1- تعليق القرآن على أحداث غزوة أحد
2- معركة أحدٍ تمحيصٌ واختبار للنّاس
3- حال المؤمن عندما تحيط به الابتلاءات، والالتجاء إلى الله وحده
4- خطورة المعصية، وإيثار الدّنيا على الآخرة
5- مواساة من أصابهم ضعفٌ وانكسار
مقدمة:
من لم يقرأ التّاريخ لا يعرف قدرَه، وأمّةٌ لا تنظر إلى الماضي كي تأخذ منه قبساً؛ لن تستطيع أن تجد للمستقبل نوراً ولا هدىً، والأيّام دولٌ، وصناعة المجد تحتاج إلى رجالٍ، والرّجال تظهرهم المواقف.
وها نحن نعيش ذكرى مجد رجالٍ كانت لهم أعظم المواقف المشرّفة في تاريخ الأمّة، وفي أصعب اللّحظات حرجاً في حياة المصطفى عليه الصّلاة والسّلام، في مثل هذه الأيّام من شهر شوّال؛ والّذي كانت فيه غزوة أُحد.
1- تعليق القرآن على أحداث غزوة أحد
تعرّض النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تبليغه لرسالة ربّه عزوجل إلى النّاس لكثيرٍ من الشّدائد والمصائب والابتلاءات، بل يصحّ القول بلا مبالغةٍ بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ النّاس بلاءً.
وكان من أعظم وأشدّ ما تعرض له من ابتلاءٍ؛ ما حدث له يوم أُحدٍ حينما هُزم أصحابه بعد النّصر، وقُتل عمّه الحمزة، ومُثِّل بأجساد أصحابه رضي الله عنهم، فنزل القرآن ليعلّق تعليقاً مطوّلاً على هذا اليوم الشّديد، ممّا يستوجب الوقوف على تعليق القرآن على يوم أُحدٍ، واستنباط أهمّ ما عالجه من قضايا، بما فيها من دروسٍ وفوائدَ وعبرٍ.
ولقد تناول القرآن في حديثه عن أُحد ما حدث فيها من أحداثٍ، بدايةً من خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، واتّخاذ وترتيب موقعه الّذي أراد أن يقاتل فيه جيشه، إلى الهزيمة وأسبابها.
ولقد تحدّثت سورة آل عمران بشكلٍ مفصّلٍ عن هذه الغزوة وما حفّ بها من أمورٍ، ووضعت ما وقع للمسلمين في أُحدٍ في إطارٍ تاريخيٍّ، ليكون درساً للمسلمين في كلّ زمانٍ ومكانٍ، لأنّ مقارنة الأحداث واستخلاص التّجارب والاستفادة من الماضي، هو دأب العلماء المخلصين أولي الألباب، قال الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين} [آل عمران: 137-138].
وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
وإنّ الوقوف مع كلّ القضايا الّتي سلّط القرآن الضّوء عليها في تعليقه على يوم أُحدٍ يحتاج إلى حديثٍ طويلٍ، ووقتٍ كبيرٍ، ولذلك سنسلّط الأضواء على أهمّ الدّروس المستفادة من أحداث هذه الغزوة؛ هذه الدّروس الّتي لها أثرٌ عظيمٌ ودورٌ كبيرٌ ومهمٌّ في تربية المؤمنين -خاصّةً- على حسن التّصرّف في وقت المحنة وزمن الابتلاءات، وهو ما يحتاج أن يستصحب المسلم عبرته على الدّوام، إذ لا تخلو الحياة من الإشكالات والبلايا والمحن.
