1- تدبُّر القرآن الكريم (العبادة الغائبة)
2- وسائل تُعين على تدبّر القرآن الكريم
مقدمة:
لقد امتنَّ الله علينا بأنْ أنزلَ علينا هذا الكتاب المبين؛ الذي يتلوه علينا خيرُ رسولٍ بُعث إلى البشريَّة، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
كما أنَّ الله تعالى حَمِدَ نفسَه على إنزالِ هذا الكتابِ، فقال جلّ في عُلاه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا} [الكهف: 1].
واللهُ إنَّما يَحْمَد نفسَه على أمرٍ مهمٍّ عظيمٍ، وعلى إفضالٍ كبيرٍ تفضّل به على هذه البشريَّة، إنَّه إنزالُ هذا القرآن على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، بل عظَّم نفسَه وقدَّسها حيثُ أنْزَلَ هذا القرآنَ، كما في قوله تعالى في أوَّلِ سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
وحثَّ على تدبُّرهِ وتفهُّمِهِ والنّظرِ في معانيهِ، فإنَّه إنّما أُنزِل مِن أجلِ ذلك، كي يكون هذا وسيلةً إلى العملِ به، ولم يُنزَّل من أجل التّبرُّك به وافتتاحِ الحفلاتِ والمناسباتِ وما إلى ذلك، أو أن يُعلَّق على الجدرانِ، فإنَّ القرآن إنّما أُنزِل ليكون منهجاً في هذه الحياة؛ يُطبَّق ويسيرُ النّاسُ على ضوئهِ، فالله تعالى يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمّد: 24].
وأخبرَ أنَّه إنَّما أنْزله لهذا المعنى بقوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
1- تدبُّر القرآن الكريم (العبادة الغائبة)
إنَّ مِن أعظمِ النِّعمِ الّتي أنعمَ الله بها على عبادهِ: إنْزَالُ هذا الكتابِ الكريمِ، كتابِ الهدايةِ، كتابِ الطّمأنينةِ والسّعادةِ، كتابِ النّصرِ والتّوفيقِ، كتابِ التّسليةِ والتّرويحِ، إنّه كلامُ ربِّ العالمين، وهذا الكتابُ لا ينفع قارئَه إلّا إذا كان يعملُ به، ولا يمكن أن يعمل به إلّا إذا تدبَّره، ولا يمكن أن يتدبَّره إلّا إذا فهم معانيه، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْك مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
قال ابنُ جريرٍ الطبّريُّ في تفسيرها: "ليتدبَّروا حججَ الله الّتي فيه، وما شرع الله فيه من الشَّرائع، فيتّعظوا، ويعملوا به".
فقد أمرَنَا اللهُ سبحانَهُ وتعالى أَنْ نقرأَ القرآنَ الكريمَ، وأن نفهَمَ معانِيَهُ، ونتدبَّرَهُ لِنُدرِكَ مرامِيَهُ، فالمتدبِّر لآيات القرآن العظيم يزداد إيمانه، ويتَّضِحُ له الطّريق الموصل إلى الله، وكلّما كانت قراءة القرآن عن تدبُّرٍ وتَعَقُّلٍ كان وقْعُها في النّفس أكبر، وكان لها أثرٌ في سلوك الإنسان، ولهذا لمَّا سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ".
ولنا في رسول الله أُسوةٌ حسنةٌ، قال ابن عبّاس رضي الله عنه: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".
قال ابن القيّم: "فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ خيرٌ من قراءة ختمةٍ بغير تدبُّرٍ وتفهُّمٍ، وأنفعُ للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذَوْقِ حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السَّلف، يردِّدُ أحدُهم الآيةَ إلى الصّباح".
فعلينا أن نتدبَّرَ القرآن، وأن نقف عند عجائبه، وأن نعمل به، فعن الحسن بن عليٍّ رضي الله عنه: "إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلْكُمْ رَأَوْا الْقُرْآَنَ رَسَائِلَ مِنْ رَبِّهِمْ، فَكَانُوْا يَتَدَبَّرُونَهَا بِاللَّيْلِ، وَيَتَفَقَّدُونَهَا في النَّهَارِ".
2- وسائل تُعين على تدبّر القرآن الكريم
يسألُ كثيرٌ من النَّاس: كيف يُمكن تدبُّر القرآن الكريم؟ وكيف أكون ممّن ينتفع بتلاوة القرآن الكريم؟
هنا نستعرض خُطُواتٍ عمليّةٍ، ووسائلَ تعين على تدبُّر القرآن الكريم، منها:
• تنويرُ البصيرةِ، بالإقبالِ على الله تعالى والقُرْبِ ممّا يحبُّه الله، والامتثالِ لأمره، والابتعادِ عمّا نهى عنه، قال سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29].
• أنْ يَحْسَبَ أنّه هو المخاطب بالقرآن الكريم، فماذا لو حَسِبَ كلٌّ منَّا أنَّ القرآن قد أُنزل عليه، وأنّه هو المخاطَب به؟ فكيف سيَتَلَقَّى رسائلَهُ ومواعظَهُ، وأوامرَهُ ونواهيَهُ؟!
• معرفةُ أنَّ القرآنَ لا تنقضي عجائبُهُ، فلا يَقْتَصِرُ على ما وردَ في تفسيرِ الآية، بل يُعْمِلُ الفِكْرَ والنَّظَرَ ويَتَأمَّلُ في الآياتِ وما تَدُلُّ عليه، وبهذا تُفْهَمُ الآيةُ على أوسع معانِيها الّتي تدلّ عليها.
• تَكْرارُ الآيةِ وتَرديدُها، والعَوْدَةُ المُتَجَدِّدَةُ للآياتِ، فذلك له أثرٌ عظيمٌ في حضورِ القلبِ واستحضارِ الآياتِ والتّأثُّرِ بها، وقد ورد ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فعن أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: "قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُهَا" وَالْآيَةُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: ١١٨].
• التّفاعل مع الآيات -بالسّؤال والتّعوّذ والاستغفار ونحوِهِ- عند مناسبة ذلك، فذلك يُعين على حضور القلب عند التّلاوة، وهكذا كان هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد وصف حُذَيْفَةُ رضي الله عنه قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ".
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، فَانْتَهَى إِلَى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: {وَالْمُرْسَلاَتِ}، فَبَلَغَ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}، فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللهِ).
فالمؤمنُ عندما يَمُرُّ على آياتِ الوعيدِ يَخَافُ أنْ يَكُونَ داخلاً فيها، ويَسألُ اللهَ السّلامةَ من ذلك، وعند ذِكْرِ المغفرةِ والرّحمةِ يَستبشرُ ويَفرَحُ، ويَسألُ اللهَ أنْ يكونَ مِنْ أهلِ ذلك.
• القراءةُ بتأنٍ وهدوءٍ، والتّفاعلُ مع الآيات بحضور القلب، وإلقاء السّمع، وإمعان النّظر، وإعمال العقل، فلا يكون هَمُّهُ الإكثارُ من القراءةِ من دون تأمُّلٍ وفَهْمٍ لما يقرؤهُ.
• الاطِّلاع على ما ورد في تفسير الآية، والعودة إلى فهم السّلف للآية، وتدبّرهم لها، وتعاملهم معها.
• فهمُ اللّغةِ العربيّةِ الّتي نزل بها القرآن، ومعرفة معاني الكلمات ودَلالاتها، وما تُوحي إليه من اللَّطائفِ والظَّلالِ، فالقرآن نزل بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، فكلمّا ازداد الإنسان معرفةً باللّغة العربيّة استطاع أن يفهم القرآن بطريقةٍ أفضل، وأدرك مِنْ بلاغته وإعجازه ما يُحَرِّكُ القلوبَ ويُبْهِرُ الألباب.
• أنْ يربطَ الإنسانُ بين آياتِ القرآنِ والواقعِ الّذي يعيشُهُ، ويجعلَ من الآيات مُنطلقاً لإصلاح حياتِه وواقعِه، وميزاناً لمن حوله وما يُحيط به.
• التّأمُّلُ في سِياقِ الآيةِ، والسّياقُ يتكوّنُ مِنَ السِّبَاقِ واللّحاقِ، فالسِّباقُ هو ما قبل الآية، واللّحاق هو ما بعد الآية.
• التّساؤل، وذلك بأنْ يسألَ القارئُ نفسَهُ، لماذا ابتُدِئتِ السّورةُ أو الآيةُ بذلك واختُتِمَتْ بذلك؟ ولماذا جاءتْ بهذا السّياق؟ ولماذا هذه اللّفظةُ دونَ غيرِهَا؟ وغير ذلك من التّساؤلات، والتّساؤل بماذا يمكنُ أنْ أعمَلَ بهذه الآياتِ.
• أنْ يَعْرِضَ المؤمنُ نفسَهُ على كتاب الله، فينظرَ في صفات المؤمنين هل هو مِن المتّصفين بها، وفي صفات المنافقين والكافرين هل هو بعيدٌ عنها، أم أنَّه يتَّصفُ بشيءٍ منها.
خاتمةٌ:
لقد أمرَنَا اللهُ سبحانه وتعالى أَنْ نقرأَ القرآنَ الكريمَ، وأن نفهَمَ معانِيَهُ، ونتدبَّرَهُ لِنُدرِكَ مرامِيَهُ، فالمتدبِّر لآيات القرآن العظيم يزداد إيمانه، ويتّضح له الطريق الموصل إلى الله، وكلَّما كانت قراءةُ القرآنِ عَنْ تدبُّرٍ وتعقّلٍ كان وقعها في النّفس أكبر، وكان لها أثرٌ في سلوك الإنسان.
إنّ مِن الأسباب الدّاعية إلى التّفكّر في كلام الله سبحانه: قراءة القرآن بتأنٍّ وهدوءٍ، وعدمِ العجلة والسّرعة، لأجل ختمه مرّاتٍ عديدةٍ، مِن غير نظرٍ ولا فِكرٍ ولا تأمّلٍ، وهذا منهيٌّ عنه ومكروهٌ، لأنَّه يشبه قراءة الشِّعر.
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه، يَقُولُ: "لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ" ، ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ".
فنجد أن الصّحابة الكرام ش يذمّون من يهذِ القرآن، ويُسرع في تلاوته، ولا يتفكّر في عجائبه، وبلاغته، وحِكمه، وأحكامه، وأوامره، وزواجره.
وقد ورد عن الحسن البصريّ: "{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وَمَا تَدَبُّرُ آيَاتِهِ إِلَّا اتِّبَاعُهُ بِعِلْمِهِ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَمَا أُسْقِطُ مِنْهُ حَرْفًا وَاحِدًا وَقَدْ أَسْقَطَهُ كُلَّهُ، مَا تَرَى لَهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ خُلُقٍ وَلَا عَمَلٍ، وَحَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَقْرَأُ السُّورَةَ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ وَاللَّهِ مَا هَؤُلَاءِ بِالْقُرَّاءِ وَلَا الْعُلَمَاءِ، وَلَا الْحُكَمَاءِ، وَلَا الْوَرَعَةِ، وَمَتَى كَانَ الْقُرَّاءُ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا؟ لَا كَثَّرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ".