله تعالى، يرسله على المجرمين فيعاقبهم ويهزمهم ويرسله على المؤمنين فيثيبهم ويثبتهم، فقد أهلك الله عاداً بالريح، بينما نُصِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالصَّبَا،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ) البخاري /1035، ومسلم/900
يعلق الدكتور مصطفى البغا على هذا الحديث في شرحه لمسلم فيقول: (نصرت بالصبا):هي الريح التي تهب من مشرق الشمس ونصرته بها صلى الله عليه وسلم كانت يوم الخندق إذ أرسلها الله تعالى على الأحزاب باردة في ليلة شاتية فقلعت خيامهم وأطفأت نيرانهم وقلبت قدورهم وكان ذلك سبب رجوعهم وانهزامهم.
(الدبور) هي الريح التي تهب من مغرب الشمس وبها كان هلاك قوم عاد كما قص علينا القرآن الكريم.
قال تعالى:( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ *) (فصلت15-16)
أما في غزوة الأحزاب فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)( الأحزاب 9)
روى ابن هشام عن محمد بن كعب القُرَظِي قال: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي. قال: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا. قال: قال حذيفة: يابن أخي، والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل، ثم التفت فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ -يشرط له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرجع -أدخله الله الجنة". قال: فما قام رجل. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا، فقال مثله، فما قام منا رجل. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع -يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة -أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة". فما قام رجل من القوم؛ من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد. فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال: "يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا". قال: فذهبت فدخلت [في القوم] ، والريح وجنود الله، عز وجل، تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح الذي ترون. والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي: "ألا تحدث شيئا حتى تأتيني" ثم شئت، لقتلته بسهم.
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل، فلما رآني أدخلني بين رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع، وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم) (ابن هشام 2/231)
- ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الريح فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها).( رواه ابن ماجه/3727، وصححه الألباني في المشكاة /)1516)
وليحذر العبد من سبِّ الحمى كذلك إن أُصيبَ بها كذلك لأنها من الله تعالى؛ ولأنها تُحرق ذنوب العبد، وتخفف عنه، فهي خير له ولو أقعدته وأسهرته وآذته، فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،( دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: «مَا لَكِ؟ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيِّبِ تُزَفْزِفِينَ؟» قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا، فَقَالَ: «لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)( رواه مسلم/2575) (تزفزفين): تتحركين حركة شديدة أي ترعدين.
- وفي غزوة بدر:
أنزل الله المطر فثبت به أقدام المؤمنين فانتصروا على عدوِّهم، قال تعالى:(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) الأنفال 11
روى ابن هشام في السيرة عن عروة بن الزبير قال: (بعث الله السماء -وكان الوادي دَهْسَاً -فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ) (سيرة ابن هشام 620/1)
-وفي غزو التتار:
أنزل الله فيه من الثلج والبرد والمطر ما هو على خلاف العادة كما هو اليوم، فكانت هلاكاً على التتار ورحمة للمؤمنين،
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وَهَكَذَا هَذَا الْعَامُ أَكْثَرَ اللَّهُ فِيهِ الثَّلْجَ وَالْمَطَرَ وَالْبَرْدَ عَلَى خِلاَفِ أَكْثَرِ الْعَادَاتِ، حَتَّى كَرِهَ أَكْثَرُ النَّاسِ ذَلِكَ ، وَكُنَّا نَقُولُ لَهُمْ : لاَ تَكْرَهُوا ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ لِلَّهِ فِيهِ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الأسْبَابِ الَّتِي صَرَفَ اللَّهُ بِهِ الْعَدُوَّ ؛ فَإِنَّهُ كَثُرَ عَلَيْهِمْ الثَّلْجُ وَالْمَطَرُ وَالْبَرْدُ ، حَتَّى هَلَكَ مِنْ خَيْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ، وَهَلَكَ أَيْضًا مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَظَهَرَ فِيهِمْ وَفِي بَقِيَّةِ خَيْلِهِمْ مِنْ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ بِسَبَبِ الْبَرْدِ وَالْجُوعِ مَا رَأَوْا أَنَّهُمْ لاَ طَاقَةَ لَهُمْ مَعَهُ بِقِتَالِ ، حَتَّى بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ كِبَارِ الْمُقْدِمِينَ فِي أَرْضِ الشَّامِ أَنَّهُ قَالَ : لاَ بَيَّضَ اللَّهُ وُجُوهَنَا : أَعَدَوْنَا فِي الثَّلْجِ إلَى شَعَرِهِ ، وَنَحْنُ قُعُودٌ لاَ نَأْخُذُهُمْ ؟ وَحَتَّى عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا صَيْدًا لِلْمُسْلِمِينَ لَوْ يَصْطَادُونَهُمْ ؛ لَكِنْ فِي تَأْخِيرِ اللَّهِ اصْطِيَادَهُمْ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ ...) مجموع الفتاوى 28/445
6- الرضا عن الله: ( لا تكتب اسمك في سجلات الخائبين)
قال تعالى:( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)(النساء 19)
إذا استقر هذا المعنى في القلب أورث التسليم الكامل والرضا التام عن الله بما قدَّرهُ، لأن العبد جاهل كل الجهل بما ينفعه والرب عالمٌ كل العلم بذلك. قال عمر رضي الله عنه: ( ما أبالي على أي حال أصبحت أعلى ما أحب أم على ما أكره)
لا تكره المكروه عند نزوله إن الحوادث لم تزل متباينة
كم نعمة لا يستهان بشكرها لله في طيِّ المكاره كامنة
هذه المحنة لن تدوم طويلاً، فعليك بالصبر أخي المسلم وأختي المسلمة حتى تربح الاختبار ولا ترسب في الامتحان
يا نفس إنما هي صبرُ أيام كأن مدتها أضغاثُ أحلام
إن الدنيا دار ابتلاء ومن جهل هذا فقد نسي الغاية التي من أجلها خلق،قال تعالى: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا) الملك 2
ومن جزع ونفد صبره عند نزول البلاء فقد جنى على نفسه وكتب اسمه بيده في سجلات الخائبين.
الإيمان مقترن بالبلاء، كما قال الرافعي:
( فمن آمن بالله فكأنما قال له امتحنِّي، وكيف تراك إذا كنت بطلاً من الأبطال مع قائد الجيش؟ أما تفرض عليك شجاعتك أن تقول للقائد: امتحنّي وارم بي حيث شئت، وإذا رمى بك فرجعت مثخناً بالجراح، ونالك البتر والتشويه أتراها أوصافاً لمصائبك، أم ثناء على شجاعتك؟!)(كتاب وحي القلم).
فأروا الله من أنفسكم قوة، وارضوا عن الله فيما ابتلاكم، فالله يريد أن يرفع درجاتكم.
7- تحمُّلُ البرد في طاعة الله مما يرفع الله به الدرجات، ومما يختصم فيه الملأ الأعلى:
فالله سبحانه يُعْظِم المثوبة على من تحمل المكاره في طاعته؛ فمن أسباب محو الخطايا ورفع الدرجات: إسباغُ الوضوء على المكروهات، كما جاءت بذلك الأحاديث، ومعلوم أن إسباغ الوضوء في شدة البرد، وكثرةِ الملابس على المتوضئ مما يَكْرَهُهُ ويَشُقُّ عليه، لكنه يفعل ذلك قربةً إلى الله تعالى، فاستحق ما رُتب عليه من أجر عظيم.
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَرْفَعُ اللهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ، وَيُكَفِّرُ بِهِ الْخَطَايَا؟ كَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ) (رواه أحمد/9644، وإسناده صحيح على شرط مسلم.)
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: رَبِّ لَا أَدْرِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَعَلِمْتُ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الدَّرَجَاتِ وَالكَفَّارَاتِ، وَفِي نَقْلِ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغِ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَمَنْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) (رواه الترمذي /3234، وصححه الألباني في صحيح الجامع /59)
وهذا الحديث من أحاديث الصفات التي نؤمن بها كما جاءت من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل.
8- نداء للقادرين:
إن الله ينزل المصيبة ابتلاء منه للمصابين أن يصبروا، وابتلاء للقادرين أن يبذلوا،
- روى البخاري ومسلم من حديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ).( البخاري /2446، ومسلم/2585)
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللهُ فِي الْآخِرَةِ وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) (رواه النسائي /7246)
فلينفس كل قادر عن المكروبين ما استطاع، من إيواء شخص أو عائلة أو يؤمن لهم ثمن الوقود والتدفئة أو يعطيهم ما فاض عن حاجته من ملابس وبطانيات، أو يعطيهم من المال ما يخفف عنهم من مصابهم، وغن الله سيسأل كل قادر على البذل ولم يبذل، ولنا في قول الله في الحديث القدسي عظة وعبرة :
( يا ابنَ آدَمَ استطعَمْتُك فلم تُطعِمْني فيقولُ: يا ربِّ وكيف أُطعِمُك وأنتَ ربُّ العالَمينَ ؟ فيقولُ: ألم تعلَمْ أنَّ عبدي فلانًا استطعمتك فلم تُطعِمْه أمَا إنَّك لو أطعَمْتَه وجَدْتَ ذلك عندي ....) (الراوي: أبو هريرة المحدث: ابن حبان - المصدر: صحيح ابن حبان - الصفحة أو الرقم: 269).