آمالٌ ووعود.. في قصّة أصحاب الأخدود
1- فئةٌ مؤمنةٌ وأخرى كافرةٌ
2- حقيقة المعركة
3- هل يُفلت الظّالمون من العقاب؟!
مقدمة:
مشهدٌ مروّعٌ وجريمةٌ فظيعةٌ نكراء، يذكر لنا القرآن خبرها ويخبرنا بتفاصيلها، فإذا هي قصّةٌ من قصص القرآن مليئةٌ بالدّروسِ، مشحونةٌ بالعِبر، قصّةُ فئةٍ آمنت بربّها، واستعلتْ بإيمانها أمام أعداءٍ جبّارين، ولكنّها لم تأبهْ لهم عندما تمسّكت بدينها، ووثقت بوعد ربّها وتأييده لها، ففازت بجنّة ربّها سبحانه وتعالى، فهل من مدّكرٍ؟!
1- فئةٌ مؤمنةٌ وأخرى كافرةٌ
إنّ قصّة أصحاب الأخدود كما وردت في سورة البروج، حقيقة بأن يتأمّلها كلّ مؤمنٍ يدعو إلى الله تعالى في كلّ زمانٍ ومكانٍ، فالقرآن بإيراده لها في هذا الأسلوب العجيب، مع مقدّمتها والتّعقيبات عليها والتّوجيهات المصاحبة لها، كان يخطّ بها خطوطاً عميقةً في تصوّر طبيعة الدّعوة إلى الله تعالى ودور البشر فيها، واحتمالاتها المتوقّعة في مجالها الواسع، إنّها قصّة فئةٍ مؤمنةٍ آمنت بربّها عز وجل، فتعرّضت للفتنة من أعداءٍ جبّارين مستهترين بحقّ الإنسان في حرّيّة الإيمان بالله العزيز الحميد، ولكنّ الإيمان في هذه القلوب قد ارتفع على الفتنة، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة، فلم ترضخ لتهديد الجبّارين الطّغاة، ولم تُفتن عن دينها، بل رضيت أن تُحرق بالنّار حتّى تموت في سبيل الله سبحانه، قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 4-7].
شأنُ هذه الفئة المؤمنة في الصّبر والثّبات على الدّين، شأنُ سحرة فرعون عندما آمنوا بربّ موسى وهارون عليهما السّلام، وقالوا للطّاغية فرعون حينما توعّدهم بالقتل والصّلب، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلافٍ، قالوا له غير مكترثين لوعيده، قال تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72-73].
ولا عجب في الثّبات، فالثّبات على العقيدة والتّمسّك بالإيمان يحصل عندما تتحرّر القلوب من عبوديّتها للحياة، وتفضّل النّفوسُ القتل في سبيل الله على حبّ البقاء في هذه الحياة الفانية، وهي تعاين قتل المسلمين بهذه الطّريقة البشعة.
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيّرة الكريمة، هناك قلوبٌ جاحدةٌ شرّيرةٌ مجرمةٌ لئيمةٌ، جلس أصحابها على النّار يشهدون كيف يتعذّب المؤمنون ويتألّمون، جلسوا يتلهّون ويتلذّذون بمنظر الحياة تأكلها النّار، والبشر يتحوّلون وقوداً وتراباً، وكلّما أُلقي فتىً أو فتاةٌ أو طفلٌ أو عجوزٌ من المؤمنين الكرام في النّار، ارتفعت النّشوة الخسيسة في نفوسهم، وعربد السّعار المجنون بالدّماء والأشلاء.
إنّ التّاريخ يتكرّر ويعيد نفسه ولكن بصورةٍ أخرى، فالحقيقة واحدةٌ ولكنّ الشّكل يتغيّر، إنّ عقول الفئة الكافرة لم تتغيّر منذ قديم الزّمان إلى عصرنا الحاليّ، فنرى اليهود قد ارتكبوا أبشع الجرائم قديماً وحديثاً، ونجد أنّ الرّوس الشّيوعيّين قاموا بأفظع المذابح في أفغانستان والشّيشان والصّرب، وقتلوا وشردوا ويتّموا الكثير من العوائل في البوسنه والهرسك ومن بعدها في كوسوفا، واليوم يعود الرّوس ثانيةً ليمارسوا أقسى أنواع الوحشيّة والإجرام في بلاد الشّام ضدّ أهلها المستضعفين الكرام، مناصرين لرأس الهرم في الإجرام طاغية الشّام وزبانيته، وليس عتبنا على من مرّ ذكرهم من العصابات المجرمة الفاجرة، فالعدوّ يبقى عدوّاً، ولكنّ العتب على من ادّعوا أنّهم من أبناء المسلمين وضمن صفوفهم، وإذ بالأقنعة تسقط عن وجوههم فيفتضحون، ويخرج نتن رائحتهم النّجسة من قلوبهم السّوداء بما والوا بها أعداء الله وناصروهم على المسلمين المستضعفين، ولكن من حكمة الله ورحمته بنا، أن جعل فضيحتهم تنقيةً لصفوف المسلمين الصّادقين من أمثال هؤلاء المجرمين، الّذين احتقروا نفوسهم، وهانت عليهم أعراضهم، وذرّات تراب أوطانهم، فباعوا شرفهم وضمائرهم بعرَضٍ من الدّنيا.
