1- بحرٌ هائجٌ
2- يا مقلِّب القُلوب
مقدمة:
توشك تظلّنا أيّامٌ مباركةٌ، أيّام عشر ذي الحِجّة، جعلها الله عز وجل ظرفًا لأحد أركان الإسلام، فقد بُني الإسلام على خمسة أركانٍ، ومنها الحجّ لمَن استطاع الذّهاب إلى بيت الله، ويكون الحجّ في هذه الأيّام، وشرف الظّرف مِن شرف المظروف، ومِن شرف هذه الأيّام أن أقسم الحقّ سبحانه بها في كتابه، وفي هذا تنويهٌ بعظيم شأنها وعلوّ مكانتها {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2].
ومِن شرفها أن جاء فيها الحديث، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ) يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ).
لذا جديرٌ بنا أن نستقبلها خير استقبالٍ؛ فننظر في أفضل الطّاعات فيها فنلتزم ونكثر، ونتنافس في ذلك {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطفّفين: 26].
هذا، وإنّ للعمل الصّالح في هذه الأيّام وسواها فوائد معلومةٌ، كالتّقرب مِن الحقّ جل جلاله والتّزلّف إليه، وعلوّ الدّرجات في الجنّة، وله فوائد أخرى، تعود على النّفس بالطمأنينة والرّاحة والسّكون، في زمنٍ يعجّ بالاضطرابات النّاجمة عن انتشار الشّهوات والشّبهات، فكثرة انتشارها مدعاةٌ لاضطراباتٍ كثيرةٍ تؤثّر في ثبات الإيمان وفي يقين المؤمن، لكنّ العمل الصالح خير علاجٍ لما سبق {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النّساء: 66-68].
وهذا زمان العمل الصّالح يلوح لنا.
1- بحرٌ هائجٌ
نعيش اليوم في بحرٍ هائجٍ متلاطم الأمواج مِن الشّهوات والشّبهات {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النّور: 40].
وبعض النّاس يحلو له أن يخوض عباب هذا البحر، بدعوى أنّ الإسلام قويٌّ وليس هشًّا، وبما أنّه قويٌّ فلماذا نخاف على أنفسنا وشبابنا مِن الشّبهات المتلاحقة والشّهوات المتدفّقة؟ والحقّ أنّ الدّين في نفسه قويٌّ ولا مِراء، كيف لا وهو دِين الله عز وجل، يستغني عن النّاصرين والمؤيّدين، يعزّه الله بعزّه وينصره بنصره {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَبْلَغَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، يُعِزُّ بِعِزِّ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيُذِلَّ بِهِ فِي الْكُفْرِ) وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ رضي الله عنه، يَقُولُ: "قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ وَالشَّرَفَ وَالْعِزَّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ كَافِرًا الذُّلَّ وَالصَّغَارَ وَالْجِزْيَةَ".
فإذا كان الدِّين في نفسه قويًّا متينًا فلِم الحرص على الاستعداد لمواجهة الشّهوات والشّبهات بالعمل لدِين الله عز وجل؟ والتّعبّد والإكثار مِن الطّاعات؟ وخاصّةً في أيّام المواسم كالّتي تلوح لنا في الأفق!
السبب أنّنا نخشى على أنفسنا؛ لا على دِين الله سبحانه، نحن إذ نعمل لدِين الله لا لضعفه؛ بل لضعفنا، ونحن إذ نقبل على الطّاعات نُقبل لا لنزيد الإسلام عزًّا ومنعةً فهو عزيزٌ منيعٌ، فالغاية نحن ومصائرنا، وإذا كنّا اليوم نَرِد الجمعة والجماعات فهل ندري حالنا غدًا؟ وهل نعلم بم سيُختم لنا؟ والأعمال إنّما هي بالخواتيم، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَعْظَمِ المُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنِ المُسْلِمِينَ، فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الحَالِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى المُشْرِكِينَ، حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيْفِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْرِعًا، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: (وَمَا ذَاكَ) قَالَ: قُلْتَ لِفُلاَنٍ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ) وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِنَا غَنَاءً عَنِ المُسْلِمِينَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ المَوْتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: (إِنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ).
