1- حقيقة الاستقامة
2- استقم ولا تطغى
3- استقامة أم ادعاء؟!
4- الملائكة تتنزل على أهل الاستقامة
إن الذي يضع له هدفاً ويمشي إليه في طريق مستقيم فسرعان ما يصل، أما إذا سلك طرقاً ملتوية معوجة فسيتأخر وربما لن يصل..
الهدف هو الجنة، والطريق المستقيم إليها هو دين الله جلَّ وعلا، والطرق المنحرفة المعوجة هي الفتن والشهوات والشبهات ومزالق الشيطان.
1- حقيقة الاستقامة
لقد أمرنا الله وفرض وأوجب علينا أن نسأله الاستقامة كل يوم سبع عشرة مرة، نعم فرضٌ محتَّمٌ لا يجوز لك أن تتركه
كل يوم تسأل الله الاستقامة سبع عشرة مرة في صلاة الفرض فقط دون النافلة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
ولكن ما هي الاستقامة، وما حقيقتها؟
لاستقامة هي لزوم الجادَّة وعدم السير يمنة ويسرة مع بنيَّات الطريق ومع المغريات والشهوات والفتن.
الاستقامة هي الثبات على دين الله، وعدم السير وراء كلِّ ناعق، واتباع الحقِّ لا زُخرف الباطل.
الاستقامة هي التزام ما يستطيع أن يأتي به الإنسان من طاعات، والبعد عن المعاصي كلها، قال صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم..)
وإن وقع في معصية فليعد ويستغفر؛ لذلك أمر الله بالاستغفار بعد الأمر بالاستقامة لأنه يعلم ضعف الانسان، فقال: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6].
الاستقامة تقتضي أن تكون أحوالك كلها مع الله، خوفاً، وخشية، وذكراً، وعدم أمنٍ لمكره.
لاستقامة تعني إذا عُرِضتْ عليك أي فتنة أو شهوة أن تعرض عنها متذكراً لربك وعظيم عقابه وجزيل ثوابه.
الاستقامة أن تمنع أذاك عن الآخرين، وأن تعطيَ لكل ذي حقٍّ حقَّه، أن تُؤدِّيَ الحقوق تمامًا، لا إفراط ولا تفريط.
الاستقامة تعني أن تنقاد للحق مسلِّماً مستسلماً راضياً بل وطالباً لتنفيذ حكم الله فيك أو في أهلك وقرابتك وعشيرتك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء 64 - 65]
وقد توعد الله وهدد وخوّف كل من يحيد عن الصراط المستقيم والدين القويم، فقال: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه: 135].
2- استقم ولا تطغى
قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ونهى عن الطغيان، وهو البغي، فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك"
إن الاستقامة هي السير إلى الله ضمن حدود حدها، وضدها الطغيان وهو: مجاوزة الحدِّ في كل شيء
وقد توعد وهدد سبحانه في ختام الآية فقال: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
كما أنه سبحانه أمر بالاستقامة كما أمر لا كما يهوى العبد {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}
قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه.
لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (شيبتني هود وأخواتها)
استقم ولا تتجاوز حدود الله، فلله حدود حذَّر من تجاوُزِهَا أو الاعتداء عليها، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].
بل حذَّر سبحانه من الاقتراب منها، فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]
قال عليه الصلاة والسلام: (..فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)
إن الله عز وجل كريم ورحيم، فقد أباح لنا ما في الأرض كلها، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]
وحرم علينا خطوات يسيرة ليعلم سبحانه من يخشاه ويخافه بالغيب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168].
وقال: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [الأنعام: 142].
فلماذا نترك الفسيح ونقع في الخطوات؟!
3- استقامة أم ادعاء؟!
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك ) - فلخص له النبي صلى الله عليه وسلم طريق السعادة وطريق النجاة في الدنيا والآخرة في كلمتين اثنتين- فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم)
إذاً فالإيمان ليس ادعاء وقولاً فقط، قل آمنت بالله ثم ترجم ذلك الإيمان إلى استقامة وإلى منهج عملي يفسر ذلك الإيمان الذي وقر في القلب
جاء في رواية أخرى لحديث الاستقامة: قال سفيان: (فما أخوف ما تخاف عليَّ يا رسول الله؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه ثم قال: هذا).
لأن أول سبل الاستقامة استقامة اللسان الذي بصلاحه يصلح القلب والجسد، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)
وقال كما في الصحيحين: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)
فالاستقامة عمل ومنهج حياة لا ادعاء،
كثير من الناس اليوم يردد كلمة الإيمان والتوحيد من غير أن يصدقها قلبه، ومن غير أن يحولها في حياته إلى واقع عملي، فهو يقف عند قول الله تعالى في أمر فيمتثل، ويقف عند قول الله تعالى في قول آخر فلا يمتثل،
يقرأ قول الله في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]. فيمتثل أمر الله في هذا الجانب، وفي السورة ذاتها يقف عند أمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. فلا يمتثل بل يمانع ويجمع عشيرته وقوته لكي يمنع حكم الله وخاصة إذا كان هو المعتدي.
يقرأ قول الله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. فيمتثل، وفي السورة ذاتها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. فلا يمتثل.
يسمع قول الله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] فيمتثل، ويسمع قول الله : {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فلا يمتثل !
إن كان الحق له يأتي ويطلب الحكم ويمتثل، وإن كان الحق عليه عارض ورفض وجيَّش الوجاهات والقيادات ليمنع حكم الله فيه {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 47-52].
من الناس من يردد بلسانه كلمة الإيمان وقد ضيع الصلاة، وامتنع عن الزكاة، وفعل الزنا، وشرب الخمر، وحرص على ذلك، والطامة الكبرى أنه بمجرد أن ردد لا إله إلا الله يعتقد أنه قد حصّل صكاً من صكوك الغفران، بدخول الجنان، والنجاة من النيران.
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].
قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6].
احفظوا الله في فروضه وحدوده وعهوده، يحفظْكم في دينكم وأموالكم وأنفسكم، كونوا مع الله يَكُنِ الله معكم، في حلِّكم وترحالكم، في حركاتكم وسكناتكم، في يسركم وعسركم، في قوتِكم وضعفِكم، في غناكم وفقركم،
قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} .
وقال في حق موسى وأخيه عليهما السلام: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
4- الملائكة تتنزل على أهل الاستقامة
للعلماء في تنزل الملائكة على أهل الاستقامة قولان:
القول الأول: تتنـزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة وهم على فراش الموت، إذا نزل بهم الخطب الأفضع، والأمر الأشنع، وسكرات الموت، التي لا يستطيع أي بليغ أو فصيح مهما أوتي من بلاغة وبيان أن يعبر عنها على الإطلاق؛ لأن هذا مما لا يدرك إلا إذا واقعه وعاينه الإنسان بنفسه.
تتنـزل إليهم الملائكة إن كانوا من أهل الإيمان والاستقامة لتبشرهم بهذه البشارة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30- 32]
القول الثاني:
تتنـزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور، ففي هذا اليوم العصيب يخرج أهل الإيمان والاستقامة من القبور، فتستقبلهم ملائكة العزيز الغفور بالبشارات: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30-32].
{نزلاً}: أي ضيافة وإكراماً وإنعاماً من غفور رحيم، غفر لكم الذنوب ورحمكم في يوم الأهوال والكروب.
هذا جزاء المؤمنين المستقيمين على طاعة رب العالمين جل وعلا، نسأل الله أن يجعلنا منهم.