1- فتنٌ تعصف، وتوصيفٌ يخلع القلوب
2- صور الثّبات
3- وسائل الثّبات
4- ثمرات الثّبات
مقدمة:
الثّبات على الحقّ مطلب كلّ مؤمنٍ، وهمُّ كلّ داعيةٍ، ومبتغى كلّ مجاهدٍ شريفٍ، وغاية كلّ ذي قضيّةٍ تتقطّع أوصاله لرؤيتها وهي منصورةٌ متألّقةٌ، ويزداد الحرص على الثّبات في زمن المدلهمّات، وفي وقت الشّدائد والمحن والتّقلّبات، وفي أيّامٍ تنوّعت فيها وسائل الإضلال، وتطورت فيها أساليب الجذب للفتن؛ سواءً فتن الشّبهات أو الشّهوات.
وإنّنا حينما نرى شابّاً يسأل عن دقائق السّنن، ويجادل في لطائف الدِّين، ثمّ ما يلبث أن تراه قد هجر الفرائض، وولغ في المعاصي، وكلّت الهمّة بعد كلّ الحرص، وفترت العزيمة بعد كلّ الجهد، هذا الملمح ليدعونا وبإلحاحٍ أن نراجع حساباتنا مع قلوبنا أوّلاً، ومع الثّبات حتّى الممات.
1- فتنٌ تعصف، وتوصيفٌ يخلع القلوب
لقد وصف لنا نبيّنا صلى الله عليه وسلم الفتن المدلهمّة وصفاً دقيقاً، وصفاً يخلع القلوب، بل ويزلزلها، يلفت أنظارنا بجلاءٍ إلى الدّواء، بعد أن يشخّص لنا الدّاء، فهو الرّحمة المهداة، والنّعمة المسداة، أنّى يترك أمّته هكذا حيرى؟!
ورضي الله عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أمين السّرّ النّبويّ، الّذي نقل لنا كثيراً من أحاديث الفتن، يقول رضي الله عنه: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ) قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ) قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا) قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ).
وعنه رضي الله عنه أيضاً قال: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ؟ فَقَالَ قوْمٌ: نَحْنُ سَمِعْنَاهُ، فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ؟ قَالُوا: أَجَلْ، قَالَ: تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ، وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: أَنَا، قَالَ: أَنْتَ لِلَّهِ أَبُوكَ قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)، قَالَ حُذَيْفَةُ: وَحَدَّثْتُهُ، (أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ)، قَالَ عُمَرُ: أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ؟ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ، قُلْتُ: (لَا بَلْ يُكْسَرُ)، وَحَدَّثْتُهُ (أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ) قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: يَا أَبَا مَالِكٍ، مَا أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ؟ قَالَ: (شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ)، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا؟ قَالَ: (مَنْكُوسًا).
والفتن تنقسم إلى قسمين: فتن الشّهوات، وفتن الشّبهات.
أما فتن الشّهوات فهي كثيرةٌ، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14].
فهذه صورةٌ قرآنيّةٌ تعدّد لنا أنواعاً من فتن الشّهوات، حتّى سمّى الباري الأولاد -فلذات الأكباد - فتنةً {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28].
بل جعل الله تعالى الخير والشّرّ فتنةً {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
والله جلّ في علاه يمنح العبد الشّارد مزيداً من فتح أبواب الشّهوات {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام ٤٤-٤٥].
أمّا فتن الشّبهات فهي أخطر؛ لأنّ القلب إذا تشرّب الشّبهة تصبح عقيدةً عند صاحبها، ربما يَقتل أو يُقتل من أجلها، لأنّه ربّما يتصوّر أنّه ينصر بذلك الدّين، وهي في الحقيقة شبهةٌ، وأكثر ما يزيدها هو حصر الحقّ في زاويةٍ ضيّقةٍ دون فهم سنن الله تعالى.
قال ابن القيّم: "وَهل أوقع الْقَدَرِيَّة والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وَسَائِر الطوائف أهل الْبدع إِلَّا سوء الْفَهم عَن الله وَرَسُوله".
فالمطلوب أمام هذه الفتن هو الثّبات كشجرةٍ راسخة الجذور، ممتدّة الأفياء، وارفة الظّلال، لا تضرّها الرّياح مهما عصفت بها.
2- صور الثّبات
ها هو الحبيب صلى الله عليه وسلم يحمل الإيمان في صفٍّ، والبشريّة كلّها في صفٍّ مضادٍّ، فانتصر بالإيمان، وثبت بتثبيت الله له ثمّ بيقينه الرّاسخ، صدع بالحقّ لا يردّه عنه رادٌّ، وثبت على دعوته لا يصدّه عنها صادٌّ، حتّى رأينا صوراً رائعةً من صور ثباته، لقد ثبت عند الشّدائد والمحن؛ ثبت في دعوته، في جهاده، عند المصائب، أمام المغريات، فلمّا علم قيمة الثّبات وجّهنا لأن نثبت أمام هذه الصّور من الثّبات:
ثباتنا في معركة المصير: كما ثبت الرّبّيّون مع أنبيائهم: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: ١٤٧].
وكما ثبتت الفئة الصّابرة بإمرة طالوت {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٢٥٠].
وخاطب الله أبناء هذه الأمّة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: ٤٥].
وإنّنا اليوم بأمسّ الحاجة لهذا الثّبات في معركتنا المصيريّة مع الطّغاة، لا سيما وقد رأينا كثيراً ممّن صدحوا بالحقّ في بداية الأمر، هم اليوم في أحضان الطّغاة، ونرى صنفاً آخر خيّم على نفوسهم اليأس بهذا الواقع الحرج والجرح النّازف، وهم يفكّرون بالارتداد على الأعقاب وبالرّجوع إلى أحضان الطّواغيت، وبالعكس تماماً اليوم يظهر الثّابت في معركته المصيريّة.
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ ليظهر من بكى ممّن تباكى
ولسان الحال: لو لم يبقَ لنا إلّا شبرٌ واحدٌ لوقفنا عليه وصدحت من خلاله حناجرنا: ثابتون بإذن الله، ولا وألف لا للطّغاة.
الثّبات على الدِّين زمن الشّهوات والشّبهات: بما أنّ القلوب سريعة التّقلب يجب على المسلم أن يحافظ على دينه في كلّ وقتٍ، خصوصاً في زمن الفتن.
ما سمّي القلب قلباً إلّا من تقلّبه فاحذر على القلب من قلبٍ وتحويلِ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ).
وفي أشدّ فتنةٍ تمرّ بالمسلمين (فتنة الدّجّال)، أوصانا النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالثّبات: (يَا عِبَادَ اللَّهِ اثْبُتُوا).
الثّبات على الحقّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ، فَقَالَ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا) قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ) فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا).
والثّبات مظهرٌ بارزٌ للاستقامة، لأنّ المتقلّب لا يقدر على الثّبات، ولا يقوى على الاستقامة.
3- وسائل الثّبات
الصّدق في طلب العون من الله تعالى: إذا كان الله قد امتنّ على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بالثّبات {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: ٧٤].
فنحن من بابٍ أولى أن نتضرّع على أعتاب الله ليمنّ علينا بالثّبات، لذلك كان أَكْثَرُ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ).
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ نَدْعُو بِهِنَّ فِي صَلَاتِنَا، أَوْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلَاتِنَا: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ...).
الارتباط بالصّحبة الصّالحة: لا تترك صحبة الأخيار، فهم الّذين يذكّرونك بالعزيز الغفّار، ويأخذون بيدك للنّجاة من النّار.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ).
إذا كان الله تعالى قد قال عن موسى، الّذي هو من الرّسل الكرام ومن أولي العزم: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35].
فنحن قطعاً أحوج إلى من نشدّ عضدنا به، وإذا كانت صحبة الصّالحين والرّبّانيّين من وسائل الثّبات؛ فصحبة الطّالحين من أسباب الانتكاس {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 25-29].
خبيئة عمل صالحٍ: عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ).
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلاَ مَالًا فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ)، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا)، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئُ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ).
أعدّ لهذا السّؤال جواباً: لو كنتُ أو كنتَ الرّابع لهؤلاء الثّلاثة؛ بماذا ستسأل الله تعالى؟
ابحث عن خبيئة عملٍ صالحٍ بينك وبين الله تعالى، مراعياً فيها الإخلاص والاتّباع، وهذه الخبيئة تدّخرها خاصّةً للثّبات.
4- ثمرات الثّبات
تحقيق الإيمان، والحصول على تثبيت الرّحمن: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
الاقتداء بالحبيب صلى الله عليه وسلم وآله: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ "وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ".
يقول الإمام النّوويّ في شرح الحديث: "أَيْ لَازَمُوهُ وَدَاوَمُوا عَلَيْهِ".
من أهمّ هذه الثّمرات:
النّصر على الأعداء: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
نعم، إنّ سؤالهم متى نصر الله ليصوّر مدى المحنة الّتي تعيشها مثل هذه القلوب، ولن تكون بهذا الوصف إلّا محنةً قاسيةً تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، ولكن عندما تثبت على المحن المزلزلة عندئذٍ تتمّ كلمة الله ويجيء النّصر من عند الله تعالى، {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، نعم، قريبٌ لكنه مدّخرٌ لمن يستحقّه، ولن يستحقّه إلّا الّذين يثبتون للنّهاية، الّذين يثبتون في السّرّاء والضّرّاء، الّذين يصمدون للزّلزلة، الّذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الّذين يستيقنون بنصر الله كيف يشاء، وعندما يشاء.
ختاماً:
ما أجمل المؤمن الثّابت على إيمانه، لا تضرّه سياط الجلّادين الّلاذعة، ولا تغرّه سبائك الذّهب الّلامعة، ما أجمل الاستمرار في طريق الهداية، ما أجمل حماس الشّباب الّذي يستمرّ من البداية ويتألّق توازناً في النّهاية.
كم نحن بحاجةٍ لهذه الإشراقات في الثّبات، ونحن نعيش أيّام التّقلبات، وزمن الفتن من شهواتٍ وشبهاتٍ، متمثّلين آثار الثّبات بكلّ صوره ومعانيه، ثباتٌ حتّى الممات، وكفى بالثّبات.