1- تحييد جبهة قريش والتفرغ لليهود:
2- تحييد جبهة غطفان في غزوة الخندق:
3- حكمة النبي في التعامل مع الخصم:
مقدمة:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة في كل شأن من شؤون الحياة، وفي الشؤون العسكرية والحربية كان أكبر قائد في الدنيا، وأشدهم وأعمقهم فراسة وتيقظاً، إنه صاحب عبقرية فذة في هذا الوصف، فلم يخض معركة من المعارك إلا في الظرف ومن الجهة اللذين يقتضيهما الحزم والشجاعة والتدبير،
ولم يكن يفتح على نفسه جبهات معادية هو في غنىً عنها، بل كان يحيِّدُ جبهة ما ليتفرغ للقضاء على غيرها حتى لا يُهلك نفسه ومن معه من المسلمين، ولذلك لم يفشل في أي معركة من المعارك التي خاضها لغلطة في الحكمة وما إليها من تعبئة الجيش، واحتلال أفضل المواضع وأوثقها للمجابهة، واختيار أفضل خطة لإدارة دفة القتال، بل أثبت في كل ذلك أن له نوعاً آخر من القيادة غير ما عرفتها الدنيا في القواد. ولم يقع ما وقع في أُحد وحنين إلا من بعض الضعف في أفراد الجيش، أو من جهة معصيتهم أوامره وتركهم التقيد والالتزام بالحكمة والخطة اللتين كان أوجبهما عليهم من حيث الوجهة العسكرية.
عناصر الخطبة:
1- تحييد جبهة قريش والتفرغ لليهود.
2- تحييد جبهة غطفان في غزوة الخندق.
3- حكمة النبي في التعامل مع الخصم.
1- تحييد جبهة قريش والتفرغ لليهود:
أراد رسول الله والمسلمون أن يقصدوا البيت حاجين لا مقاتلين، وقرّر الرسول صلّى الله عليه وسلم منذ مغادرته المدينة ألا يحارب قريشا، بل يبذل كل جهده للتفاهم معها، إلا إذا لم يجد مناصاً من القتال ...
خرج محرماً، واستصحب أسلحة الراكب وهي السيوف في القرب؛ فلما علم من دوريات استطلاعه اعتزام قريش على قتاله، أصرّ على (السلم) ، فخرج عن الطريق العام إلى طريق فرعية شديدة الوعورة، مما جعل أصحابه يكابدون المشقات عند قطعها،
ولكن خروجه عن الطريق العام إلى طريق فرعية باتجاه مكة، جعل طلائع قريش تضطر إلى الإسراع في العودة أدراجها للدفاع عن مكة، لأن المسلمين هدّدوها تهديدا مباشراً وأصبحوا قريبين منها.
عندما وصل الرسول صلّى الله عليه وسلم (الحديبية) بقي مصراً على هدفه الذي لم ينسه قط وهو عدم الاشتباك مع قوات قريش، ودخول مكة حاجاً.
أفسح صلى الله عليه وسلم المجال لمفاوضي قريش بالقدوم إلى معسكر المسلمين في كل وقت للتأكد من نيات المسلمين السلمية،
وعندما هاجم قسم من المشركين معسكر المسلمين ورموهم بالنبل، حاول المسلمون حينذاك أن يلقوا القبض على المهاجمين دون أن يوقعوا بهم خسائر بالأرواح أو بالأموال؛ فاستطاعوا فعلا تطويقهم والقبض عليهم، ثم أطلقوا سراحهم وأعادوهم إلى قريش دون أن يلحقوا بهم أي أذى وذلك زيادة تطمين لقريش.
وأرسل رسول الله مفاوضين من قبله إلى قريش ليؤكدوا لهم أنهم لم يأتوا محاربين؛ وإنما يقصدون البيت للحج،
ولكن قريش أبت بقبول ذلك وخافت أن تقول العرب أن المسلمين دخلوا مكة بقوتهم فتذهب هيبة قريش من نفوس العرب.
وبعدها قرر المشركون أن يردوا رسول الله والمسلمين ولا يسمحوا لهم بدخول مكة، وأن يكون دخولهم في العام المقبل،
وبدأت المفاوضات بين المسلمين والمشركين واتفقوا على وثيقة وهي:
1- ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب؛ السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها .
2- وَضْعُ الحرب عن الناس عشر سنين؛ يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض،
3- من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً من عند محمد لم يردّوه إليه.