2- معركة أحدٍ تمحيصٌ واختبار للنّاس
معركة أحدٍ يوم بلاءٍ وتمحيصٍ، ميّز الله به المؤمنين عن المنافقين، وهكذا الشّدائد والمحن تفعل بأصحابها، والابتلاء سنّة الله في أرضه، ولا بدّ إلّا و أن يتعرّض له الإنسان بصورةٍ أو بأخرى، وعِلمُ الله قديمٌ سابقٌ لا أوّل له ولا آخر، لكن بهذا الابتلاء وذلك التّمحيص تظهر الأحوال، وتُختبر على حقيقتها، وللابتلاء ثلاثة أنواعٍ: ابتلاءٌ بالشّرّ، وابتلاءٌ بالخير، وابتلاء المجاهدين المؤمنين، وبعدها يحصل الفرز نتيجةً طبيعيّةً لعمليّة التّمحيص، والله يعلم حقيقة القلوب، ومن خلال هذا الفرز تتحدّد النّماذج المؤمنة الصّالحة من النّماذج السّيّئة، ويتحدّد الخبيث من الطّيّب.
نعم: بالابتلاء يتحدّد المؤمن من المنافق، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 166-167].
وهذا ما حصل في غزوة أُحدٍ، عندما تخلّف المنافقون، وانخذلوا وتراجعوا -وهم ثلث الجيش- من منتصف الطّريق.
وكما قلنا فإنّ سنّة الابتلاء والتّمحيص ساريةٌ إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، فما نتعرّض له اليوم من أزماتٍ وشدائد، كلّ هذا اختبارٌ وابتلاءٌ ومحنٌ، ذاق مصيبتها وألمها خير النّاس، وأفاضل الخلق من النّبيّين والمرسلين، وأتباعهم المؤمنين المستضَعفين، ولم يسلم من البلاء والمحنة خيار هذه الأمّة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان من عظيم ما مرّ بهم من بلاءٍ وما أصابهم من مصيبةٍ: ما وقع عليهم في شهر شوّال من السّنة الثّالثة للهجرة، حينما تسلّط كفّار مكّة وحلفاؤهم عليهم وغزوهم في ديارهم، ومن شدّة الابتلاء آنذاك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، حتّى قالت السّيدة عائشة رضي الله عنها ذات يومٍ للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟".
حيث إنّه كان يوماً له آثاره على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان له آثاره السّياسيّة والعسكريّة على دولته صلى الله عليه وسلم، نعم: كانت وقعة أحدٍ مصيبتها شديدةٌ ومحنتها أليمةٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضوان الله عليهم، ولقد سمّى الله ما أصابهم في هذه الغزوة من قتلٍ وجراحاتٍ (مصيبةٌ) تميّز من خلالها المؤمنون الصّادقون من المنافقين الكاذبين المخذّلين والمرجفين الّذين انخذلوا عن الجيش في ساعةٍ حرجةٍ عصيبةٍ، يقودهم في انخذالهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، وعلى أثر انسحاب المنافقين كادت أن تنسحب قبيلتان من الأنصار عن القتال، ولكنّ الله ثبّتهم وعزموا على المضيّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والبقاء معه، حيث قال جابر بن عبد الله: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ} [آل عمران: 122] بَنِي سَلِمَةَ، وَبَنِي حَارِثَةَ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]".
ما أجمل القرآن عندما تحدّث وصارح المسلمين بخلجات نفوسهم، وعرض ما كان فيها من صراعٍ نفسيٍّ واضطرابٍ بين نوازع الثّبات أو التّخلّي، عرض ذلك دون أن يخفي شيئاً تحدثت به نفوسهم، وذلك لأنّها نفوسٌ إنسانيّةٌ تصطرع فيها نوازع القوّة والضّعف.
لقد حصل ما حصل مع خيرة الله من خلقه لنقتدي به في التّعامل مع المصائب والمحن، ولنثبُت كما ثبت، فلا نغيّر ولا نبدّل، فهو أسوتنا وقدوتنا.
3- حال المؤمن عندما تحيط به الابتلاءات، والالتجاء إلى الله وحده
بعد الانتهاء من المعركة، ورغم ما أصابهم فيها من ألم المصيبة، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقف يدعو ويُثني على ربّه، عن عبيد بن رفاعة الزّرقيّ قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي)، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: (اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ، اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ، وَالْفُسُوقَ، وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ).
