1- أثر العبادة في التَّحلِّي بالقِيم والأخلاق
2- العبادة: شعائريَّةٌ وتعامُليَّةٌ
مقدمة:
إنّ الله عز وجل لم يَخلقنا في هذه الحياة ليَستكثر بنا مِن قلّةٍ، ولا ليَستأنس بنا مِن وحشةٍ، ولا ليستعين بنا على أمرٍ قد عجز عنه، ولكنّه سبحانه خلقنا مِن أجل عبادته وتوحيده، وإنّ هذه العبادة هي سبيل الكمال، وطريق الهدى بعد الضّلال، تزيد بها النّعم، وتُدفع بها النّقم، وتُنال بها السّعادة، والسّيادة والتّمكين في الأرض، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النّور: 55].
وإنّ هذه العبادة الّتي كلّفنا الله عز وجل بالتزامها، تبتدئ بمعرفته وتمتدّ إلى المعرفة بأركان هذا الدِّين، والعمل على إقامتها بصدقٍ وإخلاصٍ، وإتقانٍ وإحسانٍ.
إنّ هذه العبادة -الّتي مِن أجلها خُلقنا، وعلى أساسها نُحاسَبُ، وبها نُثابُ ونُعاقبُ- لا تقتصر على الشّعائر الدّينيّة؛ مِن صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ فحسْب، بل هي اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يُحبّه الله عز وجل ويرضاه، مِن الأقوال والأفعال الظّاهرة والباطنة، فتشمل العبادات اللّسانيّة والقلبيّة والماليّة والبدنيّة، ولقد شرع الله جل جلاله هذه العبادات مِن أجل تقويم سلوك المؤمن، وامتثاله ظاهرًا وباطنًا لأمر الله عز وجل، وترجمةِ أثر هذه العبادات الشّعائريّة كلّها إلى واقعٍ في سلوكٍ حسنٍ، بمختلف شؤون حياة المسلم اليوميّة، وإظهارِ النّتائج والثّمار المرجوّة مِن تلك العبادات، في معاملاتهم وقضائهم ومجتمعهم، وتجسيدِ مقاصد الشّريعة الإسلاميّة المكنوزة في الفرائض الشّعائريّة واقعًا وسلوكًا، فإذا لم يُترجمها المسلم إلى واقعٍ وسلوكٍ، كانت عبادةً جوفاء يُؤدّيها صاحبها و لا تنفعه بشيءٍ، بل ربّما كانت حجّةً عليه بين يدي خالقه ومولاه.
1- أثر العبادة في التَّحلِّي بالقِيم والأخلاق
إنّ الله جل جلاله خلقنا لهدفٍ عظيمٍ وغايةٍ ساميةٍ، ألا وهي عبادته، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريات: 56].
وإذا ما تأمّلنا في آيات القرآن، نجد أنّ الشّعائر الدّينيّة تردفها المعاملات دائمًا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحجّ: 77].
فإنّ الله جل جلاله جعل العبادة وفِعل الخير شرطين متلازمين مِن أجل تحقيق الفلاح، فإذا لم تُهذّب العبادة الشّعائريّة أخلاق المسلم، كانت دليلًا على أنّها مجرّد واجباتٍ اعتاد المسلم على أدائها، فارغةٍ مِن مضمونها الرّوحيّ، ولذا فإنّ أبرز السّمات الأخلاقيّة للمجتمع المسلم، ذلك الارتباط الوثيق بين العبادة والأخلاق، فالعبادة تُزكّي نفس صاحبها، وتُوجّه سلوكه توجيهًا شفّافًا، وتُهذّب أخلاقه باستمرارٍ، فالصّلاة الّتي هي أهمّ أركان الإسلام بعد توحيد الله سبحانه، نجد أنّها مِن أعظم وسائل تزكية النّفوس، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
فكأنّ حقيقة الصّلاة تطهيرٌ للنّفس مِن الأخلاق الرّديئة، ويقول سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4-7].
فإنّ هؤلاء لو كانوا يقيمون الصّلاة حقًّا لله، ما منعوا العون عن عباده، وهذا هو المحكّ الحقيقيّ للعبادة الصّادقة المقبولة، حيث إنّ الرّياء محبطٌ للعمل، وبالصّيام يتمرّس الإنسان على الصّبر، ويمتنع فيه المسلم عن الطّعام والشّراب، إلى جانب تقوى المشاعر وانطلاقة الرّوح، ليُحقّق الغاية مِن الصّيام، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وبالزّكاة تترعرع الألفة بين القلوب، وينمو الإحسان بين النّاس، وتتطهّر النّفس، قال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التّوبة: 103].