2- يا مقلِّب القُلوب
حاجتنا إلى العمل لدين الله عز وجل والإكثار مِن الطّاعات تنبع مِن احتمالات الانحراف الّتي نتعرّض لها، فلا يزعمن أحدٌ أنّه بمنجاةٍ، وقد جاءت الأحاديث الّتي تنصّ على احتمالات تقلُّب القلوب؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: (لاَ وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ).
قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: قُلْتُ لأُمِّ سَلَمَةَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لأَكْثَرِ دُعَائِكَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ: (يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ).
فَتَلاَ مُعَاذٌ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
ولم يكُ يكثر مِن هذا الدّعاء في بيته أمام نسائه فحسب، بل كان ذلك على ملأٍ مِن الصّحابة أيضًا؛ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَافُ عَلَيْنَا وَقَدْ آمَنَّا بِكَ؟ فَقَالَ: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يَقُولُ بِهِ هَكَذَا).
وبما أن الخطر عظيمٌ فالواجب علينا أن نستعدّ له بأمورٍ؛ الأوّل: أن نُبعد أنفسنا عن مظانّ الشهوات والشّبهات، فلا نتعرّض لها بدعوى أنّ الدّين متينٌ، والثّاني: أن نُقبل على الأعمال؛ فهي خير مثبّتٍ، والثّالث: أن نسأل الله الثبات؛ فهو خير مسؤول {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 73-74].
وقد أحسن ابن تيمية النّصح لتلميذه ابن القيم حين قال له: "لا تجعل قلبَك للإيرادات والشُّبهات مثل السِّفِنْجَة، فيتشرَّبها، فلا ينضح إلّا بها، ولكن اجعله كالزّجاجة المُصْمَتة، تمرُّ الشّبهاتُ بظاهرها ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعُها بصلابته، وإلّا فإذا أَشْرَبتَ قلبَك كلَّ شبهةٍ تمرُّ عليك صار مقرًّا للشّبهات"، قال ابن القيّم: "فما أعلمُ أني انتفعتُ بوصيَّةٍ في دفع الشّبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سُمِّيت الشّبهةُ شبهةً لاشتباه الحقِّ بالباطل فيها؛ فإنّها تلبسُ ثوبَ الحقِّ على جسم الباطل، وأكثرُ الناس أصحابُ حُسْنٍ ظاهر، فينظرُ النّاظرُ فيما أُلبِسَتْهُ مِن اللّباس فيعتقدُ صحّتها، وأمّا صاحبُ العِلم واليقين فإنّه لا يغترُّ بذلك، بل يجاوزُ نظرَه إلى باطنها وما تحت لباسها، فينكشفُ له حقيقتُها".
خاتمةٌ:
سنعمل في هذه الأيّام المباركة وفق ما نوعظ به، عسى أن يكون خيرًا لنا وأشدّ تثبيتًا، وإنّ ممّا نوعظ به أن نُكثر مِن العمل الصّالح عمومًا في هذه الأيّام، وأن نُكثر مِن الذّكر خصوصًا، حيث جاء في الآية {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحجّ: 28].
قال الرّازيّ: "أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ صَارُوا إِلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ عَشْرُ ذِي، الحجّة وَالْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ، وَرِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ النَّاسِ؛ لِحِرْصِهِمْ عَلَى عِلْمِهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ فِي آخِرِهَا".
نكثر مِن الذِّكر لتستقرّ عظمة الله عز وجل في قلوبنا، فلا تؤثّر فيها شهوةٌ أو شبهةٌ، ومِن الذِّكر تحديدًا التّكبير المطلَق، نكبّر تكبيرًا غير مقيّدٍ بأدبار الصّلوات، بل مطلقًا عن الوقت، أي نكبّر في كلّ حينٍ ومكانٍ، في السّوق والطّريق والبيت.
وممّا يوعظ به مُريد الأضحية في هذه الأيّام ما ورد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ رَأَى هِلاَلَ ذِي الحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلاَ يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ).
سنُقبل على الطّاعات في هذه الأيّام المباركات استغلالًا لها وانتفاعًا منها، وطلبًا للثّبات على دِين الله عز وجل، فدِين الله قويٌّ في ذاته، لكنّنا نخشى على قلوبنا أن تحور بعد الكَور، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَافَرَ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ).