1- خصائص ليلة القدر
2- كيف نغتنم ليلة القدر!
مقدمة:
مِن فضل الله تعالى على أمةِ سيّدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنْ جعل لهم مواسمَ للطَّاعاتِ، تتضاعفُ فيها الحسناتُ، وتُرفع فيها الدَّرجاتُ، ويُغفَر فيها كثيرٌ مِن المعاصي والسَّيئاتِ، ومِن هذه النَّفحاتِ: العشر الأواخر مِن رمضانَ، بما فيها ليلة القدر، ولو نظرنا إلى أعمار الأمم السَّابقة لوجدنا أنَّهم كانوا يعيشون المئات بل الآلاف مِن السّنين، فهذا نوحٌ عليه السلام لبث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً، فلو قارنت عمرك وحسبت صلاتك وصومك وجميع أعمالك في عمرك الّذي يتراوح بين السّتّين والسّبعين، فكم تكون أعمالك بين هذه الأعمار المديدة؟! لذلك خصَّ الله هذه الأمّة بنفحاتٍ تتمثّل في أوقاتٍ قليلةٍ، تَشْمل فضائلَ ورحماتٍ غزيرةً، حتّى تلحق هذه الأمّةُ بغيرها مِن الأمم في الأجر والفضل والثَّواب، وإنَّ مِن أعظم نفحات أمةِ سيّدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم على الإطلاق (ليلة القدر)، وهذه هبةٌ ربّانيّةٌ لا تكون إلّا للأمَّة المحمديّة؛ أمَّة العمل القليل والأجر الكبير والفضل العظيم، فلنحمد الله تعالى أنْ جعلنا مِن أُمّة الحبيب محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وسُمّيت ليلة القدر بهذا الاسم لأنّها ليلة العظمة، ولأنها ليلةٌ نَزَلَ فيها كتابٌ ذو قدْرٍ، وتُنزّل فيها رحمةٌ ذاتُ قدرٍ، وملائكةٌ ذوو قدرٍ، ولأنّها ليلةٌ مَنْ قامها وأعطاها حقَّها كان ذا قدرٍ.
1- خصائص ليلة القدر
ليلة القدر ليلةٌ عظيمةٌ مباركةٌ، اختصّها الله سبحانه بفضائلَ وخصائصَ كثيرةٍ عَنْ غيرها مِن الليالي، مِنْ هذه الخصائص:
أوّلاً: أنَّ الله تعالى أَنْزَلَ القرآن الكريم في هذه الليلة، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
وعَنْ سَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قَالَ: "نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ".
ثانياً: أنَّ الله عز وجل عظَّم شأنها، وذكرها بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر2] أي: أنَّ دِراية علّوها ومنزلتها خارجٌ عَن دائرة دِراية الخلق، فلا يعلم ذلك إلا علاَّم الغيوب سبحانه، وقد أخبرنا الله أنّها خيرٌ من ألف شهرٍ.
ثالثاً: أنَّ العبادة والعمل الصالح فيها؛ مِن القيام والدّعاء وقراءة القرآن والذِّكر خيرٌ من العمل في ألف شهرٍ، ليس فيها ليلة القدر، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر 3].
وقد أورد الإمام الطّبريّ: في تفسيره عن قتادة: {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر 3]،ليس فيها ليلة القدر.
رابعاً: أنَّ الملائكة والرُّوح تَنَزَّل في هذه الليلة، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: (إِنَّهَا لَيْلَةُ سَابِعَةٍ -أَوْ تَاسِعَةٍ- وَعِشْرِينَ، إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى).
خامساً: أنَّهـا ليلـةٌ مبــاركةٌ، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدّخان: 3].
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: "إِنَّكَ لَتَرَى الرَّجُلَ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَقَدْ وَقَعَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى"، ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يُفْرَقُ أَمْرُ الدُّنْيَا إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ.
وقال الإمام البيهقيّ: "وَقَالَ اللهُ عز وجل فِي وَصْفِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدّخان: 3] أَيْ مُبَارَكَةٍ فِيهَا لِأَوْلِيَاءِ اللهِ، فَإِنَّمَا جُعِلَتْ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ إِذَا أَحْيَوْهَا وَقَدَّرُوهَا، وَقَطَعُوها بِالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرِ دُونَ اللَّغْوِ وَاللهْوِ".
2- كيف نغتنم ليلة القدر!
نغتنم هذه الليلة بتجديد التَّوبة والرّجوع إلى الله، والنَّدم على ما فرّطت في جنب الله، قال الله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزّمر: 53].
فباب التَّوبة مفتوحٌ لا يُغلَق أبداً، فهل مِن توبةٍ قبل فوات الأوان؟ فسبحان مَن يبسط يده بالنّهار ليتوب مُسِيء اللّيل، ويبسط يده باللّيل ليتوب مُسِيء النَّهار، هل مِن توبةٍ تمحو الخطايا والذُّنوب؟ قال ربنا جلّ وعلا: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 71].
نغتنم هذه اللّيلة بالصّلاة والقيام والتّهجّد بين يدي الله -بذلٍّ وانْكِسَارٍ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
نغتنم هذه اللّيلة بالإكثار مِن الدُّعاء، ولا سيّما ذلكم الدّعاء العظيم المأثور؛ الّذي علَّمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأمّ المؤمنين عائشة ل، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: (تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي).
نغتنم هذه الليلة بالذِّكر والاستغفار وقراءة القرآن، قال تعالى: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 11 - 13].
خاتمةٌ:
إنّ أرجى ما تكون فيه ليلة القدر هي العشر الأواخر مِن رمضان، وطلبها في أوتار الشّهر آكد؛ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُلْتَمِسًا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَلْيَلْتَمِسْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وِتْرًا).
وأرجى ليلةٍ مِن تلك اللّيالي هي ليلة سبعٍ وعشرين، قَالَ أُبَيٌّ رضي الله عنه فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: "وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهَا، وَأَكْثَرُ عِلْمِي هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ".
فعدم تعيينها في النّصوص لَيجتهد المسلمون في جميع العشر بطاعة الله جلّ وعلا، بالتّهجُّد وقراءة القرآن والإحسان، ولَيتبين بذلك النّشيط والمجدُّ في طلب الخيرات، مِن الخامل الكسلان، ولأن النَّاس لو علموا عينها، لاقتصر أكثرهم على قيامها دون سواها، ولو علموا عينها ما حصل كمال الامتحان.
فينبغي للمؤمن أنْ يجتهد في أيّام وليالي هذه العشر طلباً لليلة القدر، اقتداءً بنبيّنا صلى الله عليه وسلم، وأنْ يجتهد في الدّعاء والتّضرّع إلى الله.
فطوبى لمَنْ نال فيها سَبْق الفائزين، وسلك فيها بالقيام والعمل الصّالح سبيل الصّالحين، وويلٌ لمن طُرِدَ في هذه اللّيلة عن الأبواب، وأُغلق فيها دونه الحجاب، وانصرفت عنه هذه اللّيلة وهو مشغولٌ بالمعاصي والآثام.