1- نِعمة الأمان، مِن أجلِّ نِعَم الرَّحمن
2- العدل صمَّامٌ للأمن والأمان
3- الجريمة والعقوبة
مقدمة:
إنّ مِن مقاصد الشّريعة الخالدة الغرّاء، الّتي اصطفاها الله لتكون خاتمة الرّسالات، حِفْظ الضّروريات الخمس، فقد صانت الدّين، وحفظت العقول، وطهّرت الأموال، وصانت الأعراض، وأمّنت النّفوس، وأمرت المسلم بإلقاء كلمة السّلام والأمن والرّحمة والاطمئنان على أخيه المسلم، إشارةً منها لنشر الأمن بين النّاس، ووضع الحدود والقيود للمحافظة على هذه الكلّيّات، فأمر الله بتطبيق أحكام الدّين واجتناب نواهيه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الرّوم: 30].
كما حرّم الإسلام كلّ وسيلةٍ تغتال العقل أو تفقد وعيه، فحرّم كلّ مُسكرٍ للحفاظ على العقل، ثمّ شرع مِن الأحكام ما حُفظت به النّفوس، وحُقنت به الدّماء، وإنّنا لم نعهد في الدّنيا نظامًا يحترم النّفس البشريّة مثل شريعة الإسلام، حيث جعل قتل النّفس الواحدة كقتل جميع النّاس مبالغةً في تعظيم أمر القتل والتّفخيم لشأنه، قال سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
فكما أنّ قتل جميع النّاس أمرٌ عظيم القبح عند كلّ أحدٍ، فكذلك قتل الواحد يجب أن يكون كذلك، ولا يوجد في الشّريعة ذنبٌ يكون مرتكبه في حقّ واحدٍ مِن النّاس كمَن فعله في جميع النّاس غير هذا الذّنب العظيم، فما أعظم شأن الدّماء عند الله؟! ثمّ لمّا استقام أمر الدِّين والعقل والنّفس، أمر الله بالحفاظ على الأعراض والنّسب، فوضع مِن الشّرائع ما يؤدي إلى حفظها، ويوصل إلى تماسك المجتمع، وعدم وقوعه في الرّذيلة والفاحشة، فحرّم الزّنا وحرّم كل ما يؤدّي إليه، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
وبهذا حفظ الله لنا الدّين، وصان الإسلام لنا النّفوس، وحافظ على الأرواح والأموال والدّماء، وأمر بالعدل، وحقّق الأمن والأمان، والسّعادة والاطمئنان، وقضى على الفساد والظّلم والتّخريب، والقتل والاغتيال، فمَن التزم هذا الشّرع الحنيف استقامت له أمور دِينه وديناه، ومَن أهملها وضيّعها فقد شقي في دنياه وخسر في أخراه، وإنّنا لنعلم جميعًا حال سلفنا الصّالح، لمّا التزموا بمنهج الله، وطبّقوا شرعه في أنفسهم ومجتمعاتهم، كيف دانت لهم العرب والعجم، وعاشوا في مجتمعٍ يسوده الأمن والأمان، وتخيّم عليه الطّمأنينة والسّكينة، واستلموا عرش الحضارات، ولمّا خلَف مِن بعدهم خلْفٌ ضيّع أوامر الله، أصابهم مِن الذّلّ والضّعف ما أصابهم.
1- نِعمة الأمان، مِن أجلِّ نِعَم الرَّحمن
إنّ نعمة الأمن والاستقرار مِن نعم الله الكبرى، وآلائه العظمى الّتي يمنّ بها على مَن يشاء مِن عباده، ففي ظلال الأمن تُصان الأنفس، وتُحقن الدّماء، وتُحفظ الأعراض والأموال، وتأمن السّبل، وتستقيم حياة البشر، ويزدهر المجتمع، وتسود المحبّة بين النّاس، وتزيد التّجارات، وينتشر فيه العدل، ويظهر فيها الأخيار على الأشرار، وتُوظّف فيه الأموال في كلّ مشروعٍ نافعٍ للفرد والمجتمع، ولقد حدّثنا ربّنا عن الأمن في معرض الحديث عن نِعَمه الّتي أكرم بها قريشًا فقال: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67].
ولِعظَم مكانتها أكرم الله بها أولياءه في دار كرامته، لأنّ بفقدها يُفقد النّعيم، قال عز وجل: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46].
ولضرورة هذه النّعمة وعظيم فائدتها، فقد طلب إبراهيم مِن ربّه أن يجعل مكةّ بلدًا آمنًا فقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَات} [البقرة: 126].
حيث إنّ استتباب الأمن سببٌ لجلب الرّزق وزيادته، ولقد جاءت السّنّة المطهّرة مبيّنةً قيمة الأمن وأنّها مِن النّعم المقدّمة على غيرها، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).
وكما ورد أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلالَ، قَالَ: (اللهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ وَالْإِسْلامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ).
بل لا يوجد دليلٌ أدلّ على أهمّيّتها مِن أنّ العبادات لا تؤدّى بصورتها الكاملة إلّا معها، فقد قال ربّنا سبحانه عن الصّلاة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238-239].
وجعل مِن شروط الحجّ أمْن الطّريق، قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وأمّا إذا جحد النّاس نعمة ربّهم، أحاطت بهم المخاوف، وانتشرت بينهم الجرائم، وانهدم جدار الأمن، وهذه سنّة الله الّتي لا تتخلّف في خلقه، قال جل جلاله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النّحل: 112].
نعم: إذا انفرط عِقْد الأمن عمّت الفوضى، وتعطّلت المصالح، وكثر الهرْج، واللّصوص وقطّاع الطّرق، وواقع بلادنا اليوم بذلك ناطقٌ، وعلى هذه الحقيقة شاهدٌ، قال ربّنا عز وجل: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251].
2- العدل صمَّامٌ للأمن والأمان
العدل هو: إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، مِن غير تحيّزٍ أو محاباةٍ أو تفرقةٍ بين المستحقّين، أو تدخّل لهوى النّفس، وعكسه الجور والحيف والظّلم، ويكون ذلك بالعدول عن الحقّ، والميل في الحكم، ومجاوزة الحدّ، ووضع الشّيء في غير موضعه، ولأهمّيّة العدل ومكانته فقد وردت مادّة العدل في القرآن ثماني عشرة مرّةً، وأتت مادّة القسط بمعنى العدل أكثر مِن عشرين مرّةً في كتاب الله، فقد أمر الله تعالى بالعدل؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النّحل: 90].
وأحكامه كلّها عدل، قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115].
ويحاسب ربّنا عباده بالعدل، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47].
ولقد ظهر في السّنّة المطهّرة اهتمام الرّسول البالغ بخُلُقِ العدل، وذلك في أقواله وأفعاله، ولعلّ هذا الحديث الّذي يبيّن فيه النّبيّ عليه الصلاة والسلام مكانة المقسطين يوم القيامة خير دليلٍ: فِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا).
إنّ أمّة الإسلام هي أمّة العدل والحقّ، أمّةٌ أمر ربّها أن تقيم العدل في أقوالها وأفعالها وأحكامها، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
وإنّ عدل الإسلام يسع الأصدقاء والأعداء، ويُنظّم كلّ ميادين الحياة في الدّولة والقضاء، والرّاعي والرّعيّة، والأولاد والأهلين، عدلٌ في حقّ الله، وعدلٌ في حقوق العباد، في الأبدان والأموال، والأقوال والأعمال، عدلٌ في العطاء والمنع، والأكل والشّرب، والغضب والرّضى، يُحقّ الحقّ، ويمنع البغي والظّلم في الأرض وفي البشر، (مَا مِنْ وَالٍ اسْتُعْمِلَ عَلَى أُمَّةٍ مِنْ أُمَّتِي قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ فَلَمْ يَعْدِلْ فِيهِمْ إِلَّا أَكَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ).
وإذا تساءلنا عن غياب الأمن اليوم من بيننا فالأولى أن نتساءل: هل تحقّق العدل بين النّاس مع الصّديق فضلًا عن العدوّ؟ هل أُعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه؟ هل نُصر المظلوم؟ هل؟ وهل؟ وهل؟ سنجد الجواب للأسف: لا؛ وألف لا، فنتج عن ذلك هتكٌ للحرمات، وسفكٌ للدّماء، وترويعٌ للآمنين، ولا غرابة في ذلك أبدًا، فمَن تجافى عن دائرة العدل دخل دائرة الظّلم، يأخذ ولا يعطي، ويطلب ولا يبذل، قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النّور: 48-49].
وها نحن نرى كيف يموج بلدنا والبلاد مِن حولنا بالأحداث الّتي تشيب مِن هولها رؤوس العباد، وللمتأمّل فيها عبرٌ وعظاتٌ، لو كان يفقه سنّة الله في عباده وفي كونه، فإنّ أيّة أمّةٍ تعطّلت مِن هذه الخلّة الجليلة سنجد فيها الآفات الجائحة والبلايا المهلكة، ولن نتخلّص منها، ولن يحصل الأمن والأمان، والهدوء والاستقرار، والنّصر والعزّ والتّمكين في الأرض إلّا بإقامة العدل الّذي قامت به السّموات والأرض.
3- الجريمة والعقوبة
إنّ الأوامر الشّرعيّة تتأكّد بحسب تأكيد الشّارع الحكيم عليها، وكذلك النّواهي تكون مغلّظة بتوّعد فاعلها بالعذاب الشّديد، وهذا كلّه مِن خصائص الخالق، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].
ولو تأمّلنا كتاب الله لم نجد وعيدًا شديدًا بعد الوعيد على الشّرك مِن عقاب مَن يعتدي على الأنفس المعصومة ويريق دمها، حيث إنّ مِن دلائل العناية بها، والتّغليظ فيها، أنّ ذِكْرَها والتّنويه بها وقع قبل أن تُنفخ الرّوح في آدم، وقبل أن تجري دماؤه في عروقه، حيث قال الله على لسان الملائكة لمّا أخبرهم بأنّه جاعل في الأرض خليفةٌ: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30].
