بهذا تُنصرون
الخطبة الثالثة ضمن سلسة ( الإيمان والحياة)
عناصر الخطبة :
1- الإيمان واليقين بنصر الله
2- النصر بالدين لا بالعُدد والعَدد
3- هل يبطئ النصر عن المؤمنين ؟
4- الإيمان يؤلف بين القلوب
5 - صفات المؤمنين الذين يستنزلون نصر الله
6- النصر الحقيقي ؟
...............................................................................................................
النصرُ والهزيمةُ يجريان على سننٍ وقوانينَ، فليس النصرُ معجزةً؛ وإنما وعدٌ من الله معلَّقٌ بشروط ( يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (محمد : 7) وقال سبحانه : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ ،إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ ) (الصافات : 171-172-173 )
هي كذلك متحققة في كل دعوة لله ، يخلص فيها الجند، ويتجرد لها الدعاة، إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها ا لعراقيل، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار " ( في ظلال القرآن )
وخيرٌ مِن أن نسأل أين النصرُ الموعود !؟ أن نسأل : هل تحققت فينا شروطُ هذا النصرِ الموعود ؟
1- الإيمان واليقين بنصر الله :
أ- المؤمن حسن الظن بالله بنصره الحق ومحقه الباطل :
حسن الظن بالله من واجبات التوحيد، ولوازم الإيمان الحقيقي بالله، لأن حسن الظن به مبني على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه وحسن اختياره وقوة التوكل عليه، فإذا تمَّ العلمُ بكلِّ هذا أثمر حسنَ الظنِّ بالله سبحانه.
فكم مِن الناس مَن يظنُّ أن لن ينتصرَ هذا الدينُ، ولن يتمَّ أمرُه، أو يظنُّ أنه لا يؤيِّدُ اللهُ حزبَه ويُعليهم، ويُظفِرُهُم بأعدائه، ويُظهِرُهُم عليهم، ويَظُنُّ كذلك أنَّ اللهَ يجعلُ الغلَبةَ للباطلِ وأهلِهِ على الحقِّ وأهلِهِ غلبةً ظاهرةً دائمةً لا تقوم للحقِّ بعده قائمةٌ.
قال العلامة ابن القيم-رحمه الله- في تفسير قوله تعالى ( الظَّانِّينََ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ )(الفتح:5)
"وقد فُسِّرَ هذا الظنُّ الذي لا يليقُ باللهِ، بأنه سبحانه لا ينصُرُ رسولَه، وأن أمْرَهُ سيضمحِلُّ، وأنه يُسلِمُه للقتل، وقد فُسِّرَ بظنهم أنَّ ما أصابَهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حِكمة له فيه، ففُسِّر بإنكارِ الحِكمة، وإنكارِ القدر، وإنكارِ أن يُتمَّ أمرَ رسوله ويُظْهِرَه على الدِّين كُلِّه، وهذا هو ظنُّ السَّوْءِ الذي ظَنَّهُ المنافقُونَ والمشرِكُونَ به سبحانه وتعالى في ( سورة الفتح ) حيث يقول: ( وَيُعَذِّبَ الْمُـنَافِقِينَ وَالْمُـنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينََ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً )(الفتح:5)
وإنما كان هذا ظنَّ السَّوْءِ، وظنَّ الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظنَّ غير الحق، لأنه ظنَّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاتِهِ العُليا، وذاتِه المبَّرأة من كُلِّ عيبٍ وسوء، بخلافِ ما يليقُ يحكمته وحمدِه، وتفرُّدِهِ بالربوبية والإلهيَّة، وما يَليق بوعده الصادِق الذي لا يُخلفُهُ، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصُرُهم ولا يخذُلُهم، ولجنده بأنهم هُمُ الغالبون، فمَن ظنَّ بأنه لا ينصرُ رسولَه، ولا يُتِمُّ أمرَه، ولا يؤيِّده، ويؤيدُ حزبه، ويُعليهم، ويُظفرهم بأعدائه، ويُظهرهم عليهم، وأنه لا ينصرُ دينه وكتابه، وأنه يُديل الشركَ على التوحيدِ، والباطلَ على الحقِّ إدالة مستقرة يضمحِلّ معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظنَّ بالله ظن السَّوْءِ،
ونسبه إلى خلاف ما يليقُ بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإنَّ حمدَه وعزًَّته، وحِكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يَذِلَّ حزبُه وجندُه، وأن تكون النصرةُ المستقرة، والظفرُ الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فَمن ظنَّ به ذلك، فما عرفه، ولا عرف أسماءَه، ولا عرف صفاتِه وكماله، وكذلك مَن أنكر أن يكونَ ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه، ولا عرف ربوبيَته، وملكه وعظمتَه" ( زاد المعاد -لابن قيم الجوزية )
ب- المؤمن يوقن بمعيِّة الله للمؤمنين :
قال تعالى : (كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ) فوعدُه القاطع واقعٌ عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين ( في ظلال القرآن )
وقال في سورة الصافات (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ ،إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ ) (الصافات : 171-172-173)
فالوعد واقع، وكلمة الله قائمة.
وقال سبحانه : (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَـٰدُ ) (غافر : 51)
( وَلَمَّا رَءَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْأَحْزَابَ قَالُوا۟ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّآ إِيمَـٰنًۭا وَتَسْلِيمًۭا ) (الأحزاب : 22)
وقال أيضا ( ۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍۢ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةًۭ كَثِيرَةًۢ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ )(البقرة:249) أي بعونه، وتأييده، ونصره، فثبتوا وصبروا لقتال عدوهم جالوت وجنوده ( تفسير السعدي)
2- النصر بالدين لا بالعُدد والعَدد :
أ- تمايز المؤمنين بقوة إيمانهم لابكثرة عددهم : ولا ينصر الله كافراً على مؤمن إلا إذا كان المؤمنُ لايستحق النصر، لأن الأصل أن الإيمان معه النصر ، وقد يتخلف لخللٍ وضعفٍ في الإيمان ، فالنصر للمؤمنين وإن كانوا أقل عدداً ( وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) وإن كانوا أقل مالاً (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ يُنفِقُونَ أَمْوَ ٰلَهُمْ لِيَصُدُّوا۟ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةًۭ ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ )(الأنفال:36) وإن كانوا أضعف حصوناً وأعداؤهم أمنع حصوناً ( وَظَنُّوٓا۟ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا۟ ۖ) المؤمن لا يقاتل بسيفه بل يتوفيق الله وتسديده ( ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ ) ( الشيخ القر ضاوي- الشريعة والحي اة-بتصرف )
قال القرطبي عند قوله تعالى ( ۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍۢ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةًۭ كَثِيرَةًۢ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ ) "قلت هكذا يجب علينا نحن أن نفعل لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة وذلك بما كسبت أيدينا وفي البخاري قال أبو الدرداء إنما تقاتلون بأعمالكم " ( تفسير القرطبي )
ب- يُغلب المسلمون مع كثرتهم إن فقدوا الإيمان : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًۭٔا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) التوبة : 25
قال الحافظ ابن كثير :" قَالَ اِبْن جُرَيْج عَنْ مُجَاهِد : هَذِهِ أَوَّل آيَة نَزَلَتْ مِنْ بَرَاءَة يَذْكُر تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَضْله عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانه لَدَيْهِمْ فِي نَصْره إِيَّاهُمْ فِي مَوَاطِن كَثِيرَة مِنْ غَزَوَاتهمْ مَعَ رَسُوله وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْده تَعَالَى وَبِتَأْيِيدِهِ وَتَقْدِيره لَا بِعَدَدِهِمْ وَلَا بِعُدَّتِهِمْ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ النَّصْر مِنْ عِنْده سَوَاء قَلَّ الْجَمْع أَوْ كَثُرَ فَإِنَّ يَوْم حُنَيْن أَعْجَبَتْهُمْ كَثْرَتهمْ وَمَعَ هَذَا مَا أَجْدَى ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ إِلَّا الْقَلِيل مِنْهُمْ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَنْزَلَ نَصْره وَتَأْيِيده عَلَى رَسُوله وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى مُفَصَّلًا لِيُعْلِمهُمْ أَنَّ النَّصْر مِنْ عِنْده تَعَالَى وَحْده وَبِإمْدَادِهِ وَإِنْ قَلَّ الْجَمْع فَكَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَة كَثِيرَة بِإِذْنِ اللَّه وَاَللَّه مَعَ الصَّابِرِينَ" ( تفسير ابن كثير )
3- هل يبطئ النصر عن المؤمنين ويتأخر :
قال في ظلال القرآن عند قوله تعالى (وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ) :" قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها.. فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً ! وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر مافي طوقها من قوة، وآخر ماتملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً.. وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولاتجد لها سنداً إلا الله.. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله .. وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حميةً لذاتها، أو تقاتل شجاعةً أمام أعدائها ، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله.. كما قد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً ، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له انصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس .. وقد يبطئ النصر لأن البيئة لاتصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة.. فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه! من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر ، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية". ( في ظلال القرآن – سورة الحج )
وقال الشيخ عبد العزيز الطريفي ( كثيرٌ من الناس يطول عليهم انتظار النصر فينتكسون ويغفلون أن الله وعد بانتصار الحق وليس أشخاصهم، مات كثيرٌ من الصحابة قبل رؤية تمكين الله لنبيه )
4- الإيمان بالله يؤلف بين القلوب :
قال سبحانه : ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٌۭ ) قال الطبري :" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لو أنفقت ، يا محمد ، ما في الأرض جميعاً من ذهب وورق وعرض ، ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيلك ، ولكن الله جمعها على الهدى فائتلفت واجتمعت ، تقويةً من الله لك وتأييداً منه ومعونةً على عدوك . يقول جل ثناؤه : والذي فعل ذلك وسبّبه لك حتى صاروا لك أعواناً وأنصاراً ويداً واحدةً على من بًغاك سوءاً هو الذي إن رام عدوٌّ منك مَراماً يكفيك كيدَه، وينصرُك عليه ، فثِقْ به وامْضِ لأمره ، وتوكل عليه" . ( تفسير الطبري )
فالإيمان هو الرباط الوحيد الذي يجمع بين القلوب ويؤلف بينها، وكلما ضعف الإيمان في القلوب اتسع الخلاف، وطغى التشرذم والتنازع بين المجاهدين، فيفشلوا وتذهب هيبتهم .
