1- آياتُ الله في السَّماء
2- آياتُ الله في الأرض
مقدمة:
لقد دعا الله عز وجل عباده إلى التّأمّل في آياته العجيبة، والنّظر إلى مخلوقاته المتنوّعة، وحثّهم على إيقاظ العقل والفِكر، ليتعرّفوا ما لله سبحانه مِن صفات كماله، ونعوت جلاله، ومظاهر عظمته، وأدلّة قدسه، وشمول عِلمه، ونفوذ قُدرته، وتفرّده بالخلق والإبداع {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النّمل: 59-63].
فمَن تفكّر في آيات الكون الّتي بثّها الله جل جلاله في الآفاق، تبيّن له جليًّا أنّ الله عز وجل لم يخلُق هذا الكون باطلًا، بل خلقه لتسير الحياة وفق نهجٍ معيّنٍ، وليختبر النّاس في أداء العبادات {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
بل لقد دعانا إلى التّفكّر في أنفسنا أيضًا {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرّوم: 8].
فهل مِن معتبرٍ؟!
1- آياتُ الله في السَّماء
يدعونا الله سبحانه في آياته القرآنيّة إلى النّظر في مُلكه وملكوته، وإلى التّفكّر في مصنوعاته ومخلوقاته، والتّأمّل في غرائب صنعه وآثار قدرته {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطّلاق: 12].
ليعترف الإنسان بعجزه وضعفه أمام قدرة خالقه، فلا يغترّ بدنيا وإن أقبلت، ولا بمالٍ وإن كثر، ولا بأولادٍ وإن تعدّدوا، ولا بجاهٍ وإن عَظُم، ولا بعمْرٍ وإن طال، لأنّ في اختلاف اللّيل والنّهار، وفي كرّ السّنين والأعوام، دليلًا قاطعًا على أنّ الدّنيا لا دوام لها ولا بقاء، وفي الحقيقة: إنّ آيات الكون تدهش العقول، وتحيّر الأفكار، فهل رأينا السّماء على علوّها وارتفاعها، واتّساع رقعتها وانبساطها، كأنّما هي خيمةٌ تظلّل العالم أجمع، لا يمسكها طنبٌ ولا أوتادٌ، ولا ينصبها رافعاتٌ ولا عمادٌ، إلّا أن تكون قدرة الله الحيّ القيّوم! {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحجّ: 65].
وهل رأينا الشّمس في شروقها وغروبها، وحرارتها وضيائها، لا تشعلها نارٌ، ولا يمدّها زيتٌ، مع سرعتها وعجلتها، وهي -على صِغرها في العين، وبُعدها عن الأرض- تضيء العالم مِن أقصاه إلى أقصاه، وتبثّ فيه الحرارة والدّفء، وتبعث فيه الحيويّة والنّشاط، وهل رأينا القمر يرسل أشعّته الفضّيّة على الوجود، يطلع في أوّل الشّهر هلالًا صغيرًا، ثمّ يكون في وسطه بدرًا منيرًا، ثمّ يعود في آخره كما كان في أوّله، لا يتأخّر دقيقةً عن أوانه، ولا يختلّ شعرةً عن دورانه، لا يسبق الشّمس ولا تسبقه، ولا يلحقها ولا تلحقه، بل يجريان بنظامٍ محكمٍ دقيقٍ {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38-40].
وهل رأينا النّجوم في ظلام اللّيل، متناثرةً في جوانب السّماء، كأنّها اللّؤلؤ المنثور، أو كأنّها ثريّات الكهرباء! وهل رأينا السّحاب مسخّرًا بين السّماء والأرض، كالجبال الرّاسيات في ثِقله، لكنّه كالبرق اللّامع في سرعته {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النّور: 43].
2- آياتُ الله في الأرض
إن كنّا قد تعجبّنا مِن عالم السّماء، فعالم الأرض أعجب وأغرب، فهل رأينا الكرة الأرضيّة على فخامتها وضخامتها، وعظمة مساحتها، كيف سُوِّيت ومُدّت، أو كيف ذُلّلت وسُخّرت! تحمل على ظهرها البحار والأنهار، والجبال والأحجار، والحيوان والنّبات، وتخبّئ في باطنها الزّيوت والكنوز والدّفائن، تربتها واحدةٌ، وماؤها واحدٌ، ولكنّها تنتج مختلف الزّهور والثّمار {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرّعد: 4].
وهل أوقفنا نبأ اللّيل والنّهار، وما فيهما مِن آياتٍ وعظاتٍ! {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
فلا تصلح الحياة إذا كانت كلّها ليلًا أو كلّها نهارًا، ولذا لَفَت ربّنا عز وجل أنظارنا إلى هاتين الآيتين، فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71-73].
نرى العالم والنّهار موجودًا في جلبةٍ وضوضاء، وبيعٍ وشراءٍ، وإقبالٍ وإدبارٍ، لا يكفّه عن السّعي قانونٌ مهما كانت صرامته، ولكن إذا جاء اللّيل بجلاله وهيبته، بسط جناحه على العالم، وأنزل ستاره على الكون، يسكن كلّ متحرّكٍ {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37].
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [الّنبأ: 10-11].
وإنّ الإسلام دعا إلى التّفكير فيما خلق الله وأبدع، وصوّر وأتقن، ولكنّه نهى عن التّفكير في ذات الله المنزّهة، لأنّ ذات الله فوق الإدراك والإحاطة {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103].
خاتمةٌ:
إنّ التّفكير في صنع الله العجيب لَمِن أعظم القربات، وأجلّ العبادات، وإنّ الويّل لِمَن أعرض عنه وتغافل، قَالَ ابْنُ عُمَيْرٍ: فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَايَعْنِيهِ): {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، الآيَةَ كُلَّهَا.
ولكن ليت شعري لمَن يكون هذا الصّنع العجيب يا ترى؟! ولمَن يكون هذا الإتقان البديع؟! {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النّمل: 88].
وأيّ ظلمٍ بعد ظلم الإنسان العنيد، وبطش الجبابرة المجرمين، الّذين يسومون النّاس سوء العذاب، ألم يقرأ الواحد منهم في الآيات الكونيّة مِن الأدلّة والبراهين القاطعة، ما يخرجه مِن الظّلمات إلى النّور، ويهديه إلى طريق مستقيم {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91].
بل لقد حقّ عليه قول {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17].
لقد عميت بصيرته، وعشا بصره، وخُتم على سمعه وقلبه، فكان مِن الغافلين، لأنّه تمكّنت الدّنيا مِن قلبه تمكّنًا تامًّا، فلم تدع فيه مكانًا لغيرها، وأصبح لا يرى إلّا ما يلزمه منها، ولا يفهم إلّا ما يعود عليه بالخير منها، فتراه يفهم السّياسة ولا يفهم الدِّين، ويدرس علوم الدّنيا ولا يدرس شيئًا مِن علوم الآخرة، وكلّ ذلك جريًا وراء الدّنيا الّتي أسكرته بخمرها، وأنسته كلّ شيءٍ في الحياة حتّى خالقه ومولاه، لا تفزعه الحوادث، ولا تزعجه النّازلات، كأنّما هو في نومةٍ ثقيلةٍ أو تيهٍ عميقٍ، تقرعه النّوائب فلا ينتبه، وتكرّ عليه السّنون فلا يستفيق، وتدعوه العِبَر فلا يجيب {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].