1- درسٌ عمليٌّ في الصَّدع بالحقِّ
2- النُّطق بالحقِّ وإنكار الباطل واجبٌ
مقدمة:
صِراع الحقِّ والباطل صراعٌ قديمٌ جدّاً، ولَنْ يتوقف أنصار الحقِّ وأنصار الباطل عَن التَّصادم والاختلاف حتّى يرث الله الأرض ومَن عليها.
وأقبح ما يكون عندما نجد أنَّ الحُكَاّم وولاة الأمر والمتنفِّذين هم أشدُّ النَّاس مُعاداةً للحقِّ، وأكثر النَّاس حرصاً على إسكاته والتّنكيل بأهله، مستخدِمين في ذلك سلطانهم ونفوذهم.
وهذا ما نراه واضحاً في أيّامنا، وما نسمعه من إخفاء العلماء والدُّعاة والمصلِحين في سجون الطُّغاة والمجرمين؛ مِن حُكَّام عالمِنا العربيّ والإسلاميّ، والأسوأ مِن ذلك قرارات الإعدام الصَّادرة بحقّ أهل الخير والصَّلاح، وليس لهم ذنبٌ أو جريمةٌ إلّا أنهم صدعوا بكلمة الحقِّ في وجه أهل الضَّلال مِن الحُكّام وزبانيتهم وأعوانهم.
لذلك كانت كلمة الحقِّ أمام هؤلاء الطّغاة -مِن الحُكَّام وولاة الأمر- تُعدُّ مِن أعظم وأفضل الجهاد في سبيل الله، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ).
وعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ).
بل مَن صدع بكلمة الحقِّ في وجه حاكمٍ جائرٍ ظالمٍ وقُتِلَ على يديه لِصدعه بالحقِّ كان سيّد الشُّهداء يوم القيامة، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَالَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ).
1- درسٌ عمليٌّ في الصَّدع بالحقِّ
درسٌ عمليٌّ في الصَّدع بالحقِّ؛ في قصَّة التَّابعيّ الجليل سعيد بن المسِّيب مع الحجَّاج، وكان هذا الحوار:
سأله الحجَّاج: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبيرٍ، قال الحجَّاج: بل شقيّ بن كسيرٍ، فقال سعيدٌ: أُمّي سمّتني، وهي أعلم باسمي منك، قال الحجَّاج: شَقِيْتَ وشَقِيَتْ أُّمك، فقال سعيدٌ : لا يعلم الغيب إلّا الله تعالى، قال الحجَّاج: والله لأبدلنَّك بدنياك ناراً تلظَّى، قال سعيدٌ: لو أعلم أنَّ بيدك ذلك لاتَّخذتك إلهاً، سأله الحجَّاج عَن الخلفاء مِن بعد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: سَيُجْزَوْنَ بأعمالهم؛ فمسرورٌ ومثبورٌ، ولستُ عليهم بوكيلٍ، وحين سأله عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال: مِن أوّلهم إسلاماً وأقدمهم هجرةً وأعظمهم فضلاً، زوجه الرّسول الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ بناته إليه، قال: أفي الجنَّة هو أم في النَّار؟ قال سعيدٌ: لو أُدْخِلْتُ الجنَّة وفيها أهلها، وأُدْخِلْتُ النَّار وفيها أهلها لعلمت يا حجَّاج، فما سؤالك عَن عِلْمِ الغيب يا حجَّاج وقد حُجب عنك؟ ولمَّا سأله الحجَّاج عن رأيه فيه؛ قال: أعفني، قال: لا عفا الله عنّي إن أعفيتك، قال سعيدٌ: إنّي لأعلم أنك مخالِفٌ لكتاب الله تعالى، قد ظهر مِنك جورٌ وجرأةٌ على معاصي الله تعالى، ترى مِن نفسك أموراً تُريد بها الهيبة، وهي الّتي تُقْحِمُكَ الهلاك، قال الحجَّاج: فأيّ رجلٍ أنا؟ قال سعيدٌ: يوم القيامة تُخْبَر، قال: أما والله لأقتلنَّك قِتْلَةً لَمْ أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها أحداً بعدك، قال ابن جبيرٍ: إذن تُفسد عليَّ دُنياي، وأُفسد عليك آخرتك، فقال الحجَّاج: اختر يا سعيد أيّ قتلةٍ أقتلك؟ فقال سعيدٌ: اختر لنفسك يا حجَّاج، فو الله لا تقتلني قِتْلَةً إلّا قتلك الله مثلها في الآخرة، قال: أتريد أَنْ أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو فَمِنَ الله، أمَّا أنت فلا براءة لك ولا عذر، فقال الحجَّاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما ذهبوا به ضحك ابن جبيرٍ، قال الحجَّاج: رُدّوُهُ، فلمّا رَدّوُهُ قال: مِمَّ ضحكت؟ فقال سعيدٌ: تعجّبت مِن جرأتك على الله، وحِلم الله عنك، فأمر الحجَّاج بنَطْعٍ فبُسط، وقال: اذبحوه، فكان استشهاد سعيد بن جبيرٍ في سنة أربعٍ وتسعين، وكان يومئذٍ ابن تسعٍ وأربعين سنةً، ومات ولسانه رطبٌ بذكر الله.
2- النُّطق بالحقِّ وإنكار الباطل واجبٌ
إنَّ الثَّبات على الحقِّ في القول والمعتقَد، ليس أمراً يسيراً، وخصوصاً في زماننا هذا، زمن تقلّب الأحوال والفِتن، وقلَّة أنصار الحقِّ، وكثرة أنصار الباطل؛ مِن عامّة النَّاس وخاصَّتهم.
فينبغي على المسلم أَنْ يكون على بصيرةٍ مِن أمره، فيلتزم بطريق الحقّ، ولا يحيد عنها مهما كانت الظُّروف، ولا يكفي أَنْ يلتزم طريق الحقِّ دون الصَّدع به ونشره بين العامّة والخاصّة دون خوفٍ ولا وجلٍ، ويكون هذا ببيان طريق الحقِّ والدّعوة إليه والإنكار على المخالِف كائناً مَن كان، لذلك كانت الوصيّة النّبويّة العظيمة لأبي ذرِّ رضي الله عنه أَن يقول الحقَّ ولو كان مُرّاً، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: "أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِخِصَالٍ مِنَ الْخَيْرِ، وأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَوْصَانِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ، لَائِمٍ وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا".
كما بيَّن النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ قول الحقِّ لا يقطع رِزقاً ولا يُقرِّب أجلاً، ليزيدنا ثباتاً على الحقِّ، وليشجّعنا أَنْ ننطق به مهما كانت الظُّروف، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ).
ومواقف الصَّدع بالحقِّ والثَّبات عليه في حياة النّبيِّ صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ جدّاً، وفي كلّ موقفٍ منها درسٌ وعِبرةٌ، فثباته على دعوته -مع الأذى الشَّديد الّذي أصابه مِن كفَّار قريشٍ في مكَّة، وفي هجرته إلى الطَّائف، وفي غزوة أحدٍ، وفي حادثة الإفك، ولمّا عرضوا عليه المال والجاه وأَنْ يُزوّجوه بأجمل النِّساء- ما غَيَّر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ولا بدَّل، وإنَّما ازداد ثباتاً وإصراراً، واستمرَّ بدعوته حتّى وصلت إلينا ناصعةً واضحةً، وصحابته الكرام -مِن بعده- ساروا على خُطاه وصدعوا بالحقّ وتحمَّلوا الأذى بأنواعه، وما غيّروا وما بدّلوا، فبلالٌ رضي الله عنه أعلن توحيده لله تعالى وكفره بما سواه، ألقوه على ظهره في حرِّ الشَّمس على رِمال مكّة ووضعوا الصّخرة العظيمة على صدره وهو يقول: أحدٌ أحدٌ، وعمَّار بن ياسرٍ قُتِلَتْ عائلته أمام عينيه وكان يُنجيهم مِن الموت أَنْ يرجع عن دينه إلى الكفر، ولكنَّه بقي على الإسلام، لأَنَّه الدِّين الحقُّ، ولأنَّه يعلم أّنْ ثمن هذا الثَّبات على الحقِّ جنَّةٌ عرضها السّماوات والأرض، لكلِّ صحابيٍّ قصَّةٌ في الثَّبات والجهر بالحقِّ، ولَمْ يرجعوا عمَّا آمنوا به، فالثّبات على الحقّ و الجهر به أمام العامّة و الخاصّة أمرٌ أوجبه الله تعالى علينا.
الخاتمة:
لَئن كان الحديث عَن الثَّبات على الحقِّ والصّدع به وموقف الحكَّام الظَّلمة مِن الحقِّ وأهله، ودأبهم في إسكات المصلِحين وأهل الخير والإيمان، لا بدّ وأَنْ نذكر مسلسل الإعدامات لرموزٍ مِن العلماء العامِلين الّذين شهد لهم القاصي والدَّاني بصلاحهم وحُسْنِ سيرتهم وغيرتهم على دينهم.
كما نذكر تَغييب ثُلّةٍ مِن العلماء في السُّجون، بِدَعَوَاتٍ وحججٍ كاذبةٍ ظالمةٍ جائرةٍ، الغاية منها إِسْكاتُ الحقِّ وإخفاء صوته، لأًنَّه يُزْعِجُ أهل الباطل وأهل الطُّغيان، وخصوصاً الحكّام الظَّلمة مِمَّن ألِف الباطل وأحبَّه وناصره.
وما عَمَلُ هؤلاء الطُّغاة إلّا امتدادٌ لعمل فرعون وهامان وكفّار قريشٍ وسائر الطُّغاة مِن بعدهم.
فيجب علينا -وجوباً شرعيّاً- أَنْ نقف مع الحقِّ وننصره ونصدع به بأعلى صوتنا، وندافع عنه بكلّ ما نستطيع، وأَنْ لا نخاف في الله لومة لائمٍ، فالرِّزق مقسومٌ، والأجل محدودٌ، والثّمن جنةٌ عرضها السّماوات والأرض، وقدوتنا في هذا حبيبنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم.
فإِنْ ضَعُفَتْ الهمَّة وتثاقلت النَّفس فلنبادر إلى سيرة رجال سلفنا الصّالح، ومواقف الرِّجال فيهم، ولنقرأ عن مواقفهم وقصصهم مع الطُّغاة والظّلمة والحُكّام الجائرين، ففي ذلك خير عونٍ.