4- من أراد أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
لم يكن أحد من المسلمين يشك في دخول مكة، فانهارت آمالهم أثناء المفاوضات، ولم يكن أحد يفهم ما يبرّر الهدنة، فالشروط مجحفة في ظاهرها بالمسلمين،
ولو كان المسلمون ضعفاء أو يشعرون بالضعف لهان الخطب، ولكنهم كانوا أقوياء مادياً ومعنوياً، فكيف يقتنعون بالهدنة في شكلها وأسلوبها الذي كان؟!
في خضمِّ هذه الظروف الصعبة نفسياً على المسلمين جاء إلى المسلمين أبو جندل- وهو ابن سهيل بن عمرو ممثل قريش في المفاوضات- يرسف في الحديد، فقد اعتنق الإسلام فلقي العذاب من أهله المشركين، فلما رأى سهيلٌ ابنه ضرب وجهه وجعل يجرّه ليرده إلى قريش، وأبو جندل يصيح بأعلى صوته: (يا معشر المسلمين، أأُردُّ إلى المشركين يفتنوني عن ديني) ؟!
ليس من السهل احتمال المسلمين لمثل هذا الموقف حينذاك، وكانت عقيدتهم تطغى على كل شيء سواها، فوجدوا إخوانهم المستضعفين من المسلمين يردّون إلى المشركين ليفتنوهم عن دينهم.
ولكنهم احتملوه صابرين، على الرغم من بعض التذمر الخافت الذي كان يخالج بعض نفوس المسلمين، والذي كان يثيره حرصهم الشديد على عزة الإسلام.
لم يكن موقف الرسول صلّى الله عليه وسلم والمسلمين سهلا أثناء مفاوضات الهدنة وبعدها حتى عودتهم إلى المدينة المنورة، فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يعرف أهدافه القريبة والبعيدة ويعمل لتحقيقها بصبر وأناة وإصرار، ولكنّ كيف السبيل إلى إفهام كل تلك الأهداف للمسلمين في مثل تلك الظروف؟!
وبعدها بدأت نتائج الصلح تبدو وبدأ النصر المبين يلقي بظلاله على أفئدة المسلمين التي كادت أن ترد الهدنة وشروطها لولا أن رسول الله هو قائدها وآمرها.
نتائج الحديبية:
لقد كانت نتائج الحديبية فتحاً مبيناً للمسلمين وأنزل الله فيه سورة كاملة سماها سورة الفتح، فمن أهم نتائج غزوة الحديبية:
1- اعتبار قريش للمسلمين طرفا مساويا لها، وهذا أول اعتراف بالدولة المسلمة من أشد أعدائها وأقواهم في الحجاز، بعد أن كانت تعتبرهم من قبلُ عصاة شقوا عليها عصا الطاعة.
2- ما كاد عهد (الحديبية) يُبرَمُ حتى حالفت خزاعةُ محمداً صلّى الله عليه وسلم وحالفت بنو بكر قريشاً؛ فربح المسلمون حليفا قوياً له أهمية خاصة لقرب دياره من قريش.
3- حَرَمَتِ الهدنة يهود (خيبر) من الأمل في معاونة قريش لها، وقريش هي ألد أعداء المسلمين آنذاك.
4- أما المسلمون الذين ردَّهم رسول الله إلى المشركين فانطلقوا إلى ساحل البحر إلى ناحية تدعى (العيص) وصاروا قرابة سبعين مسلماً فيهم أبو جندل، وألّف هؤلاء المعذبون في الأرض قوة مغاوير لا تدع قافلة لقريش تمرُّ إلا اغتنموها ولا يرون رجلاً من قريش إلا قتلوه،
وإذا بقريش تبعث إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم وتناشده الرّحم أن يؤوي إليه هؤلاء المسلمين الذين ضيّقوا عليها الخناق، فلا حاجة لها بهم.
5- أصبح المجال مفتوحا أمام الرسول صلّى الله عليه وسلم لمحالفة القبائل التي لم تكن تطمئن إلى محالفته، لقوة قريش ولوجود الكعبة في مكة، وبذلك قوي جانب المسلمين وكثر حلفاؤهم وازدادت قوتهم الضاربة.
6- التفريق بين قريش وحلفائها الطبيعيين يهود خيبر الذين كانوا لا ينفكون يحرّضون القبائل على الرسول صلّى الله عليه وسلم.
7- الاستقرار الذي أمّن التفرّغ للدعوة وانتشار الإسلام.