وقد أكّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الوحدةَ بين القلوب، التي تتشكل من رابط الإيمان والأخوة الإيمانية، فوصَفَ المؤمنينَ بالجسد الواحد، بحيث لايمكن أن تَتِم َّوظائفُ هذا الجسدِ ولا كمالُه إلا بجميع أعضائه؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم ، مَثلُ الجسدِ . إذا اشتكَى منه عضوٌ ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى " ( أخرجه مسلم )
ووصفُهم في القرآن أنهم يقاتلون صفا (إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِۦ صَفًّۭا كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌۭ مَّرْصُوصٌۭ ) الصف : 4
قال عبد الرحمن بن سعدي:" هذا حثٌّ من الله لعباده على الجهاد في سبيله صفاً متراصاً متساوياً، من غير خلل يحصل في الصفوف، وتكون صفوفهم على نظام وترتيب، تحصل المساواة بين المجاهدين والتعاضد وإرهاب العدو، وتنشيط بعضهم بعضاً؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر القتال صفّ أصحابه ، ورتّبهم في مواقفه، بحيث لايحصل اتكال بعضهم على بعض، بل تكون كل طائفة منهم مهتمة بمركزها، وقائمة بوظيفتها، وبهذه الطريقة تتم الأعمال، ويحصل الكمال ". ( تيسير الكريم الرحمن- عبد الرحمن بن ناصر السعدي )
5- صفات المؤمنين الذين يستنزلون نصر الله :
وصف القرآن المؤمنين الذين يستحقون النصر منه سبحانه، فقال (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا۟ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ )(الحج:41)
فوعدُ الله المؤكد الوثيق الذي لايتخلف هو ان ينصر من ينصره، فمن هؤلاء الذين ينصرون الله فيستحقون نصر الله، القوي العزيز الذي لايهزم من تولاه ، غنهم هؤلاء :
أ- (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ ) فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين،
ب- (وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ) فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح الأنفس ، وتطهروا من الحرص، وكفلوا الضعاف والمحاويج
ت- ( وَأَمَرُوا۟ بِٱلْمَعْرُوفِ ) فدعوا إلى الخير والصلاح ودفعوا إليه الناس
ث- (وَنَهَوْا۟ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ) فقاوموا الشر والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة لاتي لاتبقي على منكر وهي قادرة على تغيير، ولاتقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه.
ج- والذين لايرتابون ولايشكّون، بل يقينهم بالله في أعلى درجاته ( إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ بِأَمْوَ ٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ )(الحجرات:15)
ح- والذين تزيدهم آيات الله إيماناً، والمتوكلون على الله (إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰنًۭا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )(الأنفال:2)
خ- والخاشعون في صلواتهم، المعرضون عن اللغو ( قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ *)[المؤمنون:1- 4]
د- واللذين يؤمنون بشرع الله منهج حياةٍ وحكماً فصلاً بينهم ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا۟ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًۭا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا۟ تَسْلِيمًۭا ) [النساء:65] (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلًۭا مُّبِينًۭا )[الأحزاب:36]
هؤلاء هم الذين ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه، ويقيومن شرعه، ويحملونه إلى الناس، معتزين بالله وحده دون سواه، وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر علىى وجه التحقيق واليقين
( بتصرف من تفسير في ظلال القرآن ولقاء الشيخ القرضاوي : الشريعة والحياة )
6- النصر الحقيقي :
النصر نصران :
الأول: نصر العبد في نفسه منفرداً بالثبات على الحق حتى الممات:
فمن مات على الحق فقد نصره الله نصرأ فرديا مؤزراً. ويقول تعالى:( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) (إبراهيم : 27)
وقال تعالى: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ) (البقرة: 48)
وقال تعالى( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ) (البقرة : 86)
وهذا النصر هو أعظم النصر للعبد ولايملكه له إلا الله وحده قال تعالى:
( الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) (الأعراف:197)
النوع الثاني : نصر الله للجماعة المؤمنة: بأن يظهرها الله على عدوها؛ وهذا النوع هو الذي ينظر إليه أكثر الناس، ولايرون النصر إلا هو!
وإن النصر الحقيقي هو النصر الأول، وهو السبيل والطريق إلى النصر الثاني .
فالنصر يبدأ من أن ينتصر المسلم على نفسه أولاً ويجاهدها حق جهادها، ومن ثم يأتيه النصر على العدو الظاهر
فالأمة تنتصر على عدوها بعد أن ينتصر أفرادها على العدو الذي في نفوسهم.