1- خير القرون، قدوة الأمة
2- الشدة على الكفار، الرحمة بالمؤمنين
3- واقع عملي
4- أين هذا من واقعنا؟
مقدمة:
الرحمة كمالٌ في الفطرة، وجمالٌ في الخلق، إحساسٌ في الضمير، وصفاءٌ في الشعور، تهبُّ في الأزمات نسيمًا عليلاً، يرطِّب الحياة، ويُنعش الصدور، ويؤنس القلوب.
الرحمة صفة الله -عز وجل -فهو الرحمن الرحيم، الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وسبقت رحمته غضبه، جعلها عهدًا {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} [الأنعام: 54].
ورحمته تعالى شاملة كاملة، تفيض على المخلوقات {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156].
1- خير القرون، قدوة الأمة
عندما يفيض الخاطرُ بالأفكار، والقلبُ بالحنين والشوق، وعندما يسيل مدادُ القلمِ مدراراً، ويصيرُ الفؤادُ بالحب موّاراً، وعندما تهفو النفوسُ، وتأنس الروحُ... عندها فقط يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحبه الكرام رضوان الله عليهم جميعاً، أولئكم النفر الذين زكّاهم ربُّنا من فوق سبع سماوات، وجعل ذكرهم مسكَ المجالسِ والمنتديات.
محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه، هم خيرُ البرية طُرَّا، أعلاها عند الله ذكراً، وأعظمُها في البلاد والعباد أثراً.
يطيب حديثُنا فيكم ويحلو ويغلو عند ذكرِكم الكلام
وأما غيرُكم فالقلبُ يأبى حرامٌ مدحُ غيرِكم حرام
جعل الله ذكرهم منارةً، واتباعَ طريقِهم فوزاً، فيا باغيَ الخيرِ والفلاحِ أقبلْ فها هنا حديثٌ عن خير الورى، وأطهرِ مَن وطئ الثرى.
2- الشدة على الكفار، الرحمة بالمؤمنين
ونحن نتحدث عن خير القرون، ونورِ العيون، فحريٌّ بنا أن نقف على صفاتِهم كما جلّاها الله سبحانه وتعالى لنا، فيقول جلّ جلاله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29].
إنها صورةٌ عجيبةٌ يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع. صورةٌ مؤلفةٌ من عدة لقطات لأبرزِ حالاتِ هذه الجماعة المختارة، حالاتها الظاهرة والمضمرة.
فلقطةٌ تصوِّرُ حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم: أشداء على الكفار رحماء بينهم.
ولقطةٌ تصوِّرُ هيئتهم في عبادتهم: تراهم ركعا سجدا.. ولقطةٌ تصوِّرُ قلوبَهم وما يشغلُها ويجيشُ بها: يبتغون فضلاً من الله ورضوانا.. ولقطةٌ تصوِّرُ أثرَ العبادةِ والتوجُّهِ إلى الله في سَمْتِهم وسِحْنَتِهم وسِماتهم: سيماهم في وجوههم من أثر السجود.. ذلك مثلُهم في التوراة.. وهذه صفتُهم فيها.. ولقطاتٌ متتابعةٌ تصوِّرُهم كما هم في الإنجيل.. كزرعٍ أخرج شطْأَهُ فآزره.. فاستغلظ فاستوى على سوقه. يُعجِبُ الزرَّاع: ليغيظ بهم الكفار.
هذه الآية هي الآية الأخيرة من سورة الفتح، سماها الله الفتحَ قبل أن يكون الفتحُ الحقيقيُّ لمكة، وجمهورُ المفسرين على أنّ الفتحَ هنا هو صلحُ الحديبيةِ 6هـــــــ، نقف هنا عند هذا الوصف للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام؛ حيث الشدةُ على الكافرين والرحمةُ على المؤمنين.
ونبينا رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم، ومن الرحمة أن يكون شديداً على الكافرين فلا يؤذون غيرهم.
ابتدأ النص بالحديث عن الشدة على الكافرين، لأن السياقَ سياقُ جهادٍ وحديثٍ عن مشركين وما يمكرونه ضد المؤمنين، ولأنهم منعوا المسلمين من أداء العمرة، وهذا هو شأنُهم سائرَ الأيام، ودأبُهم في كلِّ الأحيانِ، لأن القضيةَ بينهم وبين المسلمين هي قضيةُ عقيدةٍ وإيمانٍ قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة:217].
وليفهم هذا كلُّ مسلمٍ وعى القرآنَ وفهم أصولَ الدينِ، معركةُ المسلمين مع أعدائهم معركةٌ مصيريةُ لا ترتبط ببقعةٍ جغرافيةٍ هنا أو هناك فقط.... إنهم يسعون جاهدين وقد اتحدت إرادتُهم لاستئصال دينِ الله سبحانه وتعالى من النفوس ومن واقع الناس وهيهات لهم هذا هيهات.
