قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
عباد الله، إن النجاة من النار والفوزَ بالجنةِ ليسَ بالأمر الهين، بل هو أمرٌ في غايةِ الصعوبة لولا رحمة الله، ولهذا جاء كتاب الله بلفظٍ يدلُّ على هذه الصعوبة، فقال تعالى: {فمن زُحْزِحَ عن النار} وأهل العربية يقولون أن لفظ الزحزحة يدل على صعوبة الانتقال.
هذه الصعوبة تكمُنُ في أن الجنّة أحِيطت بأمور شديدة على النفس، عصيّةٍ عليها، صُعوبَتها تصرفُ الناس عن الجنة. والنار أحيطت بأمور وأشياءَ وملذاتٍ تحبها النفس، ومحبتُها لهذه الأشياء تستدرجها لدخول النار، هذا مكمن الصعوبة في الدخول إلى الجنة، والنجاة من النار، وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بيان عندما قال: (حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ).
وذلك من التمثيل الحسن، إذ جعل الجنة والنارَ محجوبتين بالمكاره والشهوات، فمن هتكَ الحجابَ وصلَ إلى المحجوب، فعُلِمَ بذلك أنه لم يعدِ الطريقُ إلى الجنة سهلاً، بل هو طريق وعْرٌ محفوفٌ بالمتاعِبِ والآلام، والدموع والعرق، والدم والتضحيات، وبذلِ كلِّ ما في الوسع، ليس طريقًا مليئًا بالمُتع والشهوات والنزوات، فمن أراد الجنة ونعيمَهَا فليوطن نفسه لتحمل هذه المكاره التي حُفت بها، فلا يصلُ إلى الجنة أحدٌ إلا إذا تجرَّع من غصص هذه المكاره التي تحيط بها، كالصَّبْر على المِحَنِ وَالبَلايَا والمَصَائِب، والصبر على الطاعات التي تشق على النفس كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك، فالجنة لا ينالها ويحظى بنعيمها إلا من تخطى شدائد دنياه، إذ هي الثمن الذي اشترى الله به نفوس المؤمنين وأموالهم، قال تعالى: {إنّ اللهَ اشْترى مِنَ المُؤْمِنينَ أنفُسَهمْ وأموالَهمْ بأنَّ لهُمُ الجنّة يُقاتِلونَ في سبيل اللهِ فيَقتُلونَ ويُقتَلونَ وعْدًا عليهِ حقًا في التوراةِ والإنجيل والقرآن ومَنْ أَوْفَى بعهدِهِ مِنَ اللهِ فاسْتَبشِرُوا بِبَيْعكمُ الذي بايَعْتُمْ به وذلك هو الفوزُ العظيمُ}.
أما النارُ فحفت بالشهوات، وشهوات الدنيا كثيرة، وكذلك الشبهات. فهل تصبر عن الشهوات؟ شهوةِ الفرج، وشهوة البطن، وشهوة الجاه، وشهوة المنصب.
في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ، قَالَ: يَا رَبِّ فَوَعِزَّتِكَ لا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلا دَخَلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذهَبْ إِلَى النَّارِ، فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ وَعِزَّتِكَ لا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: يَا رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلا دَخَلَهَا). نسأل الله العافية.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ).
سلعة الله غالية! سلعة الله الجنة! خلقها الله يوم خلقها، وخلق فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. خلقها الله وجعلها دار رحمته وكرامته ورضوانِه ثم قال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}.