وهذه عبادة الحجّ تُعزّز قيم العدل والمساواة، والتّراحم والتّكافل، الخالي مِن الاثم والمعاصي، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
وجعل صلى الله عليه وسلم جزاء الحجّ المبرور الجنّة، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ)، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ مَا بِرُّ الْحَجِّ الْمَبْرُورُ؟ قَالَ: (إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ).
وقلْ مثل هذا في سائر العبادات الّتي تلتقي كلّها عند الغاية الّتي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ).
2- العبادة: شعائريَّةٌ وتعامُليَّةٌ
إنّ مِن آفات العبادات الخطيرة، أن تتحوّل العبادة إلى عادةٍ يؤدّيها الإنسان دون أن تترك أثرًا في نفسه أو سلوكه، تأمّل -رعاك الله- في عبادة الصّلاة الّتي قال الله سبحانه عنها: {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] [العنكبوت: 45].
تجد أنّها قد تحوّلت عند كثيرٍ مِن النّاس إلى عاداتٍ، فلم تعدْ تنهاهم عن شيءٍ مِن الفحشاء والمنكر، فتجد اليوم مَن يصلّي في المسجد، ويُطأطئ رأسه في صلاته، مُظهرًا الخشوع، ولكنّك إذا نظرت إليه في السّوق رأيته ماكرًا مخادعًا غشّاشًا محتكرًا، وتجد مَن تُحافظ على صلاتها مِن فرائض ونوافل، ولكنّها مِن المتبرّجات المجاهرات بالمنكر، أو ممّن تُرخي لِلِسانها العنان ليتكلّم بالغيبة والنّميمة ونحوهما ممّا يُذهب ثواب العمل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَتَفْعَلُ وَتَصَّدَّقُ وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا خير فيها هي من أهل النار) وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هي من أهل الجنة).
وإنّنا نجد مَن يُكثر مِن صيام التّطوع فضلًا عن التزامه بصيام الفرض، ولكنّه مع ذلك لم يصم الصّوم الحقيقيّ، ولم يُحقّق الغاية منه، بل صام صومًا صوريًّا عن الطّعام والشّراب والمفطّرات الحسّيّة فقط، وأفطر على الحرام من المفطّرات المعنويّة، فرجع مِن صيامه صفر اليدين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ).
وهكذا نجد كثيرًا مِن النّاس يُؤدّون زكاة أموالهم ويُكثرون مِن الصّدقات، ولكنّهم يُبطلون ثوابها بمنّهم وريائهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].
وهكذا كلّ العبادات الشّعائريّة، لا تُقبل إلّا إذا صحّت العبادات التّعامليّة، مِن صدق الحديث، وأداء الأمانة، وحُسنِ الجوار، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، ونحوها، ولذا كان مِن الواجب علينا أن نجعل سياجًا منيعًا لحماية أعمالنا وعباداتنا، حتّى لا نسمح للمعاول الهدّامة الّتي تهدم ثواب أعمالنا، فتجعلنا -والعياذ بالله- مِن المفلسين، الّذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟)، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا، يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ، فَيَقُصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ).
خاتمةٌ:
هذه هي تربية الإسلام والمسلمين، وهي ثمرة العبادة والطّاعة، وهي صلاحٌ وإصلاحٌ، وتقدّمٌ وازدهارٌ، وسيادةٌ وسعادةٌ، فكان مِن الواجب علينا أن نفهم أنّ هذه العبادة الّتي خلقنا الله عز وجل مِن أجلها، لا تقتصر على نوعٍ معيّنٍ من العبادات، بل تشمل كلّ ما يحبّه الله سبحانه ويرضاه مِن الأقوال والأفعال، وعلينا أن نعي جيّدًا أنّه متى صحّت العبادة التّعامليّة؛ مِن برٍّ للوالدين، وصلةٍ للأرحام، وأداءٍ للأمانة، وصدقٍ للحديث، وحُسنٍ للجوار، ونحوها، صحّت العبادة الشّعائريّة؛ مِن صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ ونحوها، وكان للمسلم أجرها عند ربّه ومولاه، ولكنْ إنْ فسدت عبادته التّعامليّة فسدت بفسادها العبادة الشّعائريّة، فيحدث عندئذٍ الخلل، وتظهر التّناقضات، وتسود الفوضى، ويحلّ الشّقاء، ويظهر الإفلاس الحقيقيّ، إفلاس القيم والأخلاق والمعاملة الحسنة، وعندها لا ينفعه ثواب صلاةٌ ولا صيامٌ، ولا زكاةٌ ولا حجٌّ، ولا غير ذلك مِن العبادات إذا فسد سلوك الفرد، وساءت معاملته للآخرين.
فلنُحسنْ علاقتنا بربنّا جل جلاله، ولنتعاملْ بأخلاق ديننا، ففي ذلك الفلاح في الدّنيا والآخرة، ولنحذرْ مِن سوء الأخلاق والمعاملة، فإنّهما يُفسدان العمل مهما عَظُم.