إنّ ألم المصيبة والجراحات الكثيرة الّتي نالته؛ من إصابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشَّجِّ رأسه، وكسر رباعيّته، وشدّة فَجعِه بعمّه الحمزة، وبأصحابه رضي الله عنهم، ما أنساه نِعَم الله عليه وعلى البقيّة الباقية من المؤمنين، وهي نعمٌ كثيرةٌ ليست هذه المصيبة أو غيرها من المصائب توازيها أو تدانيها، ثمّ إنّ ما أصابهم كان بمعصيةٍ منهم، كما قال سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
وهكذا يجب أن يكون حال المؤمن إذا أحاطت به الابتلاءات، وعظمت في حقّه المصائب والنّكبات، أن ينظر إلى نعم الله عليه ويقارنها بما أصابه، حتّى يشكر الله على نعمه، ويصبر على مصابه، ثمّ ليبحث عن أسباب هذه المصائب والابتلاءات، فإنّه سيجد أنّها من عند نفسه بسبب ذنوبٍ أصابها، أو حقوقٍ ضيّعها، فتكون النّتيجة خسارة جيشٍ قائدهُ سيّد الرّسل محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وجنوده خيرة الله من خلقه بعد الأنبياء وهم: أبو بكر وعمر وأمثالهم من الصّحابة الكرام، لأنّ سنّة الله مع خلقه لا تحابي أحداً، ولا تجامل أحداً، حتّى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23].
ولقد جعل الله المصائب الّتي تصيب العبد رحمةً منه تعالى بالعبد، إذ إنّها تمحيصٌ لذنوبه وتكفيرٌ لسيّئاته، كما قال الله تعالى في سياق الحديث عن ابتلاء المؤمنين ومصيبتهم في غزوة أُحد: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141].
فما على المؤمن إلّا وأن يحسن التّعامل مع هذه المحنِ والابتلاءات الّتي تصيبه، لأنّه في وقت المحن تتعاظم الشّائعات، وتظهر شماتة الشّامتين، وادّعاءات الكاذبين، فتبحث النّفوس عن عاصمٍ لها ومأوىً يحتضنها، فكان ترسيخ القرآن لعقيدة الاعتصام بالله وحده في نفوس الصّحابة عظيماً، وذلك من خلال عدّة أمورٍ:
أوّلا: التّحذير من طاعة الكفّار والرّكون إليهم، والدّعوة إلى طاعة الله وحده وموالاته دون غيره، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149].
وقال سبحانه: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [هود: 113].
فالكفّار لا يريدون خيراً للمسلمين أبداً، بل هدفهم القضاء على الإسلام، ومن ثَمّ فإنّ طاعتهم لا تدلّ إلّا على الهزيمة الرّوحية والنّفسيّة الّتي تقود إلى الهلاك والدّمار.
ثانياً: التّذكير بضعف الكفّار: فهم ضعفاء مهما تظاهروا بالقوّة، لأنّ الرّعب يملأ قلوبهم من المسلمين، جرّاء شِركِهم وخراب قلوبهم من الإيمان حيث قال جلّ وعلا: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151].
فيجب التّبرّؤ من الشّرك وأهله، والاعتماد على الله وحده، قال الله تعالى: {وهو خير الناصرين} وقال جلّ في علاه: {هو مولاكم فنعم المولى}، وصدق القائل:
واشددْ يديكَ بحبلِ الله معتصماً فإنّه الرّكنُ إن خانتكَ أركانُ
4- خطورة المعصية، وإيثار الدّنيا على الآخرة
لقد وردت نصوصٌ عديدةٌ من آياتٍ وأحاديثَ تبيّن منزلة الّدنيا عند الله تعالى، وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذّر من الحرص عليها، قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
وقد حذّر الرّسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمّته من الاغترار بالدّنيا، والحرص الشّديد عليها في أكثر من موضع، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السّيّء على الأمّة عامّةً وعلى من يحملون لواء الدّعوة خاصّةً، ومن ذلك ما جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ..).
ويظهر للمتأمّل جليّاً أثر الحرص على الدّنيا في غزوة أُحد، حيث رأى بعض الرّماة أنّ المشركين انهزموا، تركوا الموضع الّذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألّا يبرحوه، وذهبوا مع النّاس، وبهذا كرّ العدوّ عليهم من الخلف، وحصل ما حصل من الابتلاء والتّمحيص للمؤمنين، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه العلّة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].
وقد أورد الطّبريّ في تفسيره: قال ابن عبّاسٍ: لمّا هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرّماة: أدركوا النّاس ونبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم!
وقال بعضهم: لا نَريم حتّى يأذن لنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}، قال ابن مسعودٍ: "ما علمنا أنّ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدّنيا وعرَضَها، حتّى كان يومئذٍ".
هذه المعصية الّتي فات بها النّصر الّذي انعقدت أسبابه وبدأت أوائله هي معصيةٌ واحدةٌ، والرّسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، فكيف بالمعاصي الكثيرة الّتي لا تعدّ ولا تُحصى؟ ولهذا نقول: إنّ المعاصي من آثارها أن يسلّط الله بعض الظّالمين على بعضٍ بما كانوا يكسبون، ويفوتهم من أسباب النّصر والعزّة بقدر ما ظلموا فيه أنفسهم.
إنّ الّذي حدث في يوم أحدٍ عبرةٌ عظيمةٌ للمجاهدين والدّعاة خاصّةً وللنّاس عامّةً في كلّ عصرٍ وحينٍ، وتعليماً لهم بأنّ حبّ الدّنيا قد يتسلّل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدّنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلّبات الفوز بنعيمها، ويخالفون أوامر الشّريعة الصّريحة كما خالف الصّحابة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت نتيجةٌ لا تُحمد عقباها.
5- مواساة من أصابهم ضعفٌ وانكسار
إنّ التّخفيف عن المؤمن الّذي اعترته لحظة ضعفٍ، أو أصابته حالة انكسارٍ رغم صدقه وإخلاصه، لهو من أهمّ ما يقدّم له فيثبت على الحقّ عندئذٍ، ويقوى على مواصلة السّير في طريق الله معتمداً على الله وحده، غير سامعٍ لأباطيل المرجفين من الكفّار والمنافقين، ممّا سيكون له أثرٌ كبيرٌ على المجتمع المسلم كلّه، فقد تأتي رياح الإنسان أحياناً بما لا تشتهيه سفنه، فيصيبه همٌّ أو غمٌّ أو كربٌ جرّاء حادثةٍ معيّنةٍ رجا لها نتيجةً، وأراد الله لها أخرى، وما من شكٍّ أنّ النّفس البشريّة في هذه الحال تحتاج إلى من يقف بجانبها ويترفّق بها ويخفّف عنها، لا سيّما إن كانت قد بذلت جهدها واستفرغت طاقتها وفعلت ما ينبغي لها أن تفعل، فيبعث فيها الحياة من جديدٍ بعد ما أصابها من انكسارٍ أشبه بالموت، فتنهض عندئذٍ وتعمل بجدٍّ وتسير في طريق التّعويض لما قد فات منها، وتترك اليأس الّذي كان من الممكن أن يحطّمها فتجزع وتفشل وتعيش في أوهام الضّعف، فيطمع فيها الشّيطان والأعداء على حدٍّ سواءٍ.
وقد جاء في القرآن ذمٌّ واضحٌ لليأس والقنوط من رحمة الله ونهيٌ شديدٌ عنهما، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وفي قوله: {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53],
والمتأمّل لغزوة أُحد يجد أنّ الصّحابة رضي الله عنهم قد كُسروا كسرةً فظيعةً فيها، حيث قُتل منهم سبعون رجل، منهم جماعةٌ من أكابرهم كالحمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وغيرهم رضي الله عنهم، وجُرح منهم الكثير حتّى كان على رأس الجرحى نبيّنا صلى الله عليه وسلم نفسه، وقد مثّلت غزوة أحدٍ موقفاً مهيباً ووقتاً عصيباً، تباينت فيه الأنفس واختلفت فيه القلوب، فأصاب الحزن والانكسار قلوب الصحابة لما أصابهم من القتل والهزيمة والجراح، رغم ما قام به كثيرٌ منهم من بطولاتٍ كبيرةٍ، قلّ أن نجد لها مثيلاً في سير النّاس، فجاء القرآن ليخفّف عنهم مترفّقاً بهم رغم هزيمتهم، وكان تخفيف القرآن على المنكسرين في أُحد من خلال وصايا أوصاهم بها، ولعلّ من أهمها:
أوّلاً: النّهي عن الوهن والحزن: فإنه لا يعالج شيئاً ولا يحقّق مراداً ولا ينكأ عدوّاً، بل على العكس يُفرح بهم المشركين ويقدح في إيمانهم بربهم عز وجل، وهو الّذي وعدهم بالنّصر والعلوّ على أعدائهم، وأعلمهم أنّ العاقبة -لاريب- لهم، فقال سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
وقال سبحانه: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153].
ثانياّ: التّذكير بمصائب الأعداء الّتي حلّت بهم هم أيضاً في هذه المعركة، فقال سبحانه: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [آل عمران: 140].
ومن البيّن أنّ ممّا يسلّي عن النّفس ويدفع عنها ويخفّف ما بها من الهمّ والحزن أن ترى غيرها قد أصابه ما أصابها، ولا سيما إن كان من الأعداء، فذكّرهم الله تعالى بما أصاب المشركين في هذه الغزوة ليسلّي عنهم، وهذا مثل قوله تعالى: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} ولكنّ الفرق أنّ عاقبتكم الجنّة وعاقبتهم النّار.
ثالثاً: الإشارة إلى بعض سنن الله في الدّين والحياة: مثل سنّة التّداول بين النّاس، فالدنيا هكذا يومٌ لك ويومٌ عليك، ويومٌ نُساء ويومٌ نسرّ، والحرب سجالٌ حيث قال سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140].
رابعاً: الإشارة إلى أنّ الجنّة سلعةٌ غاليةٌ: لا يسومها المفلسون ولا ينالها البطّالون، ولا يستطيع أن يحصّلها إلّا المجاهدون الصّابرون، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 143].
فمهما أصابهم من كربٍ وانكسارٍ وقتل وجرحٍ في سبيل الله، فهو قليلٌ أمام الثّمن الغالي الّذي سيربحونه في الآخرة من رضوان الله تعالى عليهم ودخولهم جنّته، فكانت تلك الإشارة سبباً كبيراً في رفع الهمّ وانكسار النّفس عن الصّحابة رضي الله عنهم.
إنّ اهتمام القرآن الشّديد بالتّسلية عن الصحابة والتّفريج عنهم، وجبر قلوبهم المنكسرة من أثر الهزيمة، لهو المنهج الحقّ الّذي ينبغي أن يُتّبع وأن يُطبّق على كلّ من يشبه حاله حالهم، على كلّ من عرف صدقه وإخلاصه، ثمّ نكب أو ابتلي بمحنةٍ أو بلاءٍ ليثبت على الحقّ وينهض من جديدٍ ويستشرف المستقبل بدلاً من الوقوف متحسّراً وحزيناً أمام محنته.
وأخيراً: فلنقرأ سيرة سيّد المرسلين، وسلفنا الصّالح، وأبطالنا العظماء، لنتعلّم من مواقفهم المشرّفة في تعاملهم مع الأزمات والملمّات حتّى نستفيد منها فيما يصيبنا اليوم.
ما أحرى بنا يا عباد الله: أن نتدبّر كتاب الله في تعليقه على هذه الغزوة، لاستخراج ما فيها من دروسٍ، والعمل بما يكمن وراءها من عبرٍ وفوائد، ولنستضيء بها في هذا الظّلام الّذي خيّم علينا في وقتنا المعاصر، علّنا أن نهتدي بنور القرآن الّذي أنزله الله تعالى نوراً وهدىً ورحمةً.