1- حكم النّصرة
2- أهل النّصرة
3- أنواع النّصرة
4- النّصرة بين التّاريخ المنتفض والواقع والمرير
5- واجب كلّ مسلمٍ اليوم تجاه المستضعفين /- من أهل سوريّة خاصة - والمسلمين المستضَعفين عامّة/
كيف يقدِّس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟
لنصرة المستضَعفين بعث الله نبيه محمّداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين؛ فلا يقدِّس الله ولا يهدي أمّةً لا يَأخذ الضّعيف فيها حقّه من القويّ.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما- قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟)، فَقَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ، مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا، فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟)
وفي رواية: (إِنَّ اللهَ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُعْطُونَ الضَّعِيفَ مِنْهُمْ حَقَّهُ)
1- حكم النّصرة
نصرة المظلوم فريضةٌ دينيّةٌ، وضرورةٌ حياتيّةٌ؛ فأمّا كونها فريضة دينية فلدلالة القرآن والسّنّة.
الأدلّة من القرآن الكريم:
آياتٌ كثيرةٌ في كتاب الله تعالى تدلّ على وجوب نصرة المظلوم، ومنها قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]، وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النّساء: 75]، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
الأدلّة من السّنّة:
وردت أحاديث كثيرةٌ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم تدلّ على وجوب نصرة المظلوم والوقوف معه لدفع الظّلم عنه واسترداد حقوقه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ)
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله: (لا يسلمه) أي لا يتركه مع من يؤذيه بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخصّ من ترك الظلم"، فالنّصرة إذن حقٌّ أساسيٌّ من حقوق الأخوّة ومقتضياتها العمليّة".
2- أهل النّصرة
كلّ مسلمٍ مظلوم في دينه أو في دنياه، أو معتدىً عليه في نفسه أو في أهله أو ماله، فهو أهلٌ للنّصرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [الأنفال: 72].
ويشترك في أصل هذا الحُكْمِ البرّ والفاجر، فالفِسق سواءً كان بمعصيةٍ أو بدعةٍ ليس مانعاً من النّصرة كما يتوهّم بعض النّاس، قال تعالى:
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
ومعلومٌ في الشّريعة الإسلاميّة أنّ قتال المسلم فسوقٌ، وفي الآية أمرٌ بقتال الطّائفة الباغية وهو صورةٌ من صور النّصرة وخاصّةً إذا كان المنصور هو الظالم.
ويلحق بالمسلم في وجوب النّصرة أهل الذمّة والمعاهدين في دار الإسلام، قال ابن قدامة رحمه الله: "وعلى الإمام حفظ أهل الذمّة ومنع من يقصدهم بأذىً من المسلمين والكفّار، واستنقاذ من أُسر منهم بعد استنقاذ أسارى المسلمين، واسترجاع ما أُخذ منهم لأنّهم بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم"
بل لقد نصَّ الفقهاء بلسان ابن حزم الظاهري على أن "من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله ورسوله، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة"
ويعلق القرافي المالكي على هذا النص فيقول: "فعقدٌ يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع: إنه لعظيم"
وحين كانت القيادة الفقهية الراشدة آخذة مكانها الصحيح في سلم القيادة الإسلامية استمسكت بذلك حتى أصرَّ شيخ الإسلام ابن تيمية على إطلاق من كان مأسوراً من أهل الذمة مع التتار مع إطلاق المسلمين، فقال لقائد التتر: "لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيراً لا من اهل الذمة ولا من أهل الملة" فكان له ما أراد".
ومن أهل النّصرة أيضاً كلّ مستضعف في الأرض أيا كان دينه أو جنسه أو لغته فعن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمُرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ)
والّرسول صلى الله عليه وسلم يشير هنا إلى حلف الفضول الذي كان على أساس نصرة المظلوم.
3- أنواع النّصرة
للنّصرة في الإسلام صورٌ متعدِّدةٌ وأنواعٌ مختلفةٌ، منها:
أ- النّصرة الإغاثيّة:
وتكون بتوفير ما يحتاج إليه المعتدى عليه من طعامٍ أو شرابٍ أو دواءٍ وغير ذلك من ضرورات الحياة، وهي أشهر أنواع النّصرة وأكثرها ممارسةً في الواقع العمليّ، وقد كانت الصحابيات رضي الله عنهنّ يمارسن هذا النّوع المهمّ من أنواع النّصرة, فعن حفصة بنت عمرو مولاة أنس بن سيرين قالت: سمعت حفصة بنت سيرين تقول: سمعت أمّ عطيّة تقول: "كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُدَاوِي الْجَرْحَى، وَنَدْفِنُ الْقَتْلَى"
ب- النّصرة السّياسيّة:
وهي التّدابير الكفيلة بنصرة المظلوم ممّا يقوم بها ولاة الأمور وأهل الحلّ والعقد من المسلمين، من إدانة الظّلم وملاحقة الظّالمين وسنّ القوانين الصّارمة لرعاية الحقوق، وإذا تأمّلنا في أحكام النّصرة الشّرعيّة نجد بأنّ المسؤوليّة العظمى تقع على كواهل ولاة الأمور وأهل الحلّ والعقد من المسلمين، وبالأخصّ ما يتعلّق منها بالعلاقات الدوليّة في السِّلم والحرب، وبالجوانب القضائيّة وبعض الجوانب الاقتصادية، قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
وما نراه من تباينٍ أو تفاوتٍ بين المواقف الرّسميّة والمواقف الشعبيّة من مشكلات الأمّة الإسلاميّة يعدّ عاملاً من عوامل الضّعف وسبباً من أسباب الفشل، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
ت- النّصرة العسكريّة:
وتكون بقتال الظّالمين المعتدين على حقوق النّاس والمنتهكين لأعراضهم، أو بإعانة المُعتَدى عليهم ومدّهم بما يدفعون به الظّلم، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النّساء: 75].
ويتأكّد وجوب النّصرة العسكريّة وتنتقل من درجة الفرضيّة الكفائيّة التي هي الأصل في الجهاد إلى درجة الفرضيّة العينيّة إذا هاجم العدوّ بلداً مسلماً وعجز ذلك البلد عن ردّ العدوان لقلِّة عددهم وعتادهم، وهذه من الحالات التي يُصبح فيها الجهاد واجباً عينيّاً ويسقط فيها كثيرٌ من شروط الوجوب المتعلِّقة بالجاهزيّة والسِّنّ والجنس.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "وَقَدْ تَكُونُ حَالَةً يَجِبُ فِيهَا نَفِيرُ الْكُلِّ، وَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَى قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، أَوْ بِحُلُولِهِ بِالْعُقْرِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ أَنْ يَنْفِرُوا وَيَخْرُجُوا إِلَيْهِ خِفَافًا وَثِقَالًا، شَبَابًا وَشُيُوخًا، كُلٌّ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، مَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَمَنْ لَا أَبَ لَهُ، وَلَا يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ، مِنْ مُقَاتِلٍ أَوْ مُكَثِّرٍ"
وكلّ معاهدةٍ إقليميّةٍ أو دوليّةٍ تمنع المسلمين من نصرة إخوانهم المسلمين في جميع أقطار العالم فهي لاغيه غير ملزِمةٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ)
ث- النصرة بالدّعاء:
وهي من أهمّ أنواع النّصرة وأنفعها للمنصور وأفتكها بالمنصور عليه، وهي مع ذلك ذات طبيعةٍ إيمانيّةٍ لا يمارسها إلّا أهل الإيمان بالله عكس الأنواع الأخرى من النّصرة، ويدل عليها قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر} [القمر: 9-12]، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى هذه الوسيلة الناجعة لنصرة المظلومين.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فِي القُنُوتِ: (اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ)
ومع ذلك فإنّ بعض الجهلة وضعاف الإيمان من المسلمين يهوّنون من شأن الدّعاء.. والله المستعان.
