1- حرمة الدّم المسلم، ووجوب المحافظة عليه
2- توفّر الأمن ضرورةٌ من ضرورات الحياة
3- كثرة القتل من أشراط السّاعة
مقدمة:
لقد صان الإسلام النّفوس، وحافظ على الأرواح والدّماء والأموال، وحذّر من القتل إلّا بحقٍّ، يتساوى في ذلك كلّ النّاس من سائر الألوان والأجناس، لأنّ الإنسان بنيان الله في الأرض، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأطعمه ورعاه وسقاه، ومنحه الصّحّة، ووكّل أمر موته إليه، فلا يحقّ لأيّ إنسانٍ أن يهدم هذا البنيان، أو يزهق تلك الرّوح إلّا بإذنٍ من الله ورسوله، لأنّ الّذي وهب الحياة هو وحده الّذي يملك الحقّ في قبضها وهو الله عز وجل.
1- حرمة الدّم المسلم، ووجوب المحافظة عليه
إنّ الشّريعة الإسلاميّة كلّها عدلٌ ورحمةٌ وخير للنّاس كافّةً، حيث جاءت بكلّيّات خمسٍ أوجبت حفظها، وحمت حماها، وحدّت الحدود للحيلولة دون النّيل منها، إنّها الدّين والنّفس والمال والعِرض والعقل، ففي سبيل حفظ الدّين تزهق الأنفس المسلمة في الجهاد في سبيل الله، لأنّ حفظ الدّين مقدّمٌ على حفظ النّفس وما بعدها، ولأجل الحفاظ على النّفس حرّم قتل النّفس المسلمة بغير حقٍّ، وأمر بالقصاص من القاتل، فقال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
وهذا القصاص الّذي شرع ليس انتقاماً ولا إرواءً للأحقاد، بل الحكمة فيه أنّه حياةٌ للنّاس جميعاً، لأنّ الإنسان إذا علم أنّه إن قَتل سيُقتَل كفّ عن القتل، فكأنّ في ذلك حياةً له وحياةً لمن أراد قتله وحياةً للمجتمع بأسره، وإنّ من أوامر الشّريعة العظيمة بعد توحيد الله تعالى: حفظ النّفس وعدم الاعتداء عليها إلّا بحقّ الإسلام، وهذا من رحمة الله بعباده حتّى ينعموا بالحياة الدّنيا ويكسبوا منها الخير المؤدّي إلى النّعيم المقيم، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النّساء: 29].
ولقد جاءت نصوص الكتاب والسّنّة مؤكّدةً هذا المعنى العظيم لتسعد الأمّة بالأمن والأمان والسّعادة والاطمئنان، وكفى بالاعتداء على النّفس شناعةً في أصحاب الفِطَر السّويّة علمهم بأنّ عقاب هذا الاعتداء وخيمٌ وشديدٌ، حيث توعّد الله سبحانه قاتل النّفس المؤمنة بالنّار والخلود فيها والغضب واللّعنة والعذاب العظيم، فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النّساء: 93].
وإنّ قتل النّفس بغير حقّ كبيرة من كبائر الذنوب، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ، -أَوْ قَالَ: وَشَهَادَةُ الزُّورِ).
ولقد حرّم الإسلام دم المسلم وأمر بالمحافظة على عرضه وماله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ).
وجعل كلّ من شهد شهادة التّوحيد والتزم بالصّلاة والزّكاة معصوماً؛ يحرم علينا قتله إلّا بحقّ الإسلام، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ).
ولقد جاءت السّنّة المطهّرة لتبيّن هذه الأسباب المبيحة قتل الإنسان إن فعل واحدةً منها، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عز وجل قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ).
ألا ما أجمل هذه الشّريعة الغرّاء عندما حفظت حقّ النّفس وحثّت على المحافظة عليها، فوعدت بالجزاء الكريم لكلّ من ابتعد عن الشّرك وقتل النّفس، بالنّعيم الأبديّ في جنّات النّعيم يدخلها من أيّ أبوابها شاء، فحريٌّ بالمسلم أن يبتعد أشدّ البعد عن الدّم الحرام، لأنّ الأمر جدّ خطير، وإنّ من ورطات الأمور الّتي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، أن يكون في عنق المسلم دمٌ حرامٌ.
فإياك قتل الّنفس ظلماً لمؤمنٍ فذلك بعد الشّرك كبرى التّفسّدِ
كفى زاجراً عنه توعّد قادرٍ بنارٍ ولعنٍ ثمّ تخليد معتدِ
2- توفّر الأمن ضرورةٌ من ضرورات الحياة
إنّ وجود الأمن ضرورةٌ من ضرورات الحياة، قد تفوق ضرورة الغذاء والكساء، بل إنّه لا يستساغ طعامٌ إذا فقد الأمان، والأمان في حقيقته ومعناه لا يكون إلّا مع الإيمان، والسّلام في ماهيّته لا يكون إلّا مع الإسلام، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
ومن دخل في الإسلام فقد دخل في دائرة الأمن والأمان، وعصم دمه وماله.
إنّنا نعيش الآونة المتأخّرة التي أخبرنا عنها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه يكثر فيها القتل، في الوقت الّذي يتخلّى فيه النّاس عن عقولهم، عَنِ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ)، قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: (الْقَتْلُ)، قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ، إِنَّا لَنَقْتُلُ كُلَّ عَامٍ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، قَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا)، قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ).
وها نحن نرى في حياة كثيرٍ من المسلمين –والعياذ بالله- في كثيرٍ من وسائل الإعلام؛ انتشار مثل هذه الظّاهرة الخطيرة، ألا وهي: القتل والاقتتال وسفك الدّماء بدون حقٍّ، حيث رأينا قتل الجار لجاره لأتفه الأسباب، بل ولربّما قتل الأب ابنه لأنّه لم يمتثل أوامره، وقد انتشر قتل النّاس بعضهم بعضاً وأراقوا دماء بعضهم بسببٍ ومن دون سببٍ، متجاهلين بذلك أحكام الإسلام وأوامره ونواهيه، والّتي ما جاءت إلّا للمحافظة على النّفس المسلمة البريئة من إزهاقها وقتلها بغير حقٍّ، حيث نرى الشّرع قد سدّ كلّ الطّرق الّتي قد تؤدّي إلى إزهاق الرّوح، فنهى عن الإشارة إلى مسلمٍ بسلاحٍ ولو مزاحاً -سدّاً للذّريعة- عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ).
فإذا كان مجرّد الإشارة إلى مسلمٍ بالسّلاح منهيٌّ عنه ولو كان الأمر من قبيل المزاح، لأنّه قد يقع المحذور ولات حين مندمٍ، فكيف بمن يقتل الأنفس البريئة ويروّع المسلمين الآمنين بعمليّات التّفجير للمحلّات التّجاريّة والأسواق العامّة ويقوم بعمليّات الخطف والاغتيال للنّاس الآمنين حين تغيب أعين الرّقباء من النّاس؟! ولكنّه يتجاهل رقابة الله تعالى وعقابه الّذي لا يخفى عليه مخطّطاتهم الخبيثة وتنفيذاتهم الإجراميّة، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].
فأيّ قسوةٍ وغلظةٍ انطوت عليها قلوب هؤلاء القتلة المجرمين؟! ولكن لا غرابة في هذا بعد أن أخبرنا ربّنا سبحانه بأنّ بعض القلوب أقسى من الحجارة، فقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
ألا ليت هؤلاء يأخذون عبرةً وعظًة ممّا قصّه الله علينا في القرآن عن أوّل جريمة قتلٍ حدثت على وجه الأرض، وهي قصّة قتل قابيل لهابيل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِين} [المائدة27-28].
فذكر الحاجز-الخوف من الله تعالى- الّذي يمنعه عن أن يقابل اعتداءه باعتداءٍ، لأنّه يخاف الله ربّ العالمين، فليس عجزاً ولا قعوداً عن المدافعة عن نفسه ولا ضعفاً، بل هي خشية الله تعالى الّتي حجزته عن أن يقابل هذا التّهديد بمثله {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29].
ثمّ أخبرنا سبحانه أنّ هذا الإنسان كان في منازعةٍ مع نفسه، هل يقدم أم لا؟ هل ينفّذ التّهديد أم يمتنع؟ لكنّه غلبه شيطانه ونفسه الأمّارة بالسّوء؛ حيث سوّغت له وأوجدت له مبرّراً للقتل، قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30].
فماذا كانت النّتيجة مباشرةً؟ {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30].
بهذا حكم ربّ العالمين على كلّ قاتلٍ يقتل نفساً بغير حقٍّ، أنّه من الخاسرين، وإنّه لخسرانٌ مطبقٌ لا يخرج منه أبداً، ولا ينفكّ عنه إطلاقاً، ثمّ قال تعالى بعدها ليبالغ في الزّجر والتّنفير من القتل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32].
فقد جعل قتل النّفس الواحدة كقتل جميع النّاس مبالغةً في تعظيم أمر القتل وتعظيماً لشأنه، أي: كما أنّ قتل جميع النّاس أمرٌ عظيم القبح عند كلّ أحدٍ، فكذلك قتل الواحد يجب أن يكون كقتل النّاس جميعاً، وإنّ النّاس لو علموا من إنسانٍ أنّه يريد قتلهم جدّوا في منعه ودفعه، فكذا يلزمهم إذا علموا من إنسانٍ أنّه يريد قتل آخر ظلماً أن يجدّوا في دفعه ومنعه، وقد سُئل الحسن رضي الله عنه عن هذه الآية: يا أبا سعيدٍ: أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: والّذي نفسي بيده ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا، فالمؤمن غالٍ عند الله تعالى فلا يسمح لأحدٍ أن يعتدي عليه، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ).
3- كثرة القتل من أشراط السّاعة
لقد أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمّته بما سيقع فيها من أمورٍ مستقبليّةٍ، عُرفت عند العلماء بأشراط السّاعة الصّغرى والكبرى، وهي من الأمور الغيبيّة الّتي يجب علينا التّصديق بها وأخذ ما فيها على محمل الجدّ دونما إنكارٍ ولا تردّدٍ والإفادة منها في واقعنا، قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمّد: 18].
ومن بين أشراط السّاعة الصّغرى الّتي أخبر عنها النّبيّ صلى الله عليه وسلم: كثرة القتل في المسلمين الّذي سيكون في آخر الزّمان قبيل السّاعة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْهَرْجُ)، قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الْقَتْلُ الْقَتْلُ).
وجاء في حديثٍ آخر: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ العَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّمَ هُوَ؟ قَالَ: (القَتْلُ القَتْلُ).
فهنا يبيّن رسول الله أنّ القتل في المسلمين سيكون، والعجيب أنّه سيكون كثيراً! وهذا أمرٌ مفزعٌ حقّاً، بل ويؤكّد كثرة انتشار القتل بقوله: (الْقَتْلُ، الْقَتْلُ) وما كانت هذه الكثرة إلّا بسبب قلّة العمل الصّالح، وضعف الاهتمام بالعلم الشّرعيّ الّذي يشكّل طوق نجاةٍ للنّاس، وكثرة البخل، وإنّه لأمرٌ مثيرٌ للعجب من هذه العلامة من علامات قيام السّاعة، وهي انتشار القتل بكثرةٍ وبدون وعيٍ أو تفكيرٍ، ولك أن تتصوّر أنّ القتل يكون أشبه بعمل المجنون، أشبه بالفعل الطّائش، لدرجة أنّ المسلم لا يتوقّع أنّه يقتل ولكن يأتيه القتل من حيث لا يحتسب، فيقتل لأتفه الأسباب، بل حتّى القاتل نفسه لرّبما لم يتوقّع أنّه يقتل غيره لموقفٍ بسيطٍ، أو دعوة جاهليّة، أو أوامر ظالمةٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ)، فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: (الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ).
وإنّك لتجد مصداق هذا الكلام حينما تنظر فتجد كثرة القتل للمسلمين، وعلى أيدي المسلمين أنفسهم، ويا ليت القتل يكون للمشركين بحقّ، بل إنّما نقتل بعضنا البعض، وكلّه لأجل الدّنيا ومطامعها، حتّى أنّ الأمر وصل إلى درجةٍ عجيبةٍ، حيث وقع القتل في دائرة القرابة والمقرّبين والمجاورين، فأصبح المسلم لا يتورّع عن قتل أخيه لأمّه وأبيه، بل وقتل الابن أباه والأب ابنه، ولا شكّ أنّ هذا أمرٌ جللٌ، وخطبٌ عظيمٌ وغريبٌ، عَنْ أَبِي مُوسَى: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ وَأَخَاهُ وَأَبَاهُ).
وكلّ ذلك بسبب فساد الخلق، وقلّة الدّين، وقلّة العمل، وكثرة الكذب، وانتشار الشّحّ، وإنكار بعض النّاس لبعضٍ بمن فيهم الأقرباء والأصحاب، حتّى إنّ الواحد لا يكاد يأمن جليسه أو يستأمنه، لأنّه استهان كثير من النّاس بأمر الدّماء، وجرّأهم على ذلك ما تهيّأ لهم من الأسلحة الّتي تقتل العدد الكثير في الوقت الواحد، وما يقع في بعض البلاد من الاضطرابات والفوضى، وضعف السّلطان والرّغبة في السّيطرة والهيمنة والعلوّ في الأرض، كعامّة الحروب القائمة اليوم، فإنّ مبعثها نزاعات دمويّة من أجل التّوسع في السّلطان، وقهر الأقوياء للضّعفاء، وما سلّط الله تعالى على عباده هذه الفتن إلّا عندما خالفوا عن أمره، وتنكّبوا عن شريعته، وكفروا بنعمته، فمتى تابوا وأنابوا وأصلحوا دينهم، أصلح الله لهم حالهم، وبدلّهم بعد خوفهم أمناً.
وصيّةٌ وتحذيرٌ نبويٌّ:
ألا ليت الأمّة اليوم تأخذ نفسها بقائمة الوصايا الّتي تركها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكّد لنا أنّنا إن التزمنا بها لن نضلّ ولن نحار، ألا وإنّ من جملتها تلك الوصيّة العظيمة لأمّته بعدم الاقتتال فيما بينها، عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: (اسْتَنْصِتِ النَّاسَ) فَقَالَ: (لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ).
وعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ، وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: (إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ).
قال الإمام النّوويّ رحمه الله: "وَأَمَّا كَوْنُ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لا تأويل لَهُ، وَيَكُونُ قِتَالُهُمَا عَصَبِيَّةً وَنَحْوَهَا، ثُمَّ كَوْنُهُ فِي النَّارِ مَعْنَاهُ مُسْتَحِقٌّ لَهَا وَقَدْ يُجَازَى بِذَلِكَ وَقَدْ يَعْفُو اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا، مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ".
فليحذر المسلم من الدّم الحرام أشدّ الحذر، فإنّ موقف القيامة عصيبٌ لمن جاء يومئذٍ وفي عنقه دم مسلمٍ، ولك أن تتصوّر وتتخيّل موقف المقتول يوم القيامة وقد أخذ برأس قاتله حتّى أوقفه بين يدي أحكم الحاكمين جل جلاله ليأخذ له الحقّ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: قَالَ جُنْدُبٌ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ فَيَقُولُ قَتَلْتُهُ عَلَى مُلْكِ فُلَانٍ).
وتغليظاً لأمر الدّماء وخطرها فقد جعلها الله تعالى أوّل ما يحكم بها بين عباده يوم القيامة من حقوق العباد، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ).