مقدمة:
إن للباطل في هذا العصر صولة وجولة، وكلمة وموقف، فله خطط وبرامج وقنوات، وما انتفش الباطل وارتفعت كلمته إلا لتخاذل أهل الحق، ونكوصهم عن المواجهة، وإظهار محاسن الحق الذي يحملونه وينتسبون إليه.
إن أهل الباطل يدافعون عن باطلهم، ويبذلون في سبيل نشره وإقناع الناس به كل غال ونفيس.
وليس الأمر مقتصرا على الدعوة فقط، بل إنهم يبثون أتباعهم في صفوف الجماهير لتثبيتهم على الوفاء لمبادئ الخبيثة، وأهدافٍ قبيحة، وغاياتٍ خاسرة.
هل تذكرت أخي أن دينك هذا الذي تدين الله به مستهدف بعداء مرير وكيد طويل ؟
ماذا قدمت لدين الله ؟
سؤال يجب ألا نمل طرحه، وألا نسأم تكراره؛ لنحيي في القلوب قضية العمل لهذا الدين، هذا الدين الذي تعب من أجله آدم، وناح لأجله نوح، ورُمى في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبِيْعَ يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضُّر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم.
عناصر الخطبة:
1- واقع مرير .
2- أمانة عظيمة .
3- وقفوهم إنهم مسؤولون .
4- مصابيح مضيئة ممن سلف .
5- على دروب السؤال:
* حمل هم الأمة في قلبك .
* في زمن انتشر فيه الغلوّ.
* بلغو عني ولو آية .
* صحبة صالحة تحمل معك .
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت ) أخرجه أبو داود في سننه وهو صحيح.
لا يخفى على أحدٍ من المسلمين مرارة الواقع الذين يعيشون , فرقةٌ وتشرذم , تسلط للأعداء كما يتداعى الأكلة إلى قصعتهم , استضعاف وتنكيل بأهل الإسلام شرقاً وغرباً , غُثائية عجيبة بالمجمل , وفي التفاصيل فدويلات متصارعة , ونعرات بغيضة , جهل بعد علم , وشتات بعد وحدة , وذلة بعد عزة , وتفلتٌ بعد التزام , وتيهٌ في صحراء الجهل , وتسولٌ على موائد البشرية وإنتاجها الفكري والإنساني – بعد أن كنا أساتذة البشرية في كل ميادين الحضارة - ..
ولا نتوسع في هذا الباب الذي يدركه كل عاقل .. واقع يستنهض الهمم , ويستحث الخطى لتجاوزه وتغييره ..
كيف لا .. ونحن ورثة قوله تعالى : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب:72)
أمانة الفرائض والحدود والتشريع – كما نقل الطبري في تفسيره – هذه الأمانة الثقيلة التي حملناها على أعناقنا , وأمرنا بتبليغها للناس كافة ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (التوبة:33)
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) (آل عمران: 110)
( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (يوسف: 108)
فهل وعينا هذه الآيات العظيمة ؟؟!!
وهل ترانا نعي قول الله تعالى ( وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) (الصافات:24).
هذه الآية التي قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة يصلي بعد العشاء، فقرأ سورة الصافات بعد الفاتحة، حتى أتى على هذه الآية :
( وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) وصار يبكي ، وهو يخاف من المسؤولية والحساب .. حتى طلع عليه الفجر ولم يركع ، ودموعه على خديه ..
هذا الخليفة العادل الفاروق. فكيف سيكون موقفنا نحن المقصرون ؟؟! ..
هذه الآية أحدثت ثورة عظيمة لما وعتها النفوس المؤمنة فتحولت من رعي الغنم إلى قيادة الأمم , ومن أمة تعبد الوثن والصنم إلى أمةِ دعوةٍ صلّت في قرطبة وخطبت في الفسطاط , وبنت المساجد في كل صقع , ونشرت العدل والسلام في كل مكان .
والآن يأتي السؤال المحرج – ربما -... ماذا قدمت أنت لهذا السؤال ؟؟ ماذا حضرت من إنجازات ومآثر بين يديه ؟؟
رَوى ابنُ حِبَّانَ والترمذيُّ في جامِعِه وصححه الألباني أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه)(السلسة الصحيحة:946)
وإذا كان العبد يُسأل عن ساعات قضاها من عمره , أو عن جسده البالي , وعن مالٍ هو من عَرَض الدنيا ... فكيف بأمانة الدين وحمله ؟؟؟
الذي ما وصل إلينا إلا على أشلاء وجماجم من ضحوا في سبيله بأرواحهم واسترخصوها لله تعالى، فملايين الأنفس قد أزهقت من لدن محمد صلى الله عليه وسلم، بل من لدن آدم عليه السلام، ليصل إلينا هذا الدين غضًا طريًا , وكيف بالشريعة الغراء التي تحيي النفوس والأفئدة ؟؟ وكيف بأمتك التي هي خير أمة أخرجت للناس( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )(آل عمران:110),
فماذا قدمت لها ؟؟ هل سألت نفسك هذا السؤال ؟ وقد علمت أنك واقف بين يدي ربك غداً مسؤولاً عنه في موقف تشيب منه الولدان , وتذهل كل مرضعة فيه عما أرضعت ..
( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (الحج:2)
وتعال بنا نرى ماذا فعل من فقه هذه المعاني من أجل ذلك السؤال ...
عن أنس بن مالك، قال:( جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرءون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم، فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم، بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حراما، خال أنس من خلفه، فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا ) (مسلم:1511)
لله درّهم .. قدموا أرواحهم ، فهلا قدمنا أوقاتنا... ؟!
ووجد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وبقي شهراً يدعو على قاتليهم في صلاة الفجر،
فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:( بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمْ القُرَّاءُ فَأُصِيبُوا، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَى شَيْءٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا فِي صَلاَةِ الفَجْرِ، وَيَقُولُ: إِنَّ عُصَيَّةَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ )( البخاري:6394)
* وهذا القائد يوسف صلاح الدين الأيوبي أتته رسالة من المسجد الأقصى تستنجده:
يا أيها الملك الذي لمعالــم الصلبان نكـــــس
جاءت إليك رسالة تشكو من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفــــي أدنس
فانتخى وصاح: وااا إسلاماه، وامتنع عن الضحك وسارع في الإعداد ولم يقارف بعدها ما يوجب الغُسل .
ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالآذان ووحدوا الرحمن وجاء الحق وبطلت الأباطيل وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وانجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وخرس القسيسيون وأحضر منبر نور الدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحداً وتسعين عاما، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:45)، ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ)(الروم:4).
* وهذا عقبة بن نافع والي المغرب – زمن يزيد بن معاوية - .. وكان عقبة قد فتح شمال أفريقيا على فترتين - تجاوز في الثانية جبال الأطلسي ليجد نفسه فجأة في مواجهة المحيط فدخله بفرسه وقال: {اللهم لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته إليها}.
فسبحان الله .. ما أعظم هذه الهمم !! وما أروع هذه النفوس !!
ولو ذهبتَ تذكر أمثال هؤلاء الأفذاذ , لجف قلمك, وتوقفت كلماتك, وحتى لا يُقال هؤلاء في عصر غابر , ومن خير القرون
* فإليك حال الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله – فلقد قعد عن الحركة منذ أن كان ابن ستة عشر عاماً، وعاش آخر سنوات حياته، وهو يكاد أن لا يستطيع أن يحرك أي جزءٍ من جسمه، ويكاد أن لا يبصر إلا قليلاً، ويعاني من ضعفٍ في السمع، والتهابٍ مزمنٍ في الرئة، وأمراضٍ أخرى، ومع ذلك كان –رحمه الله- يحمل همةً فتية، وروحاً وثَّابة، وعزماً لا يلين، يحطم الصخرة، ويفلّ الحديد ويردد :
ســــأثارُ؛ لـكـــن لـــربٍ وديـــن وأمضي على سنتي في يقين
فـــــإمـــا إلى النصر فوق الأنام وإمـا إلـى الله فـــي الخالديـــن
ويردد :
همتي همةُ الملوك، ونفسي نفس حرٍّ ترى المذلـة كفراً
فماذا قدمنا نحن الأصحَّاء ؟؟ وما هو جوابنا بين يدي السؤال ؟ ( وقفوهم إنهم مسؤولون )( الصافات: 24).
*- احمل هم الأمة في قلبك , واجعل له مكاناً لها في خريطة ذهنك , وفرِّغ جزءاً من وقتك الذي ستسأل عنه لتعلّم أحكام هذا الدين , وتنهل من معينه الوافر , وينبوعه الصافي،وليكن لسان حالك:
سأحمل دعوة الإسلام وحدي ولو أن العالمين لها أساؤوا
فتلك عقيـــدةٌ مــلأت فـــؤادي كما ملأت شراييني الدماء
إذا كان الفنــاءُ سبيـــلُ خلـــدٍ فمرحى ثم مرحى يا فناءُ
*- في زمن انتشر فيه الغلوّ في الدين: عليك أمانة التبليغ، ونشر صورة الإسلام الوسطية الناصعة، التي بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم دولة في ثلاثٍ وعشرين سنة فقط، وفتح أصحابه الدنيا من بعده بهذه الدعوة
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم، من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق به)(مسلم:1828).
وفي حديث أبي ذر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ) (رواه مسلم:61)
وفي سنن ابن ماجة وصححه الألباني قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) (ابن ماجه:3029)
قال تعالى: ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الحَقَّ ) (النساء:171).
وقال: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (البقرة: 143)
*- بلغو عني ولو آية:
فأنت ابن الإسلام, وأنعم الله عليك بأن تربيت في بيئة مسلمة , فلا تقصّر في تبليغ ما تعرفه ولو آية من الآيات وابدأ ببيتك , وأسرتك , وحيّك وحارتك ثم بمن تعرف .. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ) . (رواه البخاري)
*- صحبة طيبة تحمل معك:
فإن (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)( رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
قال تعالى: ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا *) (طه:29-35)
اللهم انصر دينك نصراً عزيزاً , وأعزّ المسلمين واجعلنا ممن تُعزُّ بهم دينك وعبادك .. آمين والحمد لله رب العالمين.