4- النّصرة بين التّاريخ المنتفض والواقع والمرير
كم تلجلَجَتْ في تاريخنا من أصواتٍ لمنكوبين، وكم ترقرقت في ماضينا من دمعاتٍ لمظلومين، وكم تعالت في غابر دهرنا من استغاثاتٍ لمقهورين؛ ولكنّها لم تكن مجرّد صيحاتٍ في الهواء، أو أنَّات محبوسةٍ في الضّمير، بل كان لها أثرُها ووقْعُها في تهييج الأمّة، وإشعال الغيرة الإسلاميّة فيها، وتحريك النّخوة العربيّة بين أهلها.
حفظ لنا التاريخُ مواقفَ وضَّاءةً لأسلافنا، حرَّكتهم صيحاتُ المستغيثين، وألهبتهم آهاتُ المكلومين.
فيومَ أن كنّا خير أمَّة، كانت تتكافأ دماؤنا، ويسعى لذمَّتنا أدنانا، ونحن يدٌ على من سوانا.
يوم أن كنّا خير أمَّة، فكَكْنا العاني، وأجبْنا الداعيَ، وأغثنا الملهوف، ونصرْنا المظلوم.
يوم أن كنّا مستجيبين لله وللرّسول صدقًا، تمثَّلْنا قولَ الله حقًّا: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72].
ملكنـا هذه الدّنيـا قرونــاً *** وأخضعها جـدود خالـــدونــــا
وسطّرنا صحائف من ضياءٍ *** فما نسي الزّمان ولا نسينا
وكـنّا حين يرميـنـا أنــاسٌ *** نـؤدِّبـهم أبــــــاة قـــادريــنـــــا
وكنّا حين يأخــذنــا ولــــيٌّ *** بطغيانٍ ندوس له الجـبينــا
ولقد حفظ لنا التّاريخُ مواقفَ وضَّاءةً لأسلافنا؛ أجّج روح الثّأر في ضمائرها صيحاتُ المستغيثين، وألهبت مثار الحرب في كوامنها آهاتُ المكلومين.
إنّ أولى تلك الاستغاثات التي حفظها لنا الزمانُ هو خبر تلك المرأة الأنصاريّة المسلمة في سوق بني قينقاع: يوم أن دخلت تلك المرأة السّوقَ وهي في كامل حشمتها وسترها، وحيائها وعفافها، وكان سماسرة هذا السّوق وأهله هم من يهود بني قينقاع، حين كانوا يعملون في صياغة الحليّ والمجوهرات, وقفت تلك المرأة الشّريفة عند صائغٍ يهوديٍّ تساومه على بضاعة أرادتها، فالتفَّ حولها مجموعةٌ يهوديّةٌ قذرةٌ جعلوا يراودونها على كشف وجهها، والمرأة تأبى وتتمنَّع، فما كان من أحدهم إلّا أن عمد إلى ثوبها -وهي قاعدةٌ غافلةٌ- فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سَوْءتها، فتضاحك اليهود وتمايلوا، فصاحت المرأة المقهورة: يا أهل الإسلام، فقام رجلٌ من المسلمين قد أحرقت الغيرةُ صدرَه فقتل اليهوديّ، فتنادى اليهود وتمالؤوا عليه حتى قتلوا الرّجل المسلم.
وتَطير الأخبارُ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابتِه الكرام، ويقع هذا الحدث في قلوبهم موقعاً عظيماً، لتّتَفق كلمتهم على نصرة الدّم المسلم، وكرامة العِرض المسلم، حيث عقد النّبيّ صلى الله عل لواء الجهاد، وأعطاه لعمّه حمزة بن عبد المطّلب، ويمضى اللواء الإسلاميّ وهو مصمِّمٌ على تأديب هذه الشِّرذمة المرذولة الخائنة، وما إن تطاير إلى أسماع اليهود مقدم لواء حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه حتى هربوا خلف أسوارهم، واختبؤوا في حصونهم، ويحاصرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، ويقذف الله في قلوبهم الرّعبَ, فلما أيقنوا بالهلاك، وعلموا أن لا مناص لهم ولا محيص؛ أسلموا أمرهم واستسلموا، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينها أصدر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أوامره، وحكم فيهم بحكم الله عز وجل أن يُكتَّفوا، وتضرب أعناقهم.
