1- دور الشّباب في بناء الأمّة
2- نماذج مشرقةٌ من الشّباب الأوائل
مقدمة:
مرحلةٌ مهمّةٌ مِن مراحل العمر، مرحلةٌ تُعتبر أعمر الفترات بالقوّة، وأغناها بالطّاقات المادّيّة والأدبيّة على حدٍّ سواءٍ، إنّها مرحلة القوّة بين ضعفين، كما ذكر الله سبحانه، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الرّوم: 54].
فلقد سمّى الله جل جلاله ضعف الطّفولة وضعف الكهولة، وجعل القوّة بينهما، أتدرون ما هذه المرحلة؟ إنّها مرحلة الشّباب، تلك المرحلة الأكثر امتدادًا في حياة الإنسان، وفي هذه المرحلة يتميّز الفرد بالطّموح والحماسة والإرادة الفتيّة، فلا تقف في وجهه حواجزٌ، ولا تُثنيه صعابٌ، فهي مرحلة العطاء، وتحقيق الأهداف، ومدّ يد العون للآخرين، ولذلك لا بدّ أن يكون للشّباب دورٌ إيجابيٌّ في تغيير الواقع الأليم الّذي تعيشه الأمّة اليوم، وإعمار البلاد والمساهمة في نهضتها ورقيّها والقضاء على الفساد فيها، ويجب أن يجتهدوا في كلّ ما يقرّبهم إلى الله عز وجل، وفيما يعود على مجتمعهم بالخير والعطاء، وهذا ما حثّ الإسلامُ الشّباب عليه، ورغّبهم في أسباب النّجاة والسّعادة، وأخبرهم أنّ الشّباب له حسابٌ خاصٌّ عند الله سبحانه يوم القيامة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ).
ولأجل هذه الأهمّيّة لتلك المرحلة وجّه الإسلام الشّباب توجيهًا سديدًا نحو العطاء والبناء والإصلاح، فقد كانوا الفئة الأكثر الّتي وقفت بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأيّدوه ونصروه ونشروا الإسلام، وتحمّلوا في سبيله المشّاقّ، واليوم إذا أردنا لمجتمعنا رقيًّا وتقدّمًا فلا بدّ أن نُشرك الشّباب في هذه النّهضة، وأن نُرسّخ فيهم قيمة العمل وأهمّيّته، حيث إنّه أساس الحياة، وشعار الدّين، وهو الّذي ترتقي به الأمم، وتنهض به المجتمعات، ويسعد به الأفراد.
1- دور الشّباب في بناء الأمّة
تُعدّ فئة الشّباب ثروة الأمّة الغالية وذخرها الثّمين، وهي أهمّ الفئات الّتي تعمل على بناء المجتمع، فهي عموده الفقريّ الّذي لا يمكن الاستغناء عنه، وللشّباب دورٌ كبيرٌ في تنمية هذا المجتمع، ولا يقتصر دورهم على مجالٍ محدّدٍ، بل يتقاطع مع جميع المجالات؛ الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والدّعويّة، وإنّ الأمم لا تستطيع المحافظة على استمرار رقيّها إلّا بإعداد أجيالها المتعاقبة الإعداد السّليم، وبقدر ما تحافظ الأمم على تربية هذه الأجيال على التّمسك بدينها، بقدر ما تحافظ على علوّ شأنها.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ).
فمرحلة الشّباب هي مظنّة الانغماس في الشّهوات، فإذا تغلّب الإنسان عليها كان دليل قوّة الإيمان والاستقامة، فالشّباب يكون خيرًا حين يُستثمر في الخير، ويغدو شرًّا وبيلًا حين يفترسه الفساد، وإنّ الانحراف في مرحلة الشّباب خطيرٌ، فمُنحرفُ اليوم هو مجرمُ الغد مالم تتداركه عناية الله جل وعلا، ولذلك حثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على اغتنام مرحلة الشّباب قبل المشيب، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ..).
والغنيمة لا تكون إلّا لشيءٍ يُخشى فواته وضياعه إن لم يُستغلّ.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الواجب في هذه الأمّة مشتركٌ بين المسلمين -شبابًا وشيوخاً- ولكن خُصّ الشّباب بالذّكر لأنهّا مرحلةٌ مهمّةٌ جدًّا في حياة المسلم نفسه، وفي حياة المجتمع الإسلاميّ بأسره، وإنّ دور الشّباب في الحياة دورٌ مهمٌّ، فبصلاحهم نهضة الأمّة، وانتشار الإسلام، وإسلامنا لا يقبل أن يعيش الشّباب عالةً على المجتمع، بل دعاهم إلى العمل والإنتاج، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَة رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ.....).
وبيّن لنا فضل العمل والعبادة -لا سيّما في وقت الشّباب- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ... وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ...).
2- نماذج مشرقةٌ من الشّباب الأوائل
إنّ مَن ينظر إلى حمَلة الإسلام الأوائل يجد أنّ أكثرهم كانوا شبابًا مِن أولي الهمم العالية والنّفوس الزّكيّة؛ الّذين زعزع الله بهم عروش الفرس والرّوم، ولقد ضربوا لنا أروع الأمثلة في البذل والتّضحية لهذا الدّين، ولعلّنا نُسلّط الأضواء على نماذج مضيئةٍ منهم:
في مجال القضاء: عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَبْعَثُنِي وَأَنَا شَابٌّ أَقْضِي بَيْنَهُمْ، وَلَا أَدْرِي مَا الْقَضَاءُ؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ، وَثَبِّتْ لِسَانَهُ)، قَالَ: فَمَا شَكَكْتُ بَعْدُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ.
وفي مجال الصّبر والثّبات: فإنّ صحابة رسول الله رضي الله عنه قد أعدّوا للصّبر والابتلاء نفوسًا مؤمنةً صامدةً، وقلوبًا بذكر الله مطمئنةً، كأمثال بلالٍ وصهيبٍ وعمّار بن ياسر رضي الله عنه؛ مِمّن عذّبوا في سبيل هذا الدّين، فكانوا رجالًا صابرين صامدين.
وأمّا في مجال العلم: نقول: إذا ذُكر العلم ذُكر معه ابن عبّاس وعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل رضي الله عنه وأمثالهم، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ حِمْصَ، فَإِذَا فِيهِ حَلْقَةٌ فِيهَا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَفِيهِمْ شَابٌّ أَكْحَلُ بَرَّاقُ الثَّنَايَا مُحْتَبٍ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ سَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ فَانْتَهَوْا إِلَى خَبَرِهِ. قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ.
وتأمّل في مجال العبادة: كيف ضبط النّبيّ صلى الله عليه وسلم حماسة الشّباب ووجّههم إلى ما يتناسب وطبيعة أعمارهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ب، قَالَ: جَمَعْتُ الْقُرْآنَ، فَقَرَأْتُ بِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَطُولَ عَلَيْكَ زَمَانٌ أَنْ تَمَلَّ اقْرَأْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَالَ: (اقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَالَ: (اقْرَأْهُ فِي عَشْرٍ)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَالَ: (اقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، فَأَبَى.
وقِسْ على ذلك جميع مجالات بناء الحضارة الإسلاميّة الّتي قامت بسواعد الصّحابة رضي الله عنهم.
هذا غيضٌ من فيضٍ، وفي سيرة سلفنا مِن الصّحابة ومَن بعدهم مِن الشّباب ما يجلّ عن الحصر، ولكن حسبنا مِن القلادة ما أحاط بالعنق، فعلى شبابنا العناية بهذه السّيرة المباركة، واتّخاذهم قدوةً حتّى يلحقوا بركبهم، وينهلوا مِن علومهم، فهلّا استيقظ شبابنا مِن سباتهم العميق، واغتنموا هذه المرحلة مِن حياتهم بما ينفعهم وينفع أمّتهم؟!
خاتمةٌ:
إنّنا في حاجةٍ إلى أن نُعيد تأهيل الشّباب تأهيلًا مبنيًّا على العلم والدّين الصّحيح، ودفعه إلى العمل والإنتاج، بعيدًا عن تلك الثّقافات الّتي تسرّبت إلى أخلاقيّات المجتمع عامّةً والشّباب خاصّةً.
نداؤنا إليكم يا شباب المسلمين: تحلّوا بروح المبادرة إلى البرّ والعمل الصّالح كما كان الصّحابة يتسابقون إلى فعل الخيرات، وأحسنوا توظيف طاقاتكم الهائلة، ووجّهوها إلى أبواب الخير، وميادين الإصلاح والتّنمية، لتكون سببًا في رقيّ المجتمع وتقدّمه وتحضّره، فإذا كان للأمّة مِن أملِ إنقاذٍ، ورجاءِ هدايةٍ وإصلاحٍ، فأنتم أيّها الشّباب أملها ورجاؤها، وسرّ نهضتها وبقائها، فقدّموا وابذلوا واصبروا وصابروا مِن أجل هذا الدّين، فمرحلة الشّباب هي وقت العطاء والإنتاج، ومَن يغفل عنها منكم سيندم على إهدار تلك الفترة الماضية من حياته.
ما أحوج أمّتنا الإسلاميّة -وهي تمرّ بمنعطفاتٍ خطيرةٍ، ومراحل صعبةٍ، وأمواجٍ عاتيةٌ تكاد تهدّ أركانها- إلى شبابٍ لهم هممٌ عاليةٌ، وأهدافٌ واضحةٌ، ونفوسٌ زكيّةٌ أبيّةٌ، وقلوبٌ نقيّةٌ طاهرةٌ.
حريٌّ بشبابنا اليوم أن يكونوا صالحين في أنفسهم مصلحين لغيرهم، يملؤون فراغهم بالمفيد والنّافع، وأن يعرفوا ما لوطنهم مِن الحقّ ليتفانَوا بالدّفاع عنه، والوقوف في وجه العدوّ الّذي يريد القضاء على المسلمين، والنّيل من كرامته، وليحذروا أن يكونوا آلةً يستخدمها الأعداء للإفساد في وطننا، وليتجنّبوا التّقليد الأعمى، والأفكار الهدّامة، حتّى لا يقعوا فريسةً في أيدي دعاة الباطل.