1- عوائد الشِّتاء على المؤمن
2- لننشر الخير في فصل الخير
مقدمة:
أقسم الله جل جلاله بالزّمن وبأقسامه المتعدّدة، أقسم به كلّه؛ فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
أي إنّ الإنسان يخسر عمره الّذي هو دقائقٌ وثوانٍ إن لم يشغله بالإيمان والعمل الصّالح والدّعوة للحقّ والصّبر.
دقّات قلب المرء قائلةٌ له إنّ الحياة دقائقٌ وثوانِ
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذّكر للإنسان عمرٌ ثانِ
وأقسم بأجزاء الزّمن، كالضّحى واللّيل، فقال: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1-3].
وأقسم بأزمنةٍ مخصوصةٍ، فقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 1-5].
وفي هذه الأيمان تنبيهٌ إلى أهمّيّة الزّمان بجميع تقلّباته، ومِن تقلّباته اختلاف فصوله، فصيفٌ وحرٌّ، وشتاءٌ وقرٌّ، وبينهما ما اعتدل من الرّبيع والخريف، وعلى المسلم أن يتّخذ مِن تقلّب الأحوال مَركبًا يسير به إلى الله {الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
وقد نصّ المقدسيّ -تعقيبًا على هذه الآية- في مختصر منهاج القاصدين على أنّ "الطّريق إلى الله تعالى مراقبة الأوقات، وعمارتها بالأوراد على الدّوام".
1- عوائد الشِّتاء على المؤمن
عُني نبيّنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم بتغيير بعض المفاهيم لدى النّاس، ولفت انتباههم إلى جوانب لا ينتبهون لها عادةً، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ).
وعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ مَنِ الْمُسْلِمُ؟ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ).
ومِن ذلك ما وجّه إليه بشأن الشّتاء، إذ يعتبره النّاس أشدّ الفصول قسوةً، لما فيه مِن بردٍ وقلّةٍ، فوجّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّاس إلى شَغله بالعمل الصّالح، فعن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ، قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَ، وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَ).
وإذا كان الرّبيع زمنًا محبّبًا للنّاس لأنّه مَخرجُهم مِن ضيق الشّتاء إلى سعة الصّيف، ولـِما تُخرج الأرض فيه مِن زخرفها وزينتها {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحجّ: 5].
فقد استعار النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما في الرّبيع مِن حُسنٍ وجعله للشّتاء، لكنّه خصّ المنتفع به، إنّه المؤمن دون سواه مِن النّاس، وحثّ المؤمن فيه على عبادتين تشقّان عليه في الصّيف، حيث يكدح النّاس فيه ويسعون وراء الرّزق، أمّا الشّتاء فالصّوم فيه أسهل لوجوهٍ؛ نهاره قصيرٌ فلا جوعٌ، ولا حرٌّ فلا عطشٌ، والاستيقاظ للسّحور متيسّرٌ لطول اللّيل، فيستيقظ يتهجّد ويتسحّر، بخلاف الصّيف قصير اللّيل، ويحتاجه البدن للرّاحة بعد يومٍ شاقٍّ طويلٍ، ومِن الجدير بالتّذكير أنّ المؤمن الّذي عليه قضاءٌ مِن رمضان الفائت ولم يقضه أن يبادر إليه، فليس رمضان القادم عنّا ببعيدٍ، وقد نصّ الفقهاء على أنّ مَن أخّر القضاء بلا عذرٍ حتّى أدركه رمضان التّالي فقد وجب عليه إضافةً إلى القضاء أن يطعم عن كلّ يومٍ مسكينًا، وليذكّر امرؤٌ مَن يعول إن كان عليهم قضاءٌ أن يبادروا.
2- لننشر الخير في فصل الخير
سبحان مَن بيده ملكوت السّماوات والأرض، يدبّر الأمر ويرسل الخير، {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].
ابتأس النّاس مطلع الشّتاء لقلّة المطر وتأخّره، وقلّب المزارع وجهه في السّماء يرجو رحمة ربّه، ثمّ ما لبث الغوث أن أدركنا مِن ربٍّ كريمٍ يغيث كلّ ملهوفٍ مستغيثٍ، فسقانا غيثًا مغيثًا مريعًا مربعًا عامًّا طبقًا مجلّلًا، وقد وجّهنا الله إلى أنّ شكر النّعمة سبيلٌ لزيادتها، {وإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
فلنشكر الله بألسنتنا، ولنشكره بقلوبنا، ولنشكره بأعمالنا، {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
ومِن شكر رحمة الله أن نتراحم فيما بيننا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ).
فإذا أردنا أن نستزيد مِن رحمة الله فليرحمْ بعضنا بعضًا، فرِحَ مقيمٌ في منزله بنزول المطر واستبشر، واغتمّ نازحٌ في خيمته منه وعاني مِن الطّين والبرد، ولا يستقيم أن نرجو استمرار رحمة الله ما لم نتعاهد إخواننا النّازحين الّذين قد لا يجد أحدهم ثمن التّدفئة أو أثاث المنزل الكافي، أو ما يدفعه لاستئجار منزلٍ بدلًا عن خيمته، فلو تبرّع مالك منزلٍ لعائلةٍ نازحةٍ في خيمةٍ أن يسكنه بلا أجرٍ أو بأجرةٍ مخفّضةٍ لكان ذلك رحمةً تُستنزل بها رحمات الله عز وجل.
إنّ الحالة الطّبيعيّة في الشّتاء أنّه قاسٍ؛ لما فيه من بردٍ وقلّة الموارد، ومجتمعاتنا تعتمد في أموالها بالدّرجة الأولى على الزّراعة والرّعي، وكلاهما يكونان في الشّتاء في أسوأ حالةٍ، فما بالك إذا اجتمع ذلك مع النّزوح والحرب وانهيار العملة في أيدي النّاس وارتفاع ثمن الرّغيف، سيكون الشّتاء -والحال هذه- أقسى بكثيرٍ؛ لذا إذا رأينا الخير قادمًا مِن الله فلنتخلّق بأخلاق الله جل جلاله ولنوصلْ خيرًا لإخواننا ولو شقّ تمرةٍ، ولو بشحن مدّخراته بالطّاقة الكهربائيّة إن أظلم عليه ليله، لعلّ الله أن ينير لنا دروبنا في هذه الحياة، وأن ينير لنا قبورنا، وينير لنا صراطًا تزلّ عنه الأقدام، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ.
خاتِمةٌ:
الشّتاء غنيمةٌ باردةٌ، فإن كنت صاحب مالٍ فاعلم أنّ المحتاجين كثيرٌ، وأنّ الحاجة في الشّتاء تشتدّ، وأنّ التّراحم فيه مطلوبٌ خاصّة في ظروفنا الاستثنائيّة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فِي الدُّنْيَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يومِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُسْلِمٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ).
وإن لم يكن لديك المال فدونك نهارٌ قصيرٌ، يمكنك أن تصومه دون أن يعيقك في أداء أعمالك، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا).
ودونك ليلٌ طويلٌ تأخذ منه لنفسك، وتخلو في ظلمته بربّك، فيقذف في قلبك ووجهك مِن نوره، فهو نور السّماوات الأرض، قال الحسن البصريّ: "لم أجد من العبادة شيئًا أشدّ مِن الصّلاة في جوف اللّيل"، فقيل له: ما بال المتهجّدين أحسن النّاس وجوهًا؟ فقال: "لأنّهم خلوا بالرّحمن فألبسهم مِن نوره".