الباحث:
مقدمة:
من خلال معرفةِ وظائفِ المنبرِ التي شرحتُها في المقال السابق يتّضِحُ لك عظيمُ أثرِ صولاتِ المنابرِ، ووجوبِ إسنادِها إلى أئمةٍ مؤهَّلين ورجالٍ أكفاءَ، عقائدُهم صافيةٌ ومناهجُهم وسطيةٌ، وقدرتُهم على الإلقاء والإقناع كافيةٌ وكلماتُهم شافيةٌ، قد بلغوا الثريا في العلمِ وأخذوا منه بحظٍّ وافرٍ بغير جهدِ مُقِلٍّ.
فإذا كبا صاحبُ المنبرِ، أُسقِطَتْ معه أممٌ وهَوَتْ في عثراتِهِ قِيَمٌ، فكم أَورَثَ تخاذلُ أصحابِ المنبرِ مِن تخاذُلٍ، وكم ولّدَ خنوعُ كلماتِهم مِن خنوعٍ ظَهَرَتْ أثارُهُ في أفعال العباد، وبانَتْ ثمراتُهُ في حياة الأمةِ، فسَكَنَ المتحرِّكُ للخير، وهَدْهَدَ الثائرُ للحق، وهُوِّنَ على الناس كبيرُ المصابِ الذي لا يجوز أن يهونَ، ولربما كان الراقي غيرَ عارفٍ لأثرِ خطبتِهِ، فخَمَدَتْ فيها صيغُ الدعوةِ للإصلاح، ولم تلمَسِ الجوانبَ الواقعيةَ من حياة الناسِ، فتراه يُطْنِبُ مع إثارةِ جهدِهِ في أمورٍ لا صلةَ لها بالحياة، ويَجتنِبُ كلَّ ما تمَسُّ إليه الحاجةُ وتَعظُمُ معه البلوى.
ولا نستطيعُ أن نقولَ عن مثل هذا إلا أنه خيانةٌ للأمة وغدرٌ بالرعية -مقصودٌ أو عفويٌّ- وعدمُ اقتدارٍ على أن يكونَ على قدرِ المسؤوليةِ، ولا يخفى ما لهذا مِن خطورةٍ يكفي في بيانها ما ثَبَتَ عَن مَعْقِل: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ).
إنّ إيصالَ الفهمِ الصحيحِ للناس وتعليمَهُمُ المنهجَ المرتضى يحتاجُ قبل كلِّ شيءٍ إلى إحساسٍ بالمسؤولية، وتعظيمٍ لقدر أمانةِ المنبرِ، ومعرفةٍ لرسالته ودورِهِ على الوجه الأكملِ، عندها فقط يعودُ المنبرُ كما كان، قلبَ الأمةِ النابضَ ولسانَها الناطقَ.
المنبرُ عبرَ أزمنةِ المسلمين يُمثِّلُ استطلاعَ الرأيِ واستِتْبابَ الأمرِ لولاة الأمورِ، لذلك باشروه بأنفسهم وفرضوا الخطبةَ على الأئمة لهم، ومما يؤكِّدُ هذا كلمةُ عبدِ الملكِ للوليد وهو يحتضرُ، إذْ قال له: "يا وليدُ اتقِّ اللهَ فيما أخلَفَكَ فيه، وانظر الحجاج فأكرِمْهُ فإنه الذي وطَّأَ لكم المنابرَ".
وقد شَعَرَ السلفُ كثيراً بعِظَمِ هذه الأمانةِ، وعرفوا عظيمَ المسؤوليةِ الملقاةِ على راقي المنابرِ، فكم مِن فصيحٍ أَخَذَتْهُ هيبةُ المنبرِ، وكم مِن مُتكلِّمٍ أَسْكَتَهُ الموقفُ عن النُّطقِ بكلمةٍ واحدةٍ؛ والتاريخُ يَذكُرُ مِن هؤلاء الكثيرَ، بل عَدَّهُ بعضُهم مُنَغِّصَ أحلامِ الإمارةِ، فقد كان عبيد الله بن زياد يقول: "نِعْمَ الشيءُ الإمارةُ، لولا قَعْقَعَةُ البريدِ، والتشرُّفُ للخُطَبِ".
ومِن ذلك أنّ عبدَ الله بن عامر صعِدَ منبرَ البصرةِ في يوم عيد الأضحى فحُصِرَ فقال: "لا أَجمَعُ عليكم عِيَّاً وبُخلاً، ادخلوا سوقَ الغنمِ فمَن أَخَذَ شاةً فهي له"...
وصعِدَ عديُ بنُ أرطاة المنبرَ فلما رأى جَمْعَ الناسِ أُرْتِجَ عليه فقال: "الحمد لله الذي يُطعِمُ هؤلاءِ ويَسقيهم" ثم نزل.
وصعِدَ رَوْحُ بن حاتمٍ المنبرَ فلما رأى الناسَ قد أَصْغَوا إليه بأسماعهم ورَمَقوه بأبصارهم قال: "نَكِّسوا رؤوسَكُمْ وغُضُّوا أبصارَكُم فإنّ المنبرَ مَركَبٌ صَعْبٌ، وإذا اللهُ يَسَّرَ فَتَحَ قفلاً تَعَسَّرَ" ثم نزل.
وخطَبَ خالد بن عبد الله القسري فأُرْتِجَ عليه فقال: "إنّ هذا الكلامَ يجيئُ أحياناً ويَعْسُرُ أحياناً، وربما كُوبِرَ فأبى وعُولِجَ فنبا، والتأني لمجيئه خيرٌ من التعاطي لأبيه، وتركُهُ عند تَنَكُّرِهِ أفضلُ مِن طلبِهش عند تَعَذُّرِهِ، وقد يختلِطُ من الجريء جَنانُهُ وينقطِعُ من الذَّربِ لسانُهُ، وسأعودُ فأقولُ" ثم نزل.
وقيل لعبد الملك بن مروان: عجَّلَ عليك الشيبُ! فقال: "كيف لا يُعجِّلُ عليَّ وأنا أَعرِضُ عقلي، على الناس في كلِّ جمعةٍ مرةً أو مرتين؟!".
وقال أبو الحسن المدايني: "لما شَدَّ عبد الملك أسنانَهُ بالذهب قال: لولا المنابرُ ما باليتُ متى سقَطَتْ"
وغيرُهُ مثلُهُ كثيرٌ يدلُّ على تعظيمهم لهذا الموقف الشريف، وهيبَتِهم من مخاطبة عقولِ العباد، وتوجيهِ سلوكِ الحياةِ.
ونحن إذْ نتكلمُ عن المنبرِ فإنما نقصِدُ بكلِّ حرفٍ وكلمةٍ الهدفَ الذي يُشيَّدُ المنبرُ لأجله، والدورَ الذي يُلقى على عاتِقِ صاعِدِهِ، المدرِكِ لحقيقة الموقفِ وعظمةِ المشهدِ وقداسةِ المعنى ورفعةِ التمثيل، فالمنبرُ وسيلةٌ لنقل الأفكار إلى الآخرين، لذلك ينبغي أنْ تكونَ صحيحةً صادقةً منتقاةً، بواسطة الخطبة التي هي من الطرق الإقناعية، بطريقٍ يَجذِبُ القلوبَ ويأسِرُ الأفهامَ فتَنْقادَ الجوارحُ بعد أنْ تخضَعَ العقولُ.