1- منشأ التَّطيُّر والتّشاؤم
2- التَّوكُّل والتَّطيُّر لا يجتمعان
مقدمة:
إنّ من أعظم نِعَمِ الله سبحانه على عباده أن أكرمهم بسيّد المرسلين محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وأخرجهم به مِن ظلمات الشّرك والجهل والضّلال، إلى نور الإيمان والعلم والمعرفة، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
فمَن اتّبع ما جاء به رسول الله مِن الهدى والعلم، كان كالأرض الطّيّبة الّتي أخرجت طيّبًا، ومَن أعرض عن ذلك واتّبع سُبل الضّلال، عاش في قلقٍ وضياعٍ وشقاءٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ).
وإنّ طريق الهداية واحدٌ لا يتعدّد، وقد أُمِرنا أن نطلبه مِن ربّنا في كلّ صلاةٍ، قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
بينما طُرق الضّلالة كثيرةٌ ومتنوّعةٌ، وقد نُهينا عن اتّباعها، قال جل جلاله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وإنّ مِن الضّلال الّذي اتّبعه أهل الجاهليّة مِن قبل، ويتّبعه مَن هم على نهجهم في كلّ زمانٍ: التّطيّر والتّشاؤم، فقد كانت العرب في الجاهليّة يأخذون طيرًا كلّما أرادوا القيام بعملٍ ما، فإذا طار نحو اليمين تابعوا أمرهم، وإذا طار جهة الشّمال تشاءموا وأحجموا عن القيام بالعمل الّذي خرجوا لأجله، وهذا مخالفٌ لتعاليم دِيننا الحنيف، ومجانبٌ لنهج الرّسول الأمين، الّذي أمر بالتّفاؤل الحسن، ونهى عن التّطيّر والتّشاؤم.
1- منشأ التَّطيُّر والتّشاؤم
لقد حدّثنا كتاب ربّنا عز وجل عن وجود التّطيّر في الأمم السّابقة، فها هم قوم صالحٍ يتشاءمون منه، قال تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّه بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النّمل: 47].
وأخبرنا ربّنا عن آل فرعون أنّهم كانوا يطّيّرون بموسى ومَن معه، قال سبحانه: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131].
كما تبعهم في ذلك أصحاب القرية الّذين أرسل الله لهم ثلاثة رسلٍ، قال عز وجل: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 18-19].
ثمّ وصلت هذه العادة القبيحة إلى كفّار مكّة، حيث تشاءموا مِن دعوة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فنسبوا الشّرّ والمصائب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّه سببها، قال سبحانه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78].
ثمّ سلك سبيلهم جهلةٌ ضالّون؛ يتشاءمون ببعض الأشهر، كمَن يتشاءم بشهر شوّال فيمتنع عن السّفر فيه أو الخطبة والزّواج، مع أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها في شّوال، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ"، وَكَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَسْتَحِبُّ أَنْ يُبْنَى بِنِسَائِهَا فِي شَوَّالٍ.
قال النّوويّ: "فيه استحباب التّزويج والدّخول في شوّال، وقد نصّ أصحابنا على استحبابه، ولقد قصدت عائشة رضي الله عنها ردّ ما كانت الجاهليّة عليه، وما يتخيّله بعض العوامّ اليوم مِن كراهة التّزوّج والتّزويج والدّخول في شوّال، وهذا باطلٌ لا أصل له، وهو مِن آثار الجاهليّة حيث كانوا يتطيّرون بذلك لما في اسم شوّال مِن الإشالة والرّفع".
"وكثيرٌ مِن النّاس يتشاءمون مِن نعيق البوم والغراب، أو رؤية الأعور أو الأعرج، والعليل والمعتوه، وبعضهم يتشاءم مِن يوم الأربعاء، أو ساعةٍ معيّنةٍ منه".
ومنهم مَن يتطيّر بالزّوجة والدّابة وغير ذلك، وكلّه مِن الطّيرة المنهيّ عنها، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ).
بينما المؤمن الحقّ يردّ التّطيّر والتّشاؤم بالشّهور والأيّام، والنّجوم والطّيور، وكلّ ما يتنافى مع عقيدة التّوحيد أو يُنقص كماله، لكونه مِن أساليب الشّيطان المضلّة، فالنّافع والضّار هو الله وحده.
2- التَّوكُّل والتَّطيُّر لا يجتمعان
إنّ المؤمنين لَيحمدون ربّهم عز وجل أن أكرمهم بنعمة الإيمان، وسلّم لهم العقيدة الصّحيحة، ويحرصون على حمايتها مِن كلّ ما يفسدها ويضرّها، ولا يوجد سياجٌ واقٍ ولا حصنٌ منيعٌ لها أفضل مِن التّمسك بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا فإنّ المؤمنين يعالجون الطّيرة بحُسْن توكّلهم على الله سبحانه، والمضيّ فيما يعزمون عليه، وتجنّب وساوس الشّياطين، وتجديد اليقين بأنّ الأمر كلّه بيد الله، قال تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123].
ولقد أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن أكمل المؤمنين إيمانًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صل الله عليه وسلم قَالَ: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
فمَن ابتلي بشيءٍ مِن التّشاؤم فعلاجه في التّوكّل على الله جل جلاله، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ).
وتعميق الإيمان بالقضاء والقدر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ).
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ، وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ).
وقد ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم كفّارة مَن وقع في الطّيرة، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: (أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ).
ولقد كان مِن هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن كان في حيرةٍ مِن أمره أن يستخير ربّه عز وجل بدلًا من أن يتشاءم أو يتطيّر، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ".
قال ابن رجبٍ: "وأمّا تخصيص الشّؤم بزمانٍ دون زمانٍ فغير صحيحٍ، وإنّما الزّمان خلق الله، وفيه تقع أعمال بني آدم، فكلّ زمانٍ شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمانٌ مباركٌ عليه، وكلّ زمانٍ شغله المؤمن بمعصية الله، فهو مشؤومٌ عليه، فالشّؤم في الحقيقة هو معصية الله".
خاتمةٌ:
لقد كان مِن هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم الفأل الحسن وعدم التّطيرّ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ).
فما أجمل الكلمة الطّيّبة! وما أبلغ تأثيرها في قلب الرّجل الّذي عزم على أمرٍ ما! حيث تزيده ثباتًا وسكينةً واطمئنانًا وإقبالًا.
قال ابن الأثير: "الفأل فيما يُرجى وقوعه مِن الخير، ويحسن ظاهره ويَسُرُّ، والطّيرة لا تكون إلّا فيما يسوء، وإنّما أحبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم الفأل، لأنّ النّاس إذا أمّلوا فائدةً مِن الله عز وجل، ورجوا عائدته عند كلّ سببٍ ضعيفٍ أو قويٍّ فهم على خيرٍ، وإن لم يدركوا ما أمّلوا فقد أصابوا في الرّخاء مِن الله، وطلب ما عنده، وفي الرّجاء لهم خيرٌ معجّلٌ، ألا ترى إذا قطعوا أملهم ورجاءهم مِن الله، كان ذلك مِن الشّرّ! فأمّا الطّيرة فإنّ فيها سوء الظّنّ، وقطع الرّجاء، وتوقّع البلاء، وقنوط النّفس مِن الخير، وذلك مذمومٌ بين العقلاء، منهيٌّ عنه مِن جهة الشّرع".
فما أحوجنا إلى تقوية جانب الإيمان بالقضاء والقدر، وتعميق الصّلة بالله، وعدم الالتفات لوساوس الشّيطان وأساليبه الخدّاعة، والبعد عن اليأس والقنوط الّذي يؤدّي إلى ترك العمل، بل إنّنا بأمسّ الحاجة -أيضًا- إلى التّوكّل الصّادق على الله في كلّ شؤننا، فمَن توكّل على الله كفاه، وعاش مرتاح الضّمير، هادئ البال، منشرح الصّدر، مطمئنّ القلب، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطّلاق: 3].