وجوب التناصر بين المسلمين
الخطبة الأولى
أما بعد :
عباد الله :خلق الله البشر وجعلهم شعوبا وقبائل وأعراقا وألوانا مختلفين، ثم ألغى هذه الفوارق الطينية الظاهرة، ونصب رابطة أسمى وأعظم،هي رابطة الدين، ودعا الناس ليجتمعوا ويتعارفوا على أساسها، رابطةً علويةً سماوية، لا رابطة طينية زائفة، إذ تذوب عندها فروق اللون واللغة والوطن والعرق والجنس، لتلتحم القلوب وتأتلفَ النفوس ، يقول سبحانه : (يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰوَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
هكذا أيها الأحبة : فرابطة الدين أساس أخوةٍ وثيقة تؤلّف بين أبنائه في مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل منهم على اختلاف الأمكنة والأزمنة وحدةً متراسِخة سامقة البناء، حيث يعيش الناس في ظل هذه الأخوة الإيمانية وكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة، أو جسد واحد بأعضاء متعدّدة، وهو مصداق قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
مثلٌ رائع سامٍ كبيرُ القدر عظيم المعنى حقيق الواقع دقيق الوَصف جَمّ الفوائد .
وإن لهذه الأخوة الإيمانية-حفظكم الله- علاماتٍ لا بد أن تظهر في السلوك والمشاعر والإحساس :
فمن علامات الأخوّة أن يعرف السلم حقوق إخوَتِه ومصالحهم عنده، ويبادر إلى تأديتها، وأن يشعر بالألم والحزن لأيّ مصيبة تقع بهم، ويندفع إلى كشف ذلك عنهم بحدود طاقته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة))
أيّها الأخوة الكرام : في زمنِ الخُطوب الكِبار والشدائدِ والأخطارِ يتوجَّبُ التذكيرُ بحقيقةٍ ناصِعةٍ ساطعةٍ في الدِّين، وهي: وجوبُ التناصُر بين المسلمين ومُؤازَرة المظلومين والنَّصَفة للمُستضعَفين، ومتى استجارَ المسلمُ بأخيه المسلم، ولاذَ بساحته، ونزل بباحته، واستنصَره واستنفَره؛ وجبَت نُصرته، ولزِمَت إعانتُه، حتى يقوَى ظهرُه، ويشتدَّ أزرُه، ويندحِر عدوُّه، وينكفَّ ظالمُه.
ومتى تحقَّقَت القوةُ والقُدرة وجبَتِ المُؤازرَة والنُّصرة، قال جلَّ في عُلاه: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
ومتى تنازعَ المسلمون وتخاذَلوا، وتواهَنوا وتفاشَلوا، وصار لكل واحدٍ منهم شأنٌ يُغنيه، وهمٌّ يَعنيه، فرَّق العدوُّ جمعَهم، وبدَّد شملَهم، وشذَّب شِكَّتَهم، وخضدَ شوكَتهم، وتسلَّط عليهم، واستباحَ ديارَهم، قال جلَّ في عُلاه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ*يعني: التناصُر والتضافُر في الدين *تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ). قال بعض أهل العلم: (تَكُنْ فِتْنَةٌ)أي: محنةٌ بالحرب وما انجرَّ منها من الغارات والجلاء والأسْر، (وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) يعني: ظهورَ الشرك.
أيّها الأحبة : المسلمُ يُقاسِمُ أخاه الهُمومَ والمكارِه، ويُشارِكه محنَته وبليَّته، ويعيشُ معه مُصابَه ورزِيَّته، لا يخونُه ولا يُسلِمه، ولا يتركُه ولا يخذُله؛ بل يحُوطه ويَنصُره ويعضِدُه؛ فعَن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: ((ما من امرئٍ يخذلُ مسلمًا في موطنٍ يُنتقَصُ فيه من عِرضه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمته، إلا خَذلَه اللهُ في موطنٍ يُحبُّ فيه نُصرتَه، وما مِن امرئٍ ينصرُ مسلِمًا في موطنٍ يُنتقصُ فيه من عِرضه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمته، إلا نصرَه الله في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمِنُ مرآةُ المؤمِن، والمؤمنُ أخو المؤمِن، يكفُّ عليه ضَيعتَه، ويحُوطُه من ورائه))
وعن بَهزِ بن حكيمٍ عن أبيه عن جدِّه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: ((كلُّ مسلمٍ على مُسلمٍ مُحرَّم؛ أخوانَ نصيران)). أي: هما أخوان يتناصَران ويتعاضَدان.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمُ أخو المسلم، لا يخُونه ولا يَكذِبُه ولا يخذُله)) .
وعن عمرو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلِمون تتكافأُ دماؤهم، ويَسعَى بذِمَّتهم أدناهم، ويُجيرُ عليهم أقصاهُم، وهُم يدٌ على من سواهم)) .
عباد الله : إنَّ الأحداثَ المُتلاحقة والوقائع المُتوالية التي نزلت بأرضِ الإسلام، وشاهدَ العالَم من خلالها كيف استهدَفت آلةُ الحرب والقتلِ والقمعِ والتعذيبِ والتنكيلِ الضّعفةَ والعُزَّلَ والأبرياءَ والرُّضَّعَ والأطفالَ والشّيوخَ والنّساء، في صُورٍ منَ الوحشيّة لا يجترئُ عليها إلا عَديمُ الرَّحمة وفاقدُ العقل.
إنَّ تلك الأحداثَ تستوجِبُ اليقظَةَ والاعتِبار والتذكُّر والادِّكار، وما هي إلا محنٌ تُمتَحنُ بها القلوبُ، وتُبتلَى بها النّفوس؛ ليعلمَ الله من يقِفُ معَ المظلوم في وجهِ الظالم، وينصُرُ الحقَّ في وجهِ الباطل، ويَدفَعُ بالسنة في وجهِ البدعة، ويصِلُ يدَه بأهل الإيمان والتوحيدِ في وجه أهلِ الشّرك والخرافة والتنديد، (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)
أقول ما تَسمَعون، وأستَغفِر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين مِن كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
*******************************
الخطبة الثانية
أما بعد :
مهما بلَغَت قوةُ الظَّلُوم وضَعفُ المظلوم فإنَّ الظالمَ مَقهورٌ مخذول مُصفَّدٌ مغلول، وأقربُ الأشياء صرعةُ الظَّلُوم، وأنفذُ السّهام دعوةُ المظلوم، يقولُ رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم: الصائمُ حين يُفطِر، والإمامُ العادلُ، ودَعوةُ المظلوم يَرفَعها الله فوقَ الغَمام، ويفتحُ لها أبوابَ السماء، ويقول لها الربُّ: وعِزَّتي وجلالي، لأنصُرنَّك ولو بعد حين)) .
فسُبحان من سمِع أنينَ المُضطَهد المهموم، وسمِع نداءَ المكروب المغموم، فرفَع للمظلوم مَكانًا، ودمغَ الظالمَ فعاد بعد العِزِّ مُهانًا.
عباد الله : الظلمُ لا يَدومُ ولا يطولُ، وسَيضمحِلُّ ويزول، وللمظلوم المهضُوم السَّطوة والانتصار، وللظالم الجائر المُعتدي الذِّلَّة والصَّغار، والدمار والخَسار، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)