8- إثارة المسلمين للرأي العام ضد قريش لصدّها المسلمين عن زيارة البيت الحرام وتعظيمه، مما أكسب المسلمين عطف كثير من القبائل وكثير من قريش نفسها وكثير من أهل المنطقة المجاورة لقريش، مما سهّل عملية فتح مكة عليهم فيما بعد.
9- كانت قوات المسلمين في الحديبية ألفاً وستمائة رجل، فأصبحت قواتهم يوم فتح مكة بعد عامين عشرة آلاف رجل ... وشتان بين العددين.
أيها المجاهدون.. ويا قادة الفصائل..
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد النظر في التعامل مع أعداء المسلمين، فلم يكن يفتح على نفسه جبهات معادية هو في غنىً عنها حينئذٍ، بل كان يسعى دائماً إلى تقليل جبهات الصراع والمحافظة على بيضة المسلمين والسعي في زيادة قوة الدولة الإسلامية.
فحرصه صلى الله عليه وسلم على كسب ودّ وعطف القبائل لا استعداءَها ومحاربتِها كان له أثر في نشر الإسلام والتفرغ لجهات أكثر عداءً وتهديداً لأمن المسلمين..
فاستعداء الدول المجرمة اليوم على المسلمين ليس في صالحنا وليس من الحكمة بمكان، لا سيما والمسلمون اليوم في وضع مؤسف من الضعف والتشرذم واجتماع القوى العظمى عليهم ودماؤهم التي تُهراقُ في كل لحظة.
لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلح الحديبية أن يُخمد جبهة قريش المعادية التي طالما حاربت المسلمين وكادت لهم، وتفرغ بعدها مباشرة لفتح جبهة على عدوٍ لدود لا تقل عداوته عن عداوة قريش؛ ألا وهو يهود خيبر فأراد رسول الله أن يتفرغ للقضاء على يهود نهائيا في منطقة المدينة المنورة للتخلص من أقوى أعداء المسلمين في المنطقة الشمالية، ولتكون تلك المنطقة أمينة عندما يحين موعد محاسبة قريش
وبالفعل استطاع رسول الله القضاء على اليهود عسكرياً في شبه الجزيرة العربية،
فانتصر على يهود خيبر انتصاراً ساحقاً، وطلبَ من تبقى منهم الصلحَ على أن يحقن المسلمون دماءهم.
وقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم استسلامهم بشرط حقن دمائهم، وأبقاهم على أرضهم على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم فيها.
كما انتهى النبي من يهود فَدَك، ويهود وادي القرى، ويهود تيماء؛ ليتفرغ بعدها لتأديب قبائل الأعراب لتوطيد الأمن في المنطقة الشمالية للمدينة المنورة بصورة خاصة، ومنع غارات الأعراب على المدينة، وحماية الدعاة من غدر القبائل.
ثم بعد ذلك حان موعد محاسبة قريش فكان فتح مكة المبين
تلك هي نتائج حكمته وعبقريته القيادية عليه الصلاة والسلام./ من كتاب الرسول القائد بتصرف
- وقد أشار الله عز وجل في كتابه بإشارات بل وأمرنا بعدم استعداء الآخرين حتى وإن كنا على حقٍّ وذلك إذا كان يترتب على ذلك مفسدة تجلب الضرر للإسلام والمسلمين،
قال تعالى:( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام 108
قال القرطبي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاءُ: حُكْمُهَا بَاقٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَتَى كَانَ الْكَافِرُ فِي مَنَعَةٍ وَخِيفَ أَنْ يَسُبَّ الْإِسْلَامَ أَوِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسُبَّ صُلْبَانَهُمْ وَلَا دِينَهُمْ وَلَا كَنَائِسَهُمُ، وَلَا يَتَعَرَّضُ إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْثِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ..
وفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا ضَرْبٌ مِنَ الْمُوَادَعَةِ، وَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الحكم بسد الذرائع، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحِقَّ قَدْ يَكُفُّ عَنْ حَقٍّ لَهُ إِذَا أَدَّى إِلَى ضَرَرٍ يَكُونُ فِي الدِّينِ. تفسير القرطبي 7/61
فإذا كان هذا في السبِّ فقط فكيف بمن يجلب الحرب الإعلامية والسياسية والإقتصادية والعسكرية على الأمة الضعيفة التي لا زالت متفرقة.