فما كان من رأسُ النّفاق عبد الله بن أُبيّ بن سلول لمّا أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الله فيهم؛ إلّا أن تدّخل، ودافع عنهم ونافح، وقال: أحسِنْ في مواليَّ يا محمّد، فأعرَضَ عنّه النّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأعاد ابن أُبيٍّ مقالته، وجعل يُدخِل يدَه في جيب درع النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى تغيَّر وجهُ النّبيّ عليه الصلاة والسلام، وعُرِف منه الغضب، وهو يقول: (أرسلني) - أي: اتركني - فيقول المنافق: أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة ؟ إنّي امرؤٌ أخشى الدوائر.
فطاوعه النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ غير أنّه حَكَم فيهم بإجلائهم من المدينة مع نسائهم وذراريهم، وأنّ للمسلمين ما سيتركونه من أموالهم وأسلحتهم، وأنزل الله في إثر ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 51 – 52].
فتأملوا كيف انتصر المسلمون لهذه المرأة العفيفة الطّاهرة يوم استغاثت بأهل الإسلام، فكان الجواب في سرعة النّداء، فأين أهل الإٍسلام، وأين أرباب الزّعامات اليوم من آلاف الصّرخات التي انطلقت من المُعتقلات والسّجون ومناطق الحصار في أرض الشّام، وسائر بلاد المسلمين، لسان حالهنّ:
أوَ ما يحرِّكك الذي يجري لنا *** أوَ ما يثيرك جرحنا الدَّفاقُ
لكن حنانيك يا أختاه من تنادين، وبمن تستغيثين، ومن تستنجدين ؟!
لقد أسمعت لو ناديت حيّاً *** ولكن لا حياة لمن تنادي
تلك إحدى المشاهد المحفورة في تراثنا، والتّاريخ لا ينسى مثل هذه المواقف الشّامخة البيضاء، ويدوِّن أيضًا المواقف السّوداء الخائنة الخائبة.
5- واجب كلّ مسلمٍ اليوم تجاه المستضعفين /- من أهل سوريّة خاصة - والمسلمين المستضَعفين عامّة/
لا تلتفت - أخي المبارك - يمينًا وشمالاً، وترمي بالمسؤوليّة على فلانٍ أو فلانٍ، فكلُّنا مطالبون بنصرتهم وإغاثتهم، كلٌّ حسب قدرته ومكانته؛ فالقادة مطالبون أن يتَّقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، وأن يتحركوا سياسيًّا، والتّجار مأمورون ببذل المال في سبيل الله، والجهاد بالمال مقدَّم في مواضعَ كثيرةٍ من كتاب الله على الجهاد بالنّفس، والعلماء والمفكرِّون مطالَبون بجهاد الكلمة والنّصرة بالقلم واللسان، وأئمَة المساجد مأمورون بالدّعاء وإحياء سنّة القنوت عند النّوازل، وكلّ غيورٍ على دينه وأمَّته مطالَبٌ بإحياء قضيّة إخوانه في بيته وعمله وسائر مجلسه.
فالجميع مطالَبٌ بحمل السّلاح الذي نيط به؛ سلاح الدّعاء، وسلاح المال، وسلاح الكلمة، وسلاح الشِّعر والقصيدة، عن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ)
أمّا إن بردت أحاسيسك، وتبلَّد شعورك، وقعدتَ عن نُصرة من استغاث، فنحن لا نرجو منك أُخيّ إلّا الصّمت، وأن تكفَّ لسانك عن إخوانك المجاهدين المرابطين المحاصّرين، فهي صدقةٌ تتصدّق بها على نفسك.
عن جابر بن عبد اللَّهِ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا عِنْدَ مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ عز وجل فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ)