الباحث:
مقدمة:
دراسة تحليلية للخطب الحربية: خطبة طارق بن زياد قبل فتح الأندلس أنموذجاً.
أردت الوقوف عنده الخطبة التي ألقاها طارق بن زياد على جنوده، لما لها من كبير أثر في إلهاب نفوسهم، وشحذ عزائمهم، وتقوية إرادتهم، وبخاصة أن شهرتها قد بلغت الأفاق، وكلماتها قد حفظت في كل ذاكرة.
مناسبة الخطبة:
عبر طارق برجاله إلى الجانب الأوربي من سواحل الأبيض المتوسط، واستولى على بعض المراكز الحيوية، فلما سمع به لزريق ملك القوط توجه إليه بجيش قوامه أكثر من سبعين ألفاً من الأشداء، فلما بلغ طارقاً دنو لزريق وجنده، قام في أصحابه خطيباً:
نص الخطبة:
بدأ طارق بخطبته فحمد الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة، فقال: "أيها الناس، أين المفر، البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتم عدو كم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب برعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت إليكم مدينته المحصنة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت، وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم ، بل أكون في مقدمة الزحف على خطة أرخص متاع فيها النفوس أبداً فيها بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً، استمتعتم بالأرفة الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي، وقد بلغكم أن أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات اليونان الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عرباناً ، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه معكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى ولي انجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين.
واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لذريق، فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون".
دراسة النص:
تعتبر خطبة طارق بن زياد من أروع الخطب الحربية التي عرفها التاريخ، والتي كانت ذات أثر واضح في تغيير الواقع الإسباني لمدة قرون ثمانية بعدها، وهي من النوع الحماسي التي تتضمن لأشد أنواع الحض على الجهاد.
وقد تضمنت الخطبة أسلوباً حماسياً معروضاً بأسلوب بعيد عن الغرابة والتركيب المعقد، مقيد بعاطفة هيجت السامعين الذي أقبلوا على لقاء العدو بشجاعة نادرة.
من خلال ما ذكرنا من أساليب في الخطبة الجهادية نجد أن طارق رحمه الله قد استعمل أغلب الأساليب التي كانت معروفة، فجاءت خطبته مؤلفة من عدة مقاطع تحمل مجموعة من الأفكار التي منها ما يأتي:
الترهيب: حيث طغى كثيراً على الخطبة من خلال التخويف من الهزيمة وتحقق الهلكة بالفشل، ولا يخفى تأثير هذا في الاستبسال حتى الموت أو النصر، وهذا ظاهر في قوله: "ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب برعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية".
ففي هذا عرض لقوة العدو وتبيين للمسلمين ليأخذوا حذرهم على مواجهة جيش مدرب، وهذا ما يفرض عليهم الصبر عند اللقاء وتقصير أمد المعركة.
ويظهر الإبداع في قوله: "أيها الناس، أين المفر والبحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر"، حيث بصرهم بحقيقة الواقع وأن لا مفر منه إلا بتغييره، وهذا أسلوب تحريضي قديم يلجأ إليه القادة حضاً للناس على الجهاد وتيئيساً لهم من العدة والهروب، إذ يروى عن (أرياط الحبشي) عندما غزا اليمن وعبر بقواته البحر تصدّت لهم جيوش الحميريين فخطب في جنده قائلاً: "يا معشر الحبشةّ! قد علمتم أنكم لن ترجعوا إلى بلادكم أبداً، هذا البحر بين أيديكم إن دخلتموه غرقتم، وإن سلكتم البر هلكتم واتخذكم العرب عبيداً، وليس لكم إلا الصبر حتى تموتوا أو تقتلوا عدوكم".
شحذ العزيمة: في نفوس الجند، والحض على الصبر، وهذا واضح في المقطع الثاني من خطبته: إذ قال: وأعلم أنكم صبرتم.. في الدارين.
كما أنه أصر على تأكيد فكرة التساوي بين الجند، ولا فضل لأحدهم على الآخر إلا بما يقدمه من عمل وثبات وصمود، مدللاً على ذلك بوجوده وهو القائد في الصف الأول.
وصف بعض المغانم: وما في هذا من الترغيب والتحفيز كما يظهر من المقطع الثالث في قوله: وقد علمتم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، أختاناً، وهذا إغراء بالخيرات التي سيملكها المسلمون بفتح الجزيرة.
النهج الحربي: الذي سيسير عليه طارق والخطة العسكرية التي سيخوض بها معركته، فرسم بخطبته خطته التي تبدأ بالإجهاز على موكب لزريق وقتله.
ولقد لجأ في خطبته إلى العقل أوّلاً، عندما وضع جنوده في الإطار الحقيقي للواقع الذي يعيشونه والذي يحاول طارق تغييره، وحين يسيطر العقل على العاطفة في الخطبة تغيبُ الصور عن الساحة، ويتوقف الخيال عن التّدخل.. فحديث العقل هامسٌ هادئ، أمَّا حديث العاطفة فحديث قارعٌ ضاجٌّ يستثيرُ النّوازع البدائية في النفوس كما تستثيرها الطبول بأصواتِها القوية المدوية.
وكان هذا فائضاً بتأكيد مبادئ النصر ومفاتيح الفرج، أي الصبر والثبات، ومن يصبر اليوم على مر اللقاء، يفز بألذ العواقب وأشهى النتائج.
كما أن خطبة طارق جاءت زاخرة بالجوانب البلاغية، ففي قوله: "أين المفرّ؟" استفهام إنكاري بمعنى النَّفْي، وهذا أسلوب ذو أثر في إثارة الحماس في نفس الجنود، أي لا مفرَّ أمامكم من لقاء العدوّ، وفي قوله في قوله "البحر من ورائكم، والعدو أمامكم" طِباقٌ، فقـد قابل بين لفظي (ورائكم) و (أمامكم)، وفي قوله "أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام" كِناية، وهي كناية عن الذِّلَّة والضعف.
نتيجة الخطبة:
لما سمع الجيش خطبة طارق أثرت فيه تأثيرها البليغ المشهود في اندفاعه إلى حومة الوغى، وتهافته على الموت بإيمان وحماس.
قال ابن خلكان: "فلما فرغ طارق من تحريض أصحابه على الصبر في قتال لذريق وأصحابه وما وعدهم من النيل الجزيل، انبسطت نفوسهم وتحققت آمالهم وهبت ريح النصر عليهم وقالوا: قد قطعنا الآمال مما يخالف ما عزمت عليه، فاحضر إليه فأنا معك وبين يديك. فركب طارق وركبوا وقصدوا مناخ لذريق، وانقشع غبار المعركة عن فتح مؤزر تلاه فتح الأندلس".