2- تحييد جبهة غطفان في غزوة الخندق:
حين اشتد الحصار من الأحزاب على المسلمين وبلغت القلوب الحناجر وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً، ظهرت حنكته صلى الله عليه وسلم وحسن سياسته حين اختار قبيلة غطفان بالذات لمصالحتها على مال يدفعه إليها على أن تترك محاربته وترجع إلى بلادها، فهو يعلم صلى الله عليه وسلم أن غطفان وقادتها ليس لهم من وراء الاشتراك في هذا الغزو أي هدف سياسي يريدون تحقيقه أو باعث عقائدي يقاتلون تحت رايته، وإنما كان هدفهم الأول والأخير من الاشتراك في هذا الغزو الكبير هو الحصول على المال بالاستيلاء عليه من خيرات المدينة عند احتلالها،
فعرض عليهم النبي أن يدفع لهم المسلمون ثلث ثمار المدينة كلها من مختلف الأنواع لسنة واحدة على أن تنسحب بجيوشها عائدة إلى بلادها.
لقد أبرز صلى الله عليه وسلم في هذه المفاوضات جانبًا من جوانب منهج النبوة في التحرك لفك الأزمات عند استحكامها وتأزمها, لتكون لأجيال المجتمع المسلم درسًا تربويًّا من دروس التربية المنهجية عند اشتداد البلاء.
وقبل عقد الصلح مع غطفان شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة في هذا الأمر، فكان رأيهم في عدم إعطاء غطفان شيئًا من ثمار المدينة وقال السعدان -سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة-: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه؟ أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال: ( بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة, وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما).
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرَىً أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت وذاك).
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة) دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستهدف من عمله ألا يجتمع الأعداء عليه صفًّا واحدًا, وهذا يرشد المسلمين إلى عدة أمور منها:
أن يكون الهدف الإستراتيجي للقيادة المسلمة تحييد من تستطيع تحييده, ولا تنسى القيادة الفتوى والشورى والمصلحة الآنية والمستقبلية للإسلام.
أن يحاول المسلمون التفتيش عن ثغرات القوى المعادية.
وفي استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة يبين لنا أسلوبه في القيادة, وحرصه على فرض الشورى في كل أمر عسكري يتصل بالجماعة، فالأمر شورى ولا ينفرد به فرد حتى ولو كان هذا الفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ما دام الأمر في دائرة الاجتهاد ولم ينزل به وحي./ من كتاب السيرة النبوية للصلابي بتصرف
3- حكمة النبي في التعامل مع الخصم:
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل يقال له: ثُمامة بن أَثَال سيد أهل اليمامة، وربط الصحابة ثمامة في سارية من سواري المسجد النبوي، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فوجد ثمامة بن أثال مربوطاً في السارية، فاقترب النبي صلى الله عليه وسلم منه، فإذا به يرى ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة،
ثمامة الذي طالما أعلن الحرب بضراوة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دينه. (فاقترب النبي صلى الله عليه وسلم منه وقال: ماذا عندك يا ثمامة ؟! فقال ثمامة : عندي خير يا محمد ! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت).
قول واضح صريح قوي:
(إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: إن قتلتني فاعلم بأن دمي لن يضيع هدراً ولن تفرط قبيلتي في هذا الدم.
(وإن تنعم تنعم على شاكر)، أي: إن أحسنت إلي وأطلقت سراحي فلن أنسى لك هذا الجميل والمعروف ما حييت، فأنا رجل أصيل لا أنسى إحسان من أحسن إلي.
(وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت..) أي: أما إن كنت تريد المال والفدية فسل تعط من المال ما شئت. (فتركه النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي غير رواية الصحيحين: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يحسنوا إلى ثمامة) .
(ثم دخل عليه في اليوم الثاني واقترب منه وقال: ماذا عندك يا ثمامة ؟! فقال: عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم،
ثم دخل عليه في اليوم الثالث، فقال: ماذا عندك يا ثمامة ؟! قال عندي ما قلت لك يا محمد ! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة) أي: لا نريد مالاً ولا جزاءً ولا شكوراً.
ولاحظ -أخي- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبقاه في المسجد ولم يأمر بإخراجه، فدل هذا على جواز أن يدخل المشرك المسجد ما لم يدخله بقصد الإهانة والإساءة، وقَصَدَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى ثمامة في المسجد:
ليستمع ثمامة القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وليرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم كيف يربي أصحابه،
وليرى كيف يتعامل الصحابة مع رسول الله،
فالمسجد مدرسة تعلم فيها ثمامة في ثلاثة أيام عظمة هذا الدين!
منذ متى ونحن ندخل المساجد؟ منذ كم من السنين؟ فهل تعلمنا هذا الدين كما ينبغي في بيوت الله وكما علم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه ثمامة في ثلاثة أيام عظمة وجلال هذا الدين؟
هل لو دخل مساجدنا كافرٌ أو أسير من ألدِّ أعدائنا ثلاثة أيام هل يخرج مسلماً موحداً لله؟!
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة، فانطلق ثمامة إلى حائط فاغتسل) أولم أقل لك إنه تعلم في المسجد؟ ثم عاد إلى المسجد النبوي ووقف بين يدي رسول الله وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
اسمع أيها الحبيب اللبيب! إلى قول ثمامة؟ (يا رسول الله! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فأصبح وجهُك الآن أحبَّ الوجوه كلها إلي، والله ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان على الأرض بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك الآن أحب البلاد كلها إلي، ثم قال: يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة، فبماذا تأمرني؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمره بإتمام العمرة) . قال الحافظ ابن حجر : (فبشره) أي: بالجنة، أو بمغفرة الذنوب، أو بقبول التوبة، وأمره بأن يتم عمرته.
انطلق ثمامة إلى مكة شرفها الله فجهر بالتلبية -كما في غير رواية الصحيحين- فلما رفع صوته بالتلبية قام المشركون إليه: من هذا الذي يرفع صوته بالتلبية بين أظهرنا؟ فقاموا إليه وضربوه ضرباً شديداً حتى أنقذه أبو سفيان من بين أيديهم وقال: إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة وأنتم تحتاجون إلى الحنطة من هذه البلاد، فتركوه، فلما سمع ذلك جلس ثمامة ، وقال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله.
لقد خلع ثمامة رداء الشرك على عتبة الإيمان فوظف كل طاقاته لخدمة دينه، وهذا هو حقيقة الانتماء لهذا الدين،
لقد كان ثمامة أول من فرض حصاراً اقتصادياً على الشرك وأهله في مكة، حتى أكلت قريش (العِلْهِزَ) وهو وبر الإبل مع الجلد، يضعونه على النار ويأكلونه من شدة الجوع، حتى ذهب أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ يناشده الله والرحم أن يرسل إلى ثمامة ليخلي بينهم وبين الميرة، فرد عليه معدنُ الكرم وصاحبُ الخلق والأسوةُ الطيبة ورحمةُ الله للعالمين، وأرسل إلى ثمامة أن خلِّ بينهم وبين الميرة.
والشاهد من هذا الحديث: انظروا كيف حول خلقُ النبي صلى الله عليه وسلم وأدبُه ورحمتُه وتواضعُه البغض في قلب ثمامة إلى حب مشرق وود.
انظروا كيف حول الرفقُ واللينُ قلبَه! وهذه الأمثلة والأحاديث نحفظها، لكنني لا أدري هل نظن أن هذه الأحاديث ليست لنا؟ ولسنا مكلفين بأن نحولها في حياتنا جميعاً إلى منهج حياة، وإلى واقع عملي؟
أيها المجاهدون: لو قتل رسول الله ثمامة بن أثال، أو عامله بقسوة، أكان سيحصل له من النتائج كما حصل له حين منَّ عليه بعد إبقائه ثلاثة أيام في المسجد؟!
تلك النتائج التي كانت في إسلام ثمامة؛ من حصاره الاقتصادي لقريش ومن كسب ودّه وودِّ قومه صبَّت في مصلحة الإسلام والمسلمين وكانت بسبب بعد نظر النبي صلى الله عليه وسلم وحكمته في التعامل مع عدوه
فما أحوجنا اليوم إلى الحكمة وإلى بعد النظر وإلى التروي في اتخاذ القرارات التي تؤثر في مستقبل الأمة الإسلامية.
ولا يُفهم من كلامنا هذا أننا ندعو المجاهدين إلى أن يمنُّوا على كل أسير وأن يطلقوا سراحه، فالأسير له أحكام في شرعنا فقد يكون من الأفضل والأنفع قتله، أو فداؤه، أو المنُّ عليه،
ولكننا نتكلم هنا عن جزيئة مهمة وهي الحكمة وبُعْدُ النظر عند النبي صلى الله عليه وسلم في اتخاذ القرارات التي تخدم الإسلام والمسلمين.