1- لا تعارض بين طلب رضى الله وحبّ النّاس
2- أجمِلْ بالتّحبّب إن كان خالصاً لله تعالى
3- مِن دواعي التّحبّب: الاهتمام بإخوانك
4- مِن دواعي التّحبّب: بسط الوجه وطيب المعشر
5- مِن دواعي التّحبّب: التّواضع والتّقرّب والذّلّة للمؤمنين
مقدمة:
نحن اليوم في زمنٍ طغت فيه المادّيّة، رغم كلّ المصاعب والمتاعب والشّدائد، ممّا يدعونا باستمرارٍ أن نهتم بجانبين اثنين؛ جانب صلتنا بالله تعالى، وتوثيق صلتنا ببعضنا.
إنّنا نلحظ اليوم اهتماماً بالغاً بتوثيق صلتنا من خلال الدّنيا والمصالح، أمّا لرضى ربّنا فقلّةٌ قليلةٌ نادرةٌ، لأجل ذلك -والخطبة إذاعة الأسبوع- أردنا من خلال هذه الإذاعة أن نطوف على بعض وسائل التّحبّب إلى عباد الله تعالى، علّنا أن نسعد بتطبيقها؛ فيُسعدنا الله في حياتنا كما أسعد الصّحابة الكرام.
1- لا تعارض بين طلب رضى الله وحبّ النّاس
إنّ الهمُّ الأوّل والأخير عند المؤمن الصّادق هو تحقيق رضى الله تعالى، فإذا رضي الله عنه فماذا يطلب بعده؟
لكنّ هذا الهمّ والقصد النّبيل لا يتعارض مع التّحبّب إلى عباد الله المؤمنين، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ).
وإذا كان الباري قد حذَّر حبيبه المصطفى ورسوله المجتبى من الغلظة والفظاظة الّتي تستدعي نفرة النّاس وانفضاضهم، فقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
ولقد كان الصّحابيّ الجليل أبو هريرة رضي الله عنه يطلب من النّبيّ أن يدعو له بالحبّ والتّحبّب: قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اللهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا -يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ- وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمِ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي).
2- أجمِلْ بالتّحبّب إن كان خالصاً لله تعالى
لكنّ هذا الخُلق اللطيف إن لم يُتوَّج بالإخلاص لله تعالى كان نوعاً من النّفاق والمداهنة والتّزلّف، وسرعان ما يزول الدّهان ويظهر الصّدأ والعيب، فالحبّ في الله تعالى هو الّذي يحملك على أن تكسب حبّ النّاس، ولا سيّما حبّ الصّالحين منهم، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} [مريم: 96].
إذاً الواجب تحرير النّيّة عند هذا الخُلق (وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ).
وهذه الخصلة الطّيّبة -التّحبّب للمؤمنين- إن كانت منبثقة من القلب ورائدها الإخلاص؛ فإنّها بلا شكٍّ خير دليلٍ على كمال الإيمان، ففي الحديث: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ).
3- مِن دواعي التّحبّب: الاهتمام بإخوانك
إنّ من أهمّ المفاتيح المتّخذة لفتح أقفال قلوب النّاس؛ أن تُظهر مزيداً من الاهتمام بهم، ففي شمائل الحبيب صلى الله عليه وسلم صورٌ صارخةٌ رائعةٌ من اهتمامه البالغ بمن حوله، فقد كان يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم.
يشمل اهتمامه صلى الله عليه وسلم كلّ طبقات المجتمع؛ فيملك قلوبهم جميعاً:
اهتمامه بالنّساء: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَغُلَامٌ أَسْوَدُ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ يَحْدُو، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ).
اهتمامه بالأطفال: المتأمّل في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسيرته يجد أنّه أعطى الطّفل نصيباً من وقته، وجانبا كبيراً من اهتمامه، فكان صلى الله عليه وسلم مع الأطفال أباً حنوناً، ومربّياً حكيماً، يداعب ويلاعب، وينصح ويربّي..
ومع كثرة همومه وشدّة اشتغاله صلى الله عليه وسلم بأمور الجهاد والدّعوة والعبادة وأمور النّاس، إلّا أنّه كان يلاطف أطفال الصّحابة، ويُدخل السّرور عليهم، وهو مَنْ هو صلى الله عليه وسلم في علّو منزلته وعِظم مسؤوليّاته..
ومواقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّتي تبيّن مدى حبّه ورحمته بالأطفال كثيرةٌ، منها مداعبته وملاطفته لِعُمَيْر رضي الله عنه، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ -قَالَ: أَحْسِبُهُ- فَطِيمًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ) نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا.
اهتمامه بالفقراء: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ)، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا، فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ) أَوْ قَالَ: (لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ).
