1- الوِقاية مِن شُحِّ النَّفس
2- خِتامه مِسكٌ
مقدمة:
شهر رمضان كبائع العسل؛ يعرض عليك الصّنوف اللّذيذة، يقول: "ذق هذا، وذق هذا"، حتّى إذا وجدت ما يروق لك تعلّقت به، ولم تتركه، وكلّه عسلٌ، وكلّه نافعٌ، وكلّه شفاءٌ، في رمضان: الصّيام والقيام والذِّكر والدّعاء، وكلّها عباداتٌ لها واردٌ طيّبٌ في القلب، إلّا إنّ علماء السّلوك يؤكّدون أنّ النّاس ليسوا سواسيةً في استقبال العبادات، ففي النّاس مَن يُفتح له في الصّيام فيجد لذّة مقاومة النّفس ما لا يجدها غيره، وفي النّاس مَن يأنس لمكابدة اللّيل ونصبه، فيقوم حتّى يتعب جسمه ويريح قلبه، وفي النّاس مَن تراه يستغرق في الذّكر لا يبرحه لِما يجد فيه مِن الأثر العظيم في قلبه، ولديك (رَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ).
يجد أُنسه في بيت الله جل جلاله لا يُحبّ أن يبرحه، يأتي رمضان ليعرض علينا كافّة الأصناف، فينظر المرء ما يؤثّر في قلبه فيتمسّك به بعد رمضان، ولا يهجر سائر العبادات، أمّا مَن لم يجد لذةً وحضورًا لقلبه في أيّ عبادةٍ ممّا سبق فربّما كانت العلّة مِن القلب نفسه، إذ الوعاء يؤثّر فيما يوضع فيه، والظّرف يتحكّم بالمظروف.
قد تُنكر العين ضوء الشَّمس مِن رمدٍ وينكر الفم طعم الماء مِن سقمِ
وإنّ العشر الأخير فيه عبادتان تُضافان إلى ما سبق مِن عباداتٍ، إنّهما: زكاة الفطر والاعتكاف، ليتمّ بهما مقصود الشّهر، وهو أن يثمر التّقوى.
1- الوِقاية مِن شُحِّ النَّفس
جُبل الإنسان يوم جُبل محبًّا للمال، {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].
كما نصّ في سورة الفجر {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20].
وسورة العاديات {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 6-8].
ويستوي في هذا الغنيّ والفقير؛ فكلاهما يحبّ المال، لذا لا بدّ مِن يومٍ في السّنة يخرج الجميع مِن أموالهم -الغنيّ والفقير- تزكيةً لأنفسهم وتطهيرًا لها مِن الشّح، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التّغابن: 16].
وقال أيضًا: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
ولا تتمّ هذه الوقاية إلّا بالتّدريب والمجاهدة، تأتي زكاة الفطر لتدرّب الجميع على البذل، فليس لها نصاب الذّهب ولا نصاب الأنعام، وإنّما مَن ملكَ ما يزيد عن قوته وقوت عياله ليلة ويوم العيد فقد وجبت عليه زكاة الفطر عنه وعمّن يعول كزوجةٍ وابنٍ صغيرٍ، لذا تجد السّواد الأعظم مِن المسلمين تجب عليهم هذه الزّكاة، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ".
واستدلّ مَن قال بإخراجها بالقيمة بما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: "كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ، قَالَ: أُرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ".
فقد عدل معاوية رضي الله عنه عن الصّاع إلى نصفه مِن الحنطة السّمراء لما لحظ مِن فارقٍ يسوّغ ذلك، وعلى كلّ حالٍ فالمقصود إغناء الفقير عن المسألة يوم العيد، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَقَالَ: (أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ).
2- خِتامه مِسكٌ
هذه ساعات رمضان باتت معدودةً، وعلامات نهايته تلوح للسّالكين، والمعلوم مِن سنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنّه كان في نهاية رمضان أشدّ اجتهادًا مِن بدايته، على عكس ما يكون مِن بعض الناس، إذ يُقبلون على رمضان بشوقٍ ونهمٍ، ثمّ ما تلبث تفتر الهمم بعد مرور أيّامه الأولى، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ".
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ".
وهاهنا ملمحٌ مهمٌّ وهو العناية بالعيال وعبادتهم في نهاية الشّهر الفضيل، فلم يكن النّبيّ يقتصر على العبادة فيه؛ بل كان يأمر أهله ويوقظهم للعبادة، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
فالرّجال يحضرون مِن مجالس الوعظ والعلم ما يفوت كثيرًا مِن النّساء اليوم، ولا يستقيم سير الرّجل إلى الله، وزوجه بعيدةٌ عن هذا الطّريق، أمّا إذا كان البيت منسجمًا له غرض مشتركٌ سهل الأمر بإذن الله على الرّجل وعلى المرأة.
ومِن هديه عليه الصلاة والسلام في ختام رمضان أن يلزم المسجد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ".
بل كان يقضيه إن فاته، ممّا يدل على شدّة حرصه عليه، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَسَافَرَ عَامًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا".
ولزوم المسجد انقطاعٌ عن الدّنيا مؤقّتٌ، يستجمع فيه المرء همّته للعبادة، ويعزل نفسه عن صوارف الدّنيا وأشغالها؛ مِن زوجةٍ وعيالٍ ووسائل تواصل وأصدقاء، ليخلو بالله جل جلاله في بيته، وربنا سبحانه كريمٌ يكرم ضيوفه، {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3].
وإذا كانت القراءة في بيتٍ مِن بيوت الله جل جلاله كان الأمر أجدر وأحرى بمزيدٍ مِن الكرم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ).
خاتمةٌ:
رأينا المدرّبين يبدؤون مع المتدرّبين بالتّكاليف الخفيفة، ثمّ يزيدون لهم فيها شيئًا فشيئًا، حتّى إذا أوشك التّدريب أن ينتