مقدمة:
إن ما يمرُّ بالمسلمين اليوم من أزمات وخاصةً أهل الشام لَيستنفرهم إلى دراسة غزوات النبي صلى الله عليه وسلم دراسة واعية وينهلوا من معينها الذي كان القرآن يتنزل ليرويه،
والظروف التي مرت بها غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كثير منها يمرُّ بنا اليوم؛ فدراسة غزواته وسيرته تؤهلنا لأن نسير على مثل ما سار عليه لنصل لمثل ما وصل إليه،
قال زينُ العابدين - رحمه الله -: (كنا نُعلَّم مغازِيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نُعلَّم السورة من القرآن ).
في العام التاسع الهجري جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشه لقتال الروم في عين تبوك بعدما سمع بنيتهم لحرب المسلمين، وتلبية لنداء الله للمؤمنين بقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) [التوبة: 123].
وتبوك اسم لمكان في شمال المملكة العربية السعودية ويبعد عن المدينة (778) ميلاً،
وقد أحاط بهذه الغزوة ظروف في غاية الصعوبة ولذلك سماها الله عز وجل بساعة العسرة فقال تعالى: (لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ..) [التوبة: 117].
ومن هذه الظروف التي مرت بهذه الغزوة:
أ- خرج المسلمون حين استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الظلال قد طابت في المدينة ونضجت الثمار وهذا يعني أن المسلمين سيتركوا هذه الظلال وتلك الثمرات، وعند رجوعهم سيكون الموسم قد فاتهم لأن المسافة بعيدة جداً.
ب- ارتفاع درجات الحرارة، ورمال الصحراء تسفع الوجوه سفعاً من شدة حرها، وقد ذكر الله ذلك في كتابه بقوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) (التوبة 81)
جـ- بعد المسافة، فما بين المدينةِ وبين تبوك أميالٌ كثيرةٌ قدرت بـ (778) ميلاً.
د- قلة الظهر، فكثير من المجاهدين قد مشوا تلك المسافات الطويلة على أرجلهم، وقد جاء الأشعريون يتقدمهم أبو موسى رضي الله عنه يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على إبل ليتمكنوا من الخروج للجهاد، فلم يجد لهم ما يحملهم عليه حتى مضى بعض الوقت فحصل لهم على ثلاثة من الإبل.
هـ- قلة المال الذي يُجهَّزُ به الجيش مع المسافة البعيدة وكثرة المؤن التي يحتاجها المقاتلون.
و- شدة العطش التي بلغت بالمسلمين مبلغها، حتى أن عمر رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع, حتى إن كان أحدنا يذهب يلتمس الخلاء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته تنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرشه فيشربه ويضعه على بطنه).
ز- كثرة عدد العدو، فقد جمعت الروم جموعها وأجلبت معهم لُخم وجُذام وغيرهم من مستنصرة العرب, وجاءت بهم إلى البلقاء من الأردن. ومواجهة الروم تتطلب إعدادًا خاصًّا، فهم عدو يختلف في طبيعته عن الأعداء الذين واجههم النبي صلى الله عليه وسلم من قبل، فأسلحتهم كثيرة، ودرايتهم بالحرب كبيرة, وقدرتهم القتالية فائقة.
عبأ النبي صلى الله عليه وسلم الجيش في ثلاثين ألف مقاتل وأعلن النفير العام، وقد طالبهم القرآن بأن ينفروا شباباً وشيوخاً وأغنياء وفقراء فقال تعالى:
(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة: 41].
وبلغ الأمر بالضعفاء والعجزة ممن أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى حد البكاء شوقًا للجهاد وتحرجًا من القعود حتى نزل فيهم قرآن يُتلى:
( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 91 - 92].
- تعدد الرايات ووحدة القيادة:
عندما تجمع المسلمون عند ثنية الوداع بقيادة رسول الله، اختارَ الأمراءَ والقادةَ وعقدَ الألوية والرايات لهم،
فأعطى اللواء الأعظم إلى أبي بكر الصديق,
ورايته العظمى إلى الزبير بن العوام،
ودفع راية الأوس إلى أسيد بن حضير،
وراية الخزرج إلى أبي دجانة،
وأمر كل بطن من الأنصار أن يتخذ لواء،
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراسة تبوك من يوم قدم إلى أن رحل منها عباد بن بشر، فكان - رضي الله عنه - يطوف في أصحابه على العسكر,
ومن هنا نعلم أنه لا مانعَ منَ اتخاذ كل لواءٍ أو كتيبةٍ رايةً لنفسه بشرط أن تكون القيادة واحدة تأمر وتنهى وتُقْدِمُ وتُحْجِمُ وتُصدر الأوامر كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته.
أما تعدد القيادات فهو دليل الفشل والخذلان ومقدمة حتمية للهزيمة.
وبعد تعبئة الجيش وتوزيع المهام والألوية والرايات, توجه الجيش الإسلامي بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، ولم ينتظر أحدًا قد تأخر, وقد تأخر نفر من المسلمين يُظَنُّ فيهم خيرٌ, وكلما ذُكِرَ لرسول الله اسم رجل تأخر قال صلى الله عليه وسلم: (دعوه, إن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه).
وعندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد أثرًا للحشود الرومانية ولا القبائل العربية, وبالرغم من أن الجيش مكث عشرين ليلة في تبوك لم تفكر القيادة الرومانية مطلقا في الدخول مع المسلمين في قتال، حتى القبائل العربية المنتصرة آثرت السكون، أما حكام المدن في أطراف الشام فقد آثروا الصلح ودفع الجزية، فقد أرسل ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم هدية -وهي بغلة بيضاء وبرد- فصالحه على الجزية.
وبذلك أسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم هيبة الروم من نفوس العرب جميعاً، وأظهر قوة الدولة الإسلامية كقوة وحيدة في المنطقة قادرة على تحدي القوى العظمى آنذاك.
أ- استنهاض الهمم والحث على النفير العام.
ب- عتاب القرآن لمن تخلف، وخطورة القعود عن النفير.
ت- الحديث عن مواقف المنافقين.
إن الآيات التي أنزلها الله في كتابه المتعلقة بغزوة العسرة هي أطول ما نزل في قتال المسلمين وخصومهم, لأن هذه الغزوة كانت آخر غزوة للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن معالم القرآن في الحديث عن هذه الغزوة:
أ- استنهاض الهمم والحث على النفير العام:
فقد تميزت غزوة تبوك عن سائر الغزوات بأن الله حث على الخروج فيها وذمَّ المتخلفين عنها وذلك بسبب كثرة الحشود الرومانية التي أرادت القضاء على المسلمين ودولتهم، والآيات الكريمة جاءت بذلك, كقوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة: 41].
إن معركة اليوم تشبه معركة الأمس، فقد تحشدت الجيوش اليوم على أرض الشام للقضاء على أهل السنة وإقامة الإمبراطورية الفارسية بدعم دولي وصليبي، وكيد عربي وأجنبي كادت أن تزول منه الجبال،
فما أحوجنا اليوم إلى اتباع نفس المنهج الذي أنزله الله في كتابه، وسار عليه رسول الله في أصحابه، من النفير وترك الدنيا وملذاتها ومكابدة الصعاب والمشاق والألم حتى نفوز كما فازوا وننتصر كما انتصروا.
ب - عتاب القرآن لمن تخلف، وخطورة القعود عن النفير:
لقد عاتب الله من تخلف عن الخروج للقاء الروم عتاباً شديداً وأشعرهم سبحانه بأنه لا يقبل ذرة تفريط في حماية دينه ونصرة نبيه، وإن التراجع أمام الصعوبات الحائلة دون قتال الروم يعد مزلقة إلى الردة والنفاق ،قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة: 38، 39].
نعم إن الله لا يقبل ذرة تفريط في حماية دينه ونصرة عباده، وإن التراجع أمام الصعوبات الحائلة دون قتال الفرس الروافض اليوم يعد مزلقة إلى الردة والنفاق، (إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
لقد جاء سبابة الصحابة وعبدة القبور والمحرفون لكتاب الله والمكفرون لعامة الصحابة والتابعين وقادة وعلماء هذه الأمة، لقد جاء من حرّق الأطفال والشيوخ وقطَّعَ رؤوس الشباب في العراق والأحواز وغيرها؛ جاؤوا ليقتلوا فينا ديننا، ويأخذوا أرضنا، ويغتصبوا عرضنا، ويمهدوا الطريق لليهود ليحققوا حلمهم.
لم يكتفوا بالأحواز والعراق بل حرَّكوا ذراعهم الحوثي في اليمن ، وحزبهم الشيطان في لبنان، وحاولوا احتلال البحرين، والآن يتربصون بأرض الحرمين، وقد جاؤوا إلى الشام لأنهم يعلموا أن فوزهم فيها يعني نجاحهم في كل ما مضى.
إن ثورة الشام اليوم في خطر، فانفروا يا أيها الناس (خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(التوبة 24)
ت - الحديث عن مواقف المنافقين:
المنافقون أراذل الناس في كل عصر، فمهمتهم تثبيطُ الناس عن لقاء عدوهم وتخذيلُهم، وبث الشائعات الكاذبة، ومحاولة خلخلة الصفوف.
لقد كانت غزوة تبوك منذ بداية الإعداد لها مناسبة للتمييز بين المؤمنين والمنافقين، وضحلت فيها الحواجز بين الطرفين، ولم يعد هناك أي مجال للتستر على المنافقين أو مجاملتهم, بل أصبحت مجابهتهم أمرًا ملحًّا بعد أن عملوا كل ما في وسعهم لمجابهة الرسول والدعوة، وتثبيط المسلمين عن الاستجابة للنفير الذي أعلنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والذي نزل به القرآن الكريم، بل وأصبح الكشف عن نفاق المنافقين، وإيقافهم عند حدهم واجبًا شرعيًّا.
قال تعالى: (لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة: 44 - 45].
هذه الآيات أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال، فبين -سبحانه- أنه ليس من شأن المؤمنين بالله واليوم الآخر الاستئذان وترك الجهاد في سبيل الله، وإنما هذا من صفات المنافقين الذين يستأذنون من غير عذر, وصفهم -سبحانه- بقوله: (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: شكت في صحة ما جئتهم به، وقوله (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي: يتحيرون يقدمون رِجْلاً ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شيء.
- عندما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم النفير ودعا إلى الإنفاق في تجهيز هذه الغزوة، أخذ المنافقون في تثبيط همم الناس قائلين لهم: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله تعالى فيهم: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة: 81 - 82].
وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن ناسًا منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم من أحرق عليهم بيت سويلم.
وهذا يدل على مراقبة المسلمين الدقيقة ومعرفتهم بأحوال المنافقين واليهود، فقد كانت عيون المسلمين يقظة تراقب تحركات اليهود والمنافقين، واجتماعاتهم وأوكارهم، بل كانوا يطَّلِعون فيها على أدقِّ أسرارهم واجتماعاتهم وما يدور فيها من حبك المؤامرات, وابتكار أساليب التثبيط, واختلاق الأسباب الكاذبة لإقناع الناس بعدم الخروج للقتال، وكان علاج رسول الله لدعاة الفتنة وأوكارها حازما حاسما.
- منافقو اليوم:
إن بعض الناس اليوم قد وقع بمثل ما وقع به المنافقون السابقون من تثبيط همم المجاهدين، وتحشيد الناس ضدهم، وخلخلة صفوفهم، والطعن بهم من خلفهم، بل وصل الأمر ببعضهم إلى الاتصال مع النظام المجرم لينقل له أخبار المجاهدين وتحركاتهم مما يؤدي لقصف النظام لمواقعهم فتكون الكارثة بقتل الأبرياء من المدنيين والأطفال والنساء؛
إننا نقول لمثل هؤلاء الخبثاء: إن لم تكونوا في صف المجاهدين وفي صف المستضعفين فلا أقل من أن تصمتوا وتتركوا الساحة لأهلها، ووالله إن الله سيفضح من تبقى منكم كما فضح من كان قبلكم، وإياكم أن تستهزئوا بالمجاهدين كما فعل المنافقون السابقون فوصفهم الله بالكفر،قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-:
قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يومًا:( ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطونا, ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت, ولكنك منافق, لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقا بحَقَبِ – حبل يُشدُّ به الرحل في بطن البعير -ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تَنْكُبُهُ – تصيبه وتؤذيه-، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ).
حَقَبِ : حبل يُشدُّ به الرحل في بطن البعير .
تَنْكُبُهُ : تصيبه وتؤذيه
وفي رواية قتادة قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات .. فأطلع الله نبيه على ذلك فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ( احبسوا هؤلاء الركب»، فأتاهم فقال: قلتم كذا وقلتم كذا، قال: فأنزل الله فيهم ما تسمعون، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة: 65-66]
لقد تحمل جيش العسرة مشاقَّ جسيمةً في سبيل نصرة الدين، فقد تركوا المدينة في موسم نضج ثمارها, فقطع بهم صلى الله عليه وسلم مسافات طويلة شاقة في صحراء الجزيرة العربية صيفًا في ظروف جوية صعبة حيث حرارة الصيف اللاهب, بالإضافة إلى الظروف المعيشية التي كانوا يعانون منها، من قلة في الماء حتى كادوا يهلكون من شدة العطش، وقلة في الزاد والظهر، ولا شك في أن هذه الأمور تعد تدريبا عنيفا لا يتحمله إلا الأقوياء من الرجال.
ولقد كان غرض الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك إعدادهم لتحمل أعباء نشر رسالة الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية ... فقد كانت هذه الغزوة آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم, فلابد من الاطمئنان إلى كفاءة جنوده قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى، وقد ساعد هذا التدريب العملي الصحابة في عصر الخلفاء فقاموا بفتح بلاد الشام وبلاد الفرس بقوة إيمانهم, وثقتهم بخالقهم, وساعدهم على ذلك لياقتهم البدنية العالية، ومعرفتهم العملية لاستخدام السيوف والرماح وأنواع الأسلحة في زمانهم.
وجيل الشام اليوم قد أصابه من الشدة والبلاء ما يؤهله لخوض المعركة القادمة، فالألم والضنك والمشاقَّ التي مرت خلال السنين الأربعة المنصرمة لتصنع اليوم جيلَ التمكين الذي يُعدُّه الله للاستخلاف في الأرض وإقامة منهاج النبوة فيها، وتحرير المقدسات المغتصبة؛ إن جيل التمكين لا يُصنع في الرخاء، وإنما يُصنعُ في العناء ومكابدة المشاقِّ والأحداث الجسام،
لقد أراد هذا الشعب أن يُسقط رئيساً فأراد الله أن يحيي أمة لتقود المرحلة القادمة وتطوي عقوداً طويلة مرت في غفلة ونوم وسكوت عن الظلم والقهر والكيد للإسلام والمسلمين.
إن ثورة الشام اليوم كشفت اللثام عن كل الوجوه وفضحت كل المؤامرات، ورنَّحت كلَّ الشعارات، وبينت العدو من الصديق،
وركلت بأقدامها تلك الحدود السياسية المصطنعة لتوحد بين قلوب الشعوب التي تئن اليوم لمصاب المسلمين وتنتظر كلمة ( حي على الجهاد)،
لم يعد حال كثير من شباب الأمة اليوم ورجالها ومفكريها كما كان بالأمس ، لقد تنبهت الشعوب اليوم إلى خطورة المرحلة وأن القضية مصيرية وأن أهل السنة هم المقصودون فكان حامل لواء إيقاظ الشعوب هم أهل الشام.
فاللهم اغفر لأهل الشام
وارض عن أهل الشام
وانصر أهل الشام ومكن لهم في الأرض
وارفع عنهم البلاء وتسلط الأعداء وكيد المنافقين.