2- حقيقة المعركة
إنّ المعركة بين المؤمنين وأعدائهم هي في صميمها معركة عقيدةٍ ودينٍ، وليست شيئاً آخر على الإطلاق، وإنّ خصومهم لا ينقمون منهم إلّا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلّا العقيدة، وإنّ مكائدهم تتنوّع، وخداعهم ومكرهم يتلوّن، حتّى يصلوا إلى بغيتهم، كما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
فهي ليست معركةً سياسيّةً، ولا معركةً اقتصاديّةً، ولا عنصريّةً، ولو كانت شيئاً من هذا لسَهُل وقفها، ولهان حلّ إشكالها، ولكنّها في صميمها معركة دينٍ وعقيدةٍ، فإمّا كفرٌ وجاهليّةٌ، وإمّا إسلامٌ وإيمانٌ.
ولقد كان زعماء المشركين من قريشٍ يعرضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم المال والحكم والمتاع والنّساء مقابل شيءٍ واحدٍ؛ ألا وهو: أن يدع دينه ومعتقده الحقّ، وأن يدهن في هذا الأمر، ولو أجابهم إلى شيءٍ ممّا أرادوه منه -حاشاه صلى الله عليه وسلم- ما بقيت بينهم وبينه معركةٌ على الإطلاق.
هذه القضيّة يجب أن يستيقنها المؤمنون حينما يواجهون عدوّاً لهم، أنّه يقاتلهم من أجل هذا الدّين، وهذا ما أفصحت عنه الآيات الّتي هي محور حديثنا عن قصّة أصحاب الأخدود، حيث يقول ربّنا سبحانه: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].
وقد يحاول أعداء المؤمنين في كلّ زمانٍ أن يرفعوا للمعركة رايةً غير راية العقيدة، ليطفئوا في أرواح المؤمنين شعلة التّوحيد.
فهنا يجب على المؤمنين أن يكونوا متيقّظين لهذا المكر والخديعة، وعليهم أن يدركوا أنّ هذا تمويهٌ لغرضٍ مبيّتٍ؛ ألا وهو صرف النّاس عن هذا الدّين إن استطاعوا، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
فهذا خبرٌ من الله تعالى لنا نحن المسلمين أنٌ المشركين وأهل الضّلال والعدوان لايزال هذا منهجهم، وتأمّلوا هذا التّأكيد الرّبّانيّ: {وَلَا يَزَالُونَ} أتى الفعل بصيغة المضارع ليدلّ على أنٌهم مستمرّون على هذا المنهج الّذي ابتدأه أسلافهم وأجدادهم الّذين أرادوا الشّرك في الأرض، وكرّره مشركو مكّة الّذين حاربوا نبيّنا صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه، ومن ثمّ يتكرّر عبر عصور التّاريخ من أهل الضّلال والشّرك، الّذين كانوا ولا يزالون يبذلون غاية جهدهم في أن يصرفوا النّاس عن دين الله عز وجل: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ما هدفهم؟ {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ}، فالواجب على المسلمين التّصدّي لهذا المكر، ومواجهته بالصّبر والثّبات على هذا الدّين ولو نالهم من أعدائهم الأذى الشّديد، ولهم في أسلافهم الصّالحين قدوةٌ وأسوةٌ.
ولو قلّبنا صفحات التّاريخ لرأينا كيف أنّ الصّحابة الكرام رضوان الله عليهم تعرّضوا للعذاب الشّديد من كفّار قريشٍ، حينما تمسّك الأوّلون بدينهم وعقيدتهم، كأمثال صهيبٍ وبلالٍ وعمّارٍ وأمّه سميّة رضي الله عنهم، وغيرهم كثيرون ممّن كانوا يعذّبون ولكنّهم صابرون ثابتون في سبيل الله عز وجل، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: "كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ".
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبّرهم بذكر أخبار من عُذّب قبلهم في سبيل هذا الدّين فثبتوا، ويطمئنهم بأنّ الحقّ لا بدّ أن ينتصر، ولكن النّصر يأتي مع الصّبر، عَنْ خَبَّابٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمُوتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ).
وهذه طّمأنةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الإيمان، بأنّ هذا الدّين ظاهرٌ وباقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فيا لسعادةَ من ثبت على دينه حتّى لقي ربّه وهو عنه راضٍ، ولكم أن تتأمّلوا هذه البشارة الّتي يبشّرنا بها ربّنا سبحانه حيث يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التّوبة: 33].
فثقوا واطمئنّوا بأنّ الحقّ سينتصر في نهاية الأمر -وإن كان للباطل جولةٌ- ومكائد الكفّار ستبوء بالفشل والخزي بإذن الله، مهما تنوّع مكرهم وتلوّن فإنّ الله تعالى لهم بالمرصاد، قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46].
فما على المؤمنين إلّا أن يحسنوا الظنّ بالله تعالى، ويظلّوا مستمسكين بحبله حتّى الممات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
3- هل يُفلت الظّالمون من العقاب؟!
هل تدبّرنا الآيات الّتي عرضت لنا قصّة أصحاب الأخدود في سورة البروج؟ وهل أخذنا منها الدّروس والعبر؟ ألا ما أكثر العِبر الّتي نستخلصها من قصّة أصحاب الأخدود! والّتي تنفعنا اليوم بشكلٍ مباشرٍ ونحن نواجه أقسى أنواع المكر والكيد، وأفظع ألوان الإجرام من كفّار الأرض.
إنّ هذه الآيات قد ذكرت تلك الفتنة العظيمة، وذكرت تلك النّهاية المروّعة الأليمة لتلك الفئة المؤمنة، والّتي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفر الّتي أضرمت فيها النّيران، بينما لم يرد أيّ خبرٍ في الآيات عن نهاية الظّالمين الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، حيث لم تذكر الآيات عقوبةً دنيويّةً حلّت بهم، لا عقوبةً أرضيّةً ولا سماويّةً.
وهنا سؤالٌ يطرح نفسه: لماذا أُغفل مصير الظّالمين؟ أهكذا ينتهي الأمر؟ أهكذا تنتهي الفئة المؤمنة مع آلامها واحتراقها بنسائها وأطفالها في حريق الأخدود بينما تذهب الفئة الطّاغية الّتي قارفت الجريمة تذهب ناجيةً؟!
هنا تبرز الحقيقة العظمى الّتي طالما أفصحت عنها آيات القرآن الكريم، وأكدّت على أنّ كلّ ما يجري في هذا الكون لا يجري بمنأىً عن عِلم الله تعالى، وإنّما يجري في ملكه وتحت رقابته، ولذا جاء التّعقيب بالغ الشّفافية كما تذكر الآيات: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 8-9].
فلم يجرِ بغفلةٍ عن الله تعالى، وليس بعيداً عن سطوته وقدرته، إذاً فأين جزاء هؤلاء الظالمين؟ هل أفلتوا من العقاب؟ يأتي الجواب: (لا) لم ولن يفلتوا، ولكنّ الله أخرّ عقابهم ليوم الحساب والجزاء، قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
ويا لفظاعة ذلك العقاب الّذي ينتظرهم يوم المعاد! حيث يقول ربّنا سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10].
هؤلاء الّذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود سيُحرقون؟ ولكن سوف يكون الحرق في نار جهنّم يوم القيامة، وما أعظم الفرق بين حريقٍ وحريقٍ في شدّته وفي مدّته، وشتّان بين حريق الدّنيا بنارٍ يوقدها الخلق، وبين حريق الآخرة بنارٍ يوقدها الخالق، وهيهات أن يتساوى حريقٌ عاقبته رضوان الله وجنّته، وحريقٌ معه غضب الله وناره، وكم هو الفرق بين حريق الدّنيا باستخدام الصّواريخ الملتهبة والبراميل الحارقة، وبين حريقٍ في نارٍ أوقد عليها ثلاثة آلاف عامٍ! عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةِ} [البقرة: 24]، فَقَالَ: (أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، وَأَلْفُ عَامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ وَأَلْفُ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَا يُطْفَأُ لَهَبُهَا).
هذا المعنى الّذي ينبغي أن نفهمه وأن تشخص الأبصار إليه؛ ألا وهو: الارتباط بالجزاء الأخرويّ رهبةً ورغبةً، لأنّ أمر الدّنيا سهلٌ وبسيطٌ مقابل أمر الآخرة، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ).
ولهوان هذه الدّنيا على الله تعالى لم يرضها أن تكون جزاءً لأوليائه، ولم يجعل العقوبة فيها هي الجزاء الوحيد لأعدائه، فلا تعلّقوا أنفسكم بها، بل آثروا الآخرة على الدّنيا، فالآخرة خيرٌ وأبقى.
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا، يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ).
لذلك على المسلم أن يعيَ هذه السنّة الرّبانيّة ويفهمها حقّ فهمها ليواجه بها مصاعب الأمور والأحداث الّتي تمرّ به فلا ييأس ولا يقنط، بل يبقى الأمل رفيقاً له؛ يقارع فيه أهل الباطل والشّرّ الّذين تكالبوا على المسلمين ظنّاً منهم أن ينتصروا ويغلبوا، وجهلوا أنّهم سينقلبوا صاغرين، حيث يبشّرنا كتاب ربّنا بأنّ الحقّ سيزهق الباطل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
فاصبروا في سبيل هذا الدّين، وتحمّلوا المشاقّ والمصاعب والعذاب ولو كلّفكم هذا الأمر الأرواح والمهج.