1- التّحذير والإنذار مِن إيقاع الأذى بالجار
2- الحثّ والتّرغيب بالإحسان إلى الجار القريب
مقدمة:
يحرص ديننا الحنيف أن يُنشئ مجتمعًا صالحًا متماسكًا، لذا نجد العديد مِن التّشريعات الّتي تصبّ في هذا المجال، كرعاية الشّرائح الضّعيفة في المجتمع، فاليتيم محلّ عناية الشّريعة، وإطعام المسكين مُرغَّبٌ به، والاستيصاء خيرًا بالنّساء مطلوبٌ، وتوقير العجائز مِن خصال الخير، ومِمّا أمر به ديننا -وصولًا إلى مجتمعٍ متماسكٍ- الإحسان إلى الجار.
وبما أنّ المسلم ينتمي إلى الأمة الخيَّرة، الّتي يتعدّى نفعها وخيرها إلى سِواها؛ فلا بدّ أن يتجاوز خيرُه بابَ داره، إلى أقرب الأبواب له: بابِ الجار، قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
وباب الجار هذا هو -في نفس الوقت- باب قربةٍ يتقرّب بها المسلم إلى ربّه، فالسّعي في حوائج عموم المسلمين قربةٌ، فما بالُك إن كان هذا المسلم له عليك حقُّ الجوار! عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَئِنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ؛ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثَبِّتَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ).
1- التّحذير والإنذار مِن إيقاع الأذى بالجار
يسهُل على المرء أن يُلحِق بجاره أنواعًا من الأذى؛ وذلك بسبب التّقارب المكانيّ المفضي إلى الاطّلاع على العورات، فلكلّ بيتٍ "موضع ضعفٍ"، زمنٌ يخرج فيه الرّجل من البيت تاركًا وراءه عِرضًا مستضعفًا وصِبيةً صغارًا، وربّما غادر كلّ أفراد الأسرة البيتَ وخلَّفوا وراءهم متاعًا وأموالًا، ولم يطَّلع على ذلك منهم إلّا الجار، ولو شاء لوصل إلى شيءٍ مِن عِرض جاره أو ماله، لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق تحذيرًا شديدًا حيال هذا الأمر، وهذا الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه يُحَدِّثُ فَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: (مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟) قَالُوا: حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: (لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ)، قَالَ: فَقَالَ: (مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟) قَالُوا: حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ: (لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)، قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ).
فتأمّل كيف جعل الأمر بعد الشّرك وقتل الولد عِظيمًا.
كما إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عن ذاك الّذي لا يشعر جارُه بالأمن منه، فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الخزاعيّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ) قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ).
أي لا يأمن شرّه، ومنِ انْتفى عنه الإيمان فهو متوعّدٌ بالنّار، وهو ما أكّد عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ).
هذا ولو كان الأذى في نظر النّاس يسيرًا؛ كأذى اللّسان، وما أكثر ما يتجالس الجيران فيقعون في جارٍ لهم غائبٍ عنهم بألسنتهم، ويستخفّون بذلك، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: (هِيَ فِي النَّارِ).
ومِن طريف ما وقع مِن أذى الجار لجاره زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ما رُوي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَشَكَا إِلَيْهِ جَارًا لَهُ، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: (اصْبِرْ) ثُمَّ، قَالَ لَهُ فِي الرَّابِعَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ: (اطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ) فَفَعَلَ، قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: مَا لَكَ؟ فَيَقُولُ آذَاهُ جَارُهُ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: لَعَنَهُ اللَّهُ، فَجَاءَهُ جَارُهُ، فقَالَ: رُدَّ مَتَاعَكَ، لَا وَاللَّهِ لَا أُوذِيكَ أَبَدًا.
فقد أرشده النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى صناعة "رأيٍ عامٍّ" بتعبير اليوم، أجبر ذلك الجارَ المؤذي أن يتراجع عن أذاه، بعد أن استعدى عليه جارَه مجتمعًا مِن حوله؛ مدركًا لقيمة الإحسان إلى الجيران، فهل نُدرك ما أدركوا؟
2- الحثّ والتّرغيب بالإحسان إلى الجار القريب
لم تكتفِ الشّريعة الغرّاء بالتّحذير مِن إلحاق الأذى بالجار، بل تعدّته إلى الأمر بنقيضه والتّحبيب والتّرغيب فيه، وهذا كتاب الله عز وجل ينطق بالحقّ، قال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النّساء: 36].
ونلاحظ هنا أنّ الآية قدّمت الجار ذي القربى على سواه مِن الجوار، ففي الآثار: "الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الْجِيرَانِ حَقًّا، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْجِيرَانِ حَقًّا، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، فَجَارٌ مُشْرِكٌ، لَا رَحِمَ لَهُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقَّانِ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ، لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ، فَلَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الرَّحِمِ".
ومِمّا ورد في الإحسان إلى الجار: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ).
ولم تقتصر الوصيّة بالجار على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، بل قام بها الرّوح الأمين؛ جبريل عليه السلام، واستمرّ بها وأكّد عليها، حتّى ظنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه سيجعلُه مِن الوارثين، بمثابة الأب والابن، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ).
لا يسوغ في ثقافتنا أن يستلذّ امرؤٌ بِما طاب مِن المأكل والمشرب، والملبس والمركب، ويبيت جاره على الطّوى، لا يجد ما يسدّ رمقَه، فنحن كالجسد الواحد إذا اشتكى مِنه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسّهر، قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ).
ومِن طريف قصص الإحسان إلى الجار: ما رُوي أنّه أَرَادَ جَارٌ لأَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ: أَنْ يَبِيْعَ دَارَهُ، فَقِيْلَ لَهُ: بِكَمْ؟ قَالَ: بِأَلْفَيْنِ ثَمَنُ الدَّارِ، وَبِأَلْفَيْنِ جِوَارُ أَبِي حَمْزَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا حَمْزَةَ، فَوَجَّه إِلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، وَقَالَ: لاَ تَبِعْ دَارَك.
فتأمّل صنيعَ أبي حمزة السّكريّ وإحسانه إلى جاره قبل إرادة البيع وبعده.
خِتامًا:
في الزّمن الّذي تطغى فيه النّزعة المادّيّة على ما سواها، ويتسابق النّاس إلى مصالح دنياهم أشدّ التّسابق، حريٌّ بنا أن نتذكّر هذه المعاني السّامية؛ الّتي جاء بها خاتم النّبيّين، قيمٌ عتيدةٌ عتيقةٌ خالدةٌ، ما تزال صالحةً مصلِحةً على مرّ الشّهور والدّهور، فالجار جارٌ، سواءً كان المسكن مِن الطّين والأجحار، أو من الطّوابق والأدوار، كلاهما يحتاج منّا أن نرعاه ونتابع شأنه.
ينقل ابن رجبٍ في جامعه ما نصّه: "أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْجَارِ؟ إِذَا اسْتَعَانَكَ أَعَنْتَهُ، وَإِذَا اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِذَا افْتَقَرَ، عُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَإِذَا مَاتَ اتَّبَعْتَ جِنَازَتَهُ، وَلَا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ، فَتَحْجُبُ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تُؤْذِهِ بِقُتَارِ قدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا، وَإِنِ اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً، فَاهْدِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَأَدْخِلْهَا سِرًّا، وَلَا يَخْرُجْ بِهَا وَلَدُكَ لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ".
وإذا كان المسلمون يحتاجون هذه المعانيَ السّامية في زمن المادّيّات والأنانيّة، فنحن أحوج، لِما نزل بنا مِن الفقر الشّديد، والحاجة الماسّة، نتيجةً للتّشرّد والنّزوح الّذي فرضه الطّغاة على العباد، فلنتقرّب إلى الله جل جلاله بالإحسان إلى جيراننا، وتفقّد أحوالهم.