ولو أردنا أن نستعرض اهتمامه وتلطّفه لما وسعنا المقام، غير أنّها شذراتٌ من سيرته العطرة في اهتمامه بمن حوله، حتى بهرتهم صفاته فتعلّقوا به، وإنّهم لمعذورون، إذا كان قد اهتمّ بجذع شجرةٍ وقد حنَّ إليه، فكيف لا يهتمُّ بأرواحٍ هامت به واستسلمت بين يديه؟!
عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: "كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ".
إذا كانت تحنُّ لك المطايا فماذا يفعل الصّبُّ المشوقُ؟!
4- مِن دواعي التّحبّب: بسط الوجه وطيب المعشر
وإنّ من المفاتيح المهمّة أيضاً: بسط الوجه، واللقيا بالتّرحيب، والاستقبال بالبشاشة، واستدامة التّبسّم، فكم أسرت ابتسامة الحبيب صلى الله عليه وسلم من أناسٍ شاردين، بل كانوا من المعرضين، بل منهم من كان من المبغضين، وهذا ما حصل مع الصّحابيّ الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه: عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، يَبَكِي طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: (مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟) قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: (تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟) قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟) وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي.
لقد دعته ابتسامة الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يسأله سؤالاً غريباً، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَمْرَو بْنَ العَاصِ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلاَسِلِ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ)، قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: (أَبُوهَا)، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (عُمَرُ)، فَعَدَّ رِجَالًا، فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ.
وحالة التّبسّم هذه لم تكن أحياناً فقط، بل وصفه الصحابة بكثرة التّبسّم، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
لقد كان صلى الله عليه وسلم أحسنَ النَّاسِ خُلُقًا، سَهْلًا ليِّنًا في مُعاملةِ النَّاسِ، يَنبسِطُ إليهم، ويَضحَكُ تبسُّمًا معَهم.
وهذا ما ربّى عليه صحابته الأبرار الأطهار الأخيار، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقِ بالشَّامِ، فَإِذَا أَنَا بِفَتًى بَرَّاقِ الثَّنَايَا، وَإِذَا النَّاسُ حَوْلَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ، وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالْهَجِيرِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: بِالتَّهْجِيرِ، وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَللَّهِ؟ فَقُلْتُ: أَللَّهِ، فَقَالَ: أَللَّهِ؟ فَقُلْتُ: أَللَّهِ، فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ: أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: (وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِين فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ).
5- مِن دواعي التّحبّب: التّواضع والتّقرّب والذّلّة للمؤمنين
مِن أعظم مفاتيح القلوب: التّواضع، خصوصاً لمن تصدّر لقيادة النّاس أو دعوتهم أو توجيههم، فلا بدّ له لكسب قلوبهم من أن يتمتّع بقدرٍ كبيرٍ من التّواضع، لذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشّعراء: 215].
ومع رِفعة مقام الحبيب الّذي منحه الله إيّاه، فقد تميّز بتواضعٍ جمٍّ، وافتقارٍ إلى الله تعالى كبيرٍ، فإنّه حينما رأى رجلاً يرتعد منه، وكأنّما يظنّه من ملوك الأرض، أعطاه رسالةً واضحةً وحجّةً دامغةً في دنيا الغرور والظّهور والتّكبّر، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: (هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ).
كيف لا يحبّه الصّبيان وهو الّذي يسلّم عليهم ويلاطفهم ويمازحهم بكلّ تواضعٍ، وقد كان يمرّ بالصّبيان فيسلّم عليهم، تستوقفه الجارية في الطريق وتحدّثه، فما ينصرف عنها حتّى تكون هي الّتي تنصرف، كيف لا يحبّه أصحابه؛ وهو الّذي عندما كان في أوج انتصاره في فتح مكّة، منكّس الرأس تواضعاً لربّه، حتّى كاد يمس جبينه الرّحل من تواضعه.
وإنّ أبلغ ما جاء في تواضعه حينما يسأل الدّاخل: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟
ما تميّز عن صحابته بملبسٍ، ولا بمجلسٍ، ولا بمطعمٍ، أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟
وختاماً: إنّنا بأمسّ الحاجة اليوم إلى تقوية أواصر المحبّة بيننا، والبحث عمّا يقرّبنا من بعضنا، وإنّ اختيار المداخل إلى القلوب لمن صلب ديننا، كما فتح الحبيب صلى الله عليه وسلم أقفالها بحكمته من خلال تنوّع الوسائل والدّواعي والأساليب.
وأصل الأمر كلّه أن تنال محبة الله تعالى، بإيمانٍ متجذّرٍ في القلب وأعمالٍ صالحةٍ ترضي الله تعالى، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} [مريم: 96].
حتّى يضع الله له القبول في الأرض، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ).
فلنحرص في الدّرجة الأولى على حبّ الله تعالى؛ ليضع لنا القبول، ثمّ نتخلّق بما يدعو إلى التّحبّب لعباد الله المؤمنين؛ ليفتح لنا قلوبهم.