3- واقع عملي
رأينا ولا نزال نرى هذا الحقدَ الدفينَ واضحاً عياناً -لمن كان له قلب- في معركة الكرامة والبطولة، معركة شرف الأمة في فسطاط المسلمين، وغوطة الشام المباركة حماها الله، حقدٌ طائفيٌّ بغيضٌ، وتأييدٌ دوليٌّ واسعٌ، يرافق أذنابَ الخِسّة، وأدعياءَ المقاومةِ في حربهم على أهلنا وإخواننا في الغوطة.
قصفٌ جنونيٌّ واستخدامُ كافةِ أنواعِ الأسلحة على أهلنا وإخواننا هناك، لترى فيها المجازر المروِّعةَ التي تدمي فؤادَ مَن كان في قلبه حبةٌ مِن خردلٍ من إيمان.
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمان
رافق ذلك ظهورُ الطابورِ الخامس، مِن أدعياء المصالحةِ والمهادنة -مع الأفعى- والذين فعلوا فعلهم في هذه الحرب، فقاموا بمحاولة خلخلة الصفوف، وكان لهم جولةٌ، وللحق جولاتٌ بإذن الله تعالى.
نُقِل لنا أنه عندما أراد المرتزقة دخولَ بلدةِ حمورية، نزلوا على أطرافها، وقام خدمةُ النظامِ من عرّابي المصالحةِ بحثِّ المدنيين المرعوبين للخروج إلى "جيش الوطن وحضنه"!! فما كان مِن بعض الخائفين إلا الخروج وقد ظنوا أنّ الأفعى قد بدّلت جلدها، لتكون المفاجأة، أنّ الأفعى لا تزال كما هي، وسُمّها الزعافُ الحاقدُ لا يزال يقطُرُ من أنيابها، فيهدّدهم ويجعلُ منهم دروعاً بشريةً يقتحم بها البلدة، فما كان مِن ثوارها الأبطال الشرفاء إلا الانحيازُ عنها رحمةً بأهلهم، وخوفاً عليهم، ودفعاً للضرر عنهم.
ليستبين لكل ذي لبٍّ العدوُّ من الصديق، والمجرمُ الحاقد من الابن الرحيم.
4- أين هذا من واقعنا؟
وبعد الحديث عن الشدة على الكافرين، يأتي الحديث عن الرحمة التي ينبغي أن تسود بين المؤمنين أنفسهم، فالعلاقة بين المؤمنين رحمة، وهذه الرحمة هي التي تقودهم في المجموع إلى أن يكونوا رحماء على الناس جميعاً إلا مع من قاتلهم واعتدى عليهم، لأن الرسالة الإسلامية في جوهرها رحمة للعالمين، كما وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وهذه أمور ينبغي التأكيد عليها. فالرحمة بيننا كأمة مسلمة ينبغي أن تكون واقعا معاشاً لا مجرد شعارات، وما قد يكون بين المسلمين من خلافات وخصومات لا تصل إلى درجة الشدة على أنفسنا.
والعجيب أن الله تعالى قال هنا في سورة الفتح: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} لما بيّنا، بينما قال في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
فقدّم الذلةَ على المؤمنين لأن السياق يتحدث عن ردةٍ وقلةِ التزامٍ وتضييعٍ لكثيرٍ من مقومات الأمة المسلمة، وكأنّ عنصرَ الحُبِّ بين المؤمنين مفقودٌ أو ناقصٌ، فكانت هذه النتيجةُ وهي خللٌ في صفوف الأمة المسلمة ونكوصٌ عن منهجها بالردة -والعياذ بالله-.
وهكذا هي الرحمة إن نُزعت من صفوف المسلمين حلّت النقمةُ وخلخلةُ الصفوفِ، فرأيتَ البعضَ ينفضُّ عن المبادئ والقيم التي تجمعُهم، رأيتَ هذا الخللَ يمتدّ ليطال شتى شؤونهم، فلا يأتلفون، بل لا يرى أيُّ طرفٍ إلا نقيصةَ الأطرافِ الأخرى، ولا يرحم التجارُ إخوانَهم، ولا يرى الكبيرُ إلا فريضةَ طاعته من الصغير، ويحِلُّ الشقاقُ في البيوت، ويمورُ المجتمعُ في غياهب الضياع.
لذلك لم يعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفّ قلبه من ماء الرحمة من أمتنا فقال: في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا)
فالله الله أيها المؤمنون في هذه الأخلاق العظيمة.
فليرى اللهُ شدَّتكم وعزمَكم على مَن هجّر وقتّلَ إخوانَكم.
وليرى المؤمنون منكم نخوتَكم وهبَّتكم لنصرة إخوانكم في غوطة الشام.
وليرى أعداءُ الله منكم البأسَ الشديد، والقوة الباطشة، ولْتزلزلوا الأرضَ من تحت أقدامِ الأُجرَاء الخونةِ على امتداد أرضنا الحبيبة الطاهرة.
وليرى إخوانُكم منكم كلَّ لينٍ، وود، اخفضوا جناحكم لإخوانكم وأهلكم من مدنيين وإخوة في الجهاد.
ولتكونوا يداً واحدة على أعدائكم.
اللهم مجري السحاب، هازم الأحزاب، اهزم الروس والمجوس وأذنابهم فإنهم لا يعجزونك، وحّد صفوفنا، واربط على قلوب إخواننا، وانصرنا على من عادانا.