ألا إن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة! {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ألا فالسباق السباق! جددوا السفن فإن البحرَ عميق، وأكثروا الزاد فإن السفر طويل، وخففوا الحمل فإن العقبة كئود: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
فواعجبا لها كيف نام طالبُها؟ وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها؟ وكيفَ طاب العيشُ في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟ وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟ وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟ وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟ وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟
وَمَا ذاكَ إلا غَيْرَةً أنْ يَنالهَا
سِوَى كُفئِهَا وَالرَّبُّ بالخَلقِ أعْلمُ
وإنْ حُجِبَتْ عَنا بكلِّ كريهَةٍ
وَحُفتْ بمَا يُؤذِي النفوسَ وَيُؤلِمُ
فلِلهِ مَا فِي حشوهَا مِنْ مَسَرَّةٍ
وَأصْنافِ لذاتٍ بهَا يُتنعَّمُ
ولِلهِ برْدُ العَيْش بَيْنَ خِيَامِهَا
وَرَوْضَاتِهَا وَالثغْرُ فِي الرَّوْضِ يَبْسُمُ
فحَيَّ عَلى جَناتِ عَدْنٍ فإنهَا
مَنازلنا الأولَى وَفِيهَا المُخيَّمُ
وَحَيَّ عَلى رَوْضَاتِهَا وَخِيَامِهَا
وَحَيَّ عَلى عَيْش بهَا ليْسَ يُسْأمُ
أيَا سَاهِياً فِي غمْرَةِ الجَهْلِ وَالهَوَى
صَريعَ الأمَانِي عَمَّا قلِيلٍ سَتندَمُ
أفِقْ قدْ دَنا الوَقتُ الذِي ليْسَ بَعْدَهُ
سِوَى جَنةٍ أوْ حَرِّ نارٍ تُضْرَمُ
فإنْ كُنتَ لا تدْري فتِلكَ مُصِيبَة
وَإنْ كنتَ تدْري فالمُصِيبَة أعْظمُ
قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
يا مذنباً أذنب وأساء، وكلنا ذاك المذنب، يا مخطئا زل وأخطأ وكلنا ذلك المخطئ؛ عودة إلى الله: {خيْرُ الخَطائِينَ التوَّابُون}، يقول الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم، إنك ما دَعَوْتَني ورَجَوْتَني: غفرتُ لك على ما كان منكَ ولا أُبالي، يا ابنَ آدم لو بلغتْ ذنوبُك عَنَانَ السماء، ثم استغفرتني، غَفَرْتُ لك ولا أُبالي، يا ابنَ آدم إنك لو أتيتني بِقُراب الأرض خَطَايا، ثم لَقِيتَني لا تُشْرِكُ بي شيئاً، لأَتَيْتُكَ بِقُرابِها مَغْفِرَة).
من لنا إلا أنت يا ربنا إن لم تتب علينا؟ أنت القائل: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم).
فإلى كل مسرف ومقصر، وإلى كل عاص ومفرط، كن على رجاء من الله ولا تقنط وأقبل على الله وقل:
إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّي مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّي
وَما لي حيلَةٌ إِلا رَجائي وَعَفوُكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنُ ظَنّي
وإلى كل مصاب ومبتلى وإلى كل المرضى والجرحى، لا تقنطوا وارجوا من الله الشفاء والدواء فهو القائل: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}.
إلى كل مقهور ومكسور وإلى كل مغلوب ومظلوم لا تقنطوا وارجوا الله رجاء نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}.
يا أهل الرجاء إن فرج الله قادم، يا أهل الرجاء إن نصر الله قادم، يا أهل الرجاء إن عفو الله قادم، فاطرقوا باب الرجاء في الليالي الظلماء؛ فإن رب الأرض والسماء يتنزل إلى السماء الدنيا وينادي هل من طالب حاجة فأقضيها، فقم وقل يا رب أنا صاحب الحاجة أنا المحتاج والمضطر إليك، وردد:
طرقت باب الرجا والناس قد رقدوا
وَبِتُّ أشكوا إلى مولاي ما أجدُ
وقُلتُ يا أمَلي في كلِّ نائبة
ومَن عليه لكشف الضُّرِّ أعتمد
أشكو إليك أموراً أنت تعلمها
ما لي على حملها صبرٌ ولا جلدُ
وقد مدَدْتُ يدِي بالذُّلِّ مبتهلاً
إليك يا خير من مُدَّتْ إليه يدُ
فلا ترُدَّنها يا ربِّ خائبةً
فبَحْرُ جودِكَ يروي كل منْ يَرِد
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
اللهم إنا نسألك بغناك عنا وفقرنا إليك، أن تدخلنا جنتك، وأن تنجينا من نارك، فإنك غني عن عذابنا، ونحن فقراء إلى رحمتك، فارحمنا برحمتك، إنك ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول وأستغفر الله.