1- جبر الخواطر مفهومٌ قرآنيٌّ، ولو لم يأتِ بنصّ هذه الكلمة
2- رُبّ كلمةٍ تبدو صغيرةً، لكنّها تجبر خاطر من طال انتظاره لها
3- جبر الخواطر حتّى في مواطن الفرح
4- مدُّ اليد الحانية جبرٌ للخاطر ولو لمخالفٍ
5- اهتمامك بالآخرين عين جبر الخاطر
6- الحبيب صلى الله عليه وسلم مدرسة جبر الخواطر
مقدمة:
دعوةٌ بلهجةٍ شاميّةٍ، تتمنّى أن تُنهيَ بها وحدها اللقاء مع من تتحدّث إليه من أهل الشّام: "ربّي يجبر بخاطرك"، فيها من الأُنس والرِّقّة والسّكينة الشّيء العجيب، فيها من الرّاحة والطّمأنينة ما تستقرّ به النّفس رغم لأواء الواقع ومرارة الظّرف الرّاهن، فيها من الأمن والأمان والسِّلم والإسلام ما يُنسيك المخاوف على كثرتها والمدلهمّات وزخمها، فيها ذهاب القلق واضمحلال الأسى وزوال الألم، فالله الجبّار إذا جبرك من يستطيع كسرك؟ وإذا منحك من يستطيع منعك؟ وإذا آواك من يستطيع تشريدك؟
وبما أنّ الجزاء من جنس العمل؛ كيف لنا أن نجبر بخواطر بعضنا! حتّى يجبر الله تعالى خاطرنا، لذلك ينبغي أن نقف عند هذه الكلمة (جبر الخواطر).
1- جبر الخواطر مفهومٌ قرآنيٌّ، ولو لم يأتِ بنصّ هذه الكلمة
هذا الخُلق العظيم يدلُّ على شفافيّة روح المسلم، وتفانيه في زرع الابتسامة على شفاهٍ طال عُبوسها من الشّدّة والضّنك والأسى، والقرآن الكريم وإن لم يأتِ بنصّ هذه الكلمة (جبر الخاطر)، غير أنّه مليءٌ بمؤدّاها ومفادها، {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضّحى: ٩ – ١٠].
ألم يُعاتب الله تعالى حبيبه المصطفى وخليله المجتبى من أجل عبدٍ ضعيفٍ أعمىً -كما وصفه القرآن- جاء يطلب الهداية، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد انشغل بدعوة غيره طمعاً في هداية كبار قريش، فجاء القرآن معاتباً المصطفى وجابراً لخاطر ذلك العبد الضّعيف الّذي جاء وصفه في القرآن بأنّه أعمى، ومع أنّه لا يرى تقطيب جبين الحبيب صلى الله عليه وسلم في وجهه، مع ذلك أتى بها مزيداً في تطييب خاطره، {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 1-4].
وحتّى أنّ يوسف عليه السلام بعد كلّ الّذي صنع معه إخوته، وجمعه الله بهم، ما أتى على ذِكر الجبّ مطلقاً، حفاظاً على مشاعرهم من الجرح، وصيانةً لخواطرهم من الكسر، بل اكتفى بذِكر إنعام الله عليه بالخروج من السّجن فقط، دون التّعريض بذِكر جبٍّ أو غيره، وسمّى كلّ المؤامرة الّتي تآمروا بها عليه (نزغاً من الشّيطان)، وبدأ بنفسه قبل إخوته، فلنستعرض الآية، ونستشعر جبر الخواطر فيها... {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100].
وهذه الآيات الّتي استعرضناها لتدلّنا دلالةً واضحةً على عُمق تأثير الكلمة في قلب من قيلت له، وهذا بدوره ينقلنا إلى المحور الثّاني في انتقاء الكلمة الّتي قد تبدو صغيرةً، لكن ربّما تجبر خاطر من ينتظرها بفارغ الصّبر.
2- رُبّ كلمةٍ تبدو صغيرةً، لكنّها تجبر خاطر من طال انتظاره لها
كما أن الكلمة -من رضوان الله- الّتي لا يُلقي المتكلّم لها بالاً ترفعه عند الله درجاتٍ، وكما أنّ الكلمة -من سخط الله- الّتي لا يُلقي لها المتكلّم بالاً تنزله في الهاوية دركاتٍ؛ كذلكم في ميدان جبر الخواطر قد تبدو تلك الكلمة صغيرة المبنى، ضئيلة الحروف، قليلة التّراكيب، غير أنّها تُسعد محزوناً، وتُفرح مكلوماً، وتُقرُّ عين من برّح به الألم.
ولعلّ من أعظم الشّواهد على هذا تلك الدّمعة الّتي انبثقت من المرأة الأنصاريّة مواساةً لأمّنا الحَصان الرَّزان الطّاهرة العفيفة الصّدّيقة عائشة رضي الله عنها، قالت: "فَبَيْنَا أَبَوَايَ جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي".
حرّك عواطفك تجاه إخوانك المستضعفين؛ فلعلّ تلك الكلمة الّتي تزوّرها في نفسك وتلقيها على مسامع من برّحت بهم هذه الأحداث أن تجبر خاطرهم فيجبر الله تعالى خاطرك، أطلق لعينيك العنان؛ فلعل الدّمعة الّتي جبرت خاطر أمّنا عائشة أن تجبر خواطر أمّهاتنا اللواتي يقطنّ المخيّمات، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ).
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ).
3- جبر الخواطر حتّى في مواطن الفرح
ليس جبر الخواطر محصوراً في حالات الألم والجراح والأسى، بل وحتّى في حالات الفرح، فما أجمل أن تُبارك لمن رُزق بفلذة كبدٍ طال انتظاره لها، ما أجمل أن تزرع مزيداً من الابتسامة على وجه شابٍّ يُزفّ إلى عروسه، ما أجمل أن تُبارك لإنسانٍ بمركوبٍ أو سكنٍ أو ملبوسٍ، ما أجمل أن تُسعد إنساناً اشترى عطراً بكذا وكذا لتشمّه أنت وغيرك بكلمة ثناءٍ على ذوقه الرّفيع وعلى إحساسه المرهف الأنيق واختياره المتألّق الموفَّق، ففي توبة كعبٍ صورةٌ عمليّةٌ من صور التّعاطف الاجتماعيّ لجبر الخاطر، حيث ذهب عددٌ من المبشّرين، فناداه أحدهم قبل أن يصل إليه، يقول كعبٌ: سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ، أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الفَجْرِ، وتلقّاه النّاس فوجاً فوجاً يهنّئؤنه بالتّوبة، قال: وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: (أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ).
كلّ الصّحابة تفاعلوا معه، لكنّه لا ينسى موقفاً فريداً لطلحة، قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ، وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.
تُرى كم من المواقف تمرّ بنا! وكم ثناءً نسمعه، أو دفاعاً نلقاه! ثمّ لا نلبث نشكر لهذا الإنسان صنيعه أو مديحه في أعماقنا، و(لا ننساها) له.
ولكن ما الّذي يجعل مساندةً واحدةً متفرّدةً، ومديحاً بعينه له الأثر الأعمق؟ في الغالب يكون هذا تبعاً للموقف نفسه ومدّى تفرده، ولمدى حاجة الإنسان إليه، والأثّر الّذي أحدثه.
ما الّذي ميّز موقف طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه عن غيره من الصّحابة؟ ففي الموقف أعلاه، معلومٌ أنّ كعب بن مالك ورفقاءه الثّلاثة -ممن خُلِّفوا- قد عانوا مقاطعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين لهم على مدى أربعين يوماً وليلةً، فلمّا تاب الله عليهم، وجاؤوا إلى المسجد النّبويّ، وجاء المسلمون يهنّئونهم؛ أقبل صحابيٌّ واحدٌ وهو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وقام بتصرّفٍ لم يسبقه إليه أحد، ولا كرّره شخصٌ بعده، فكان أن كسب قلب كعبٍ رضي الله عنه لدرجة أنّ كعباً يحكي هذه التّجربة لولده، دون أن يُغفل ذِكر موقف طلحة رضي الله عنه.
أوّل أمرٍ ميّز تصرّف طلحة رضي الله عنه هو أنّه هرول إليه، أي: أسرع الخطى، وصافحه.
أمّا الشّأن الثّاني: فهو أنّه لم يقم له أحدٌ آخر من كلّ المهاجرين إلّا هو!
وثالثًا: وهو عُمق الأثر الّذي تركه هذا العمل على قلب كعبٍ رضي الله عنه، حيث كان في أمَسِّ الحاجة لإحساسه بالانتماء والقرب من إخوانه من المسلمين، بعد أكثر من شهرٍ من المقاطعة التّامّة.
وجه الاستفادة: لا تكتفِ بمجرّد العطاء وكن متفرّدًا!
4- مدُّ اليد الحانية جبرٌ للخاطر ولو لمخالفٍ
كم نحن بحاجةٍ إلى اليد الحانية الّتي تمتدّ إلى صدور شبابنا فتخلّصهم من أدران الشّهوات ومن أوضار الشّبهات، فتجبر بخاطرهم وتردّهم إلى الصّواب، كما جبر الحبيب بخاطر الشّابّ الّذي جاء وغريزة الفاحشة تثور في صدره، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ، مَهْ، فَقَالَ: (ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا)، قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: (أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟) قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟) قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟) قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟) قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟) قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ)، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ)، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.
لقد عالجه الحبيب المصطفى بمعالجة المحاكمة العقليّة، أترضاه...؟ ثّم وضع يده الحانية على صدره؛ مستلّاً بها سخيمة صدره، حتّى خرج وما شيءٌ أبغض عليه من الفاحشة، بالله عليكم أيّ جبرٍ للخاطر أعظم من أن تمدّ يدك لشاردٍ عن باب الله فتأتي به مذعاناً مطواعاً إلى رحاب الله تعالى؟!
5- اهتمامك بالآخرين عين جبر الخاطر
مِن أهمّ دقائق جبر الخواطر أن تعرف حوائج إخوانك فتهتمّ بهم، فليس الأمر دوماً مادّيّاً، بل على الغالب يكون معنويّاً، موقفٌ من مواقف الحبيب نرى فيه اهتمامه بالأنصار الكرام، وإظهاره الحبّ لهم، فيه من دروس جبر الخواطر ما فيه، إنّه من أقرب المواقف إلى القلوب، يدغدغ فيها عاطفة الإيمان، ويبرق فيه بارق الحنين، تنبجس من شدة تأثيره عيون العيون، لا يملّ من ذِكره الواعظون، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: (فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، وَمَا أَنَا؟ قَالَ: (فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ)، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ، فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟)، قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: (أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ)، قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ، قَالَ: (أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ)، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَفَرَّقُوا.
6- الحبيب صلى الله عليه وسلم مدرسة جبر الخواطر
من يستعرض حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم يجدها مبنيّةً على جبر الخواطر، مع الصّغار والكبار والفقراء والضّعفاء، فهو مدرسة هذا الخُلق ومشكاة هذا الفنّ.
مع الصّغار: هل تعرفون أبا عُمير؟ إنّه طفلٌ صغيرٌ جداً، لا يتجاوز عمره ثلاث سنواتٍ، وهو أخو الصّحابي الجليل أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، وانظروا إلى ملاطفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم له، وجبر خاطره: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ -قَالَ: أَحْسِبُهُ- فَطِيمًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ) نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا.
مع البسطاء: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ)، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا، فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ) أَوْ قَالَ: (لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ).
في النّصيحة: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ)، فَقَالَ: (أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ).
في إصلاح الخطأ: عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ).
وسيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم حافلةٌ بمثل هذه المواقف العطرة، وهذه على سبيل المثال لا الحصر.
ختاماً: العبادة ترتفع قيمتها بحسب الحاجة إليها، وحاجتنا اليوم إلى خُلق جبر الخواطر ماسّةٌ، وماسّةٌ جدّاً، فالهموم عِظام، والجراح بليغةٌ، والآهات داكنةٌ سوداء، من لها غير مرهم كلماتكم الطّيّبة ومواقفكم النّبيلة، حتّى تغسل أوضارها، وتضمّد جراحاتها، وتهمس في أذن القلوب كلماتٌ ملؤها جبر الخواطر، هذه الجِراح من لها غير أياديكم الحانية، أن تمتدّ لها فتخرج ما فيها من وعثاء، وتضع عليها الدّواء الناجع، فلا تسمع إلّا نداءً خفيّاً (شفاءً لا يغادر سقماً)، وإن تقبّل الباري جبر خاطرٍ لمستضعفٍ فسيجبر خاطرك بجبرٍ يتعجّب منه أهل السّماء والأرض، فيمنحك الرّضا والسّكينة والحكمة والبركة، فلا تمتدّ إليك إلّا أيادي الخير، ولا تنطلق الألسن إلّا بما فيه الخير، ولا تمشي الأقدام إليك إلّا لخيرٍ، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].