ولخطرها وفظاعتها كان ابتداء القضاء بها يوم القضاء، عَنْ عَبْدَ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ).
ولذا فإنّ مِن أعظم الخسارة وأشدّ الخذلان أن يُورّط الإنسان نفسه في دمٍ حرام، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: "إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الْأُمُورِ، الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ".
وإنّ كلّ دمٍ يُسفك ظلمًا وعدوانًا لن يضيع عند الله، ولو تمالأ أهل بلدٍ على قتل مسلمٍ لقُتلوا به وعذّبوا بسببه، حَدَّثَ أَبُو الحَكَمِ البَجَلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ يَذْكُرَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ).
ولا يقتصر الأمر على القتل، بل إنّ مجرّد ترويع المسلم بحديدةٍ ونحوها تُوجب لعنة الملائكة، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ أَشَارَ بِحَدِيدَةٍ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُ قَتْلَهُ فَقَدْ وَجَبَ دَمُهُ).
حقًّا: إنّ قتل النّفس البريئة، وسفك الدّم الحرام مِن بقايا الجاهليّة، وأسباب الأحقاد والعصبيّة، وغياب الأمن والأمان، أصلٌ مِن أصول الفوضى والفساد في الأرض، ولأجل أن يُحافظ الإسلام على هذه الأنفس المعصومة والدّماء المحرّمة، شرع القصاص، وأقام الحدود، توفيرًا للأمن، وصيانة للحياة، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178].
وإنّ هذا القصاص الّذي شرعه الله ليس انتقامًا، ولا إرواءً للأحقاد، بل الحكمة فيه أنّه حياةٌ وأمانٌ، حيث بتعطيله يكثر القتل بين المسلمين، وتُسفك الدّماء، لأتفه الأسباب فترى الإنسان ينقلب عند أوّل بادرةٍ مِن حقدٍ أو طمعٍ إلى وحشٍ ضارٍ، يفتك بأخيه المسلم، ويستلّ روحه مِن بين جنبيه، ثمّ يختال كأنّه البطل المنتصر، ولكن لو علم هذا القاتل أنّه مقتولٌ -قصاصًا- لارتدع عن جريمته، وفكّر ألف مرّةٍ ومرّةٍ قبل أن يقدم إلى إشهار سلاحه وقتل أخيه، وفي ذلك إحياءٌ له وللمقتول وللمجتمع بأسره، قال جل جلاله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
نعم: إنّ حياة الأمن والأمان تتحققّ باتّباع شرع ربّنا، ونشر العدل في مجتمعاتنا، واستثمار كلّ الطّاقات، وتسخير الجهود والإمكانات في سبيل الحصول على نعمة الأمن التّامّ، الّتي نجدها في توحيد ربّ العالمين، وإفراده بالعبادة وحده، فالأمن والإيمان قرينان، لا يتحققّ الأمن إلّا بتحقق الإيمان، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
والانغماس في الكبائر واقتراف الفواحش والمنكرات، ظلمٌ عظيمٌ، ووبالٌ جسيمٌ، وبها تُمحق البركات، وتندثر الخيرات، وتفسد المجتمعات.
خاتمةٌ:
لقد قضى الله عز وجل أنّ المعاصي والأمن لا يجتمعان أبدًا، فالذّنوب مزيلةٌ للنّعم، وبها تَحُلّ النّقم، وما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، وما رُفع إلّا بتوبةٍ، فالطّاعة هي حصن الله الأعظم الّذي مَن دخله كان مِن الآمنين، فبمراقبة الله والخوف منه يتحقّق الأمن والأمان، فإنّ ابن آدم "هابيل" امتنع مِن قتل "قابيل" لخوفه مِن ربّه، أضف إلى ذلك جملةً مِن المبادئ والأسس، ولعلّ مِن أهمّها: العدل والمساواة، والقوّة والحزم في تطبيق القوانين والعقوبات، وهذا يوجب على الحكومة وأجهزة الأمن وسائر المؤسّسات أن تعمل بصورةٍ جدّيّةٍ لإعادة صياغة الأمن بكافة أبعاده للمجتمع، وذلك بمواجهة الأخطار المحدقة، ومكافحة البطالة المستشرية، والقضاء على مجموعات السّطو والاغتيالات والتّخويف.
إنّ حفظ الأمن واستمراره أمرٌ بالغ الأهمّيّة لتُصان النّفوس، وتُحفظ الأعراض، وتُحقن الدّماء، فبغياب الأمن ينتشر الإجرام والفساد، ويتفشّى الظّلم والاستبداد، وإنّ عاقبة هذا العمل الشّنيع: ترميل النّساء، وتيتيم الأطفال، مع ما فيه مِن الاثم الكبير والعذاب الشّديد، فلنكن يدًا واحدةً لنحقّق الأمن والأمان، ونقضي على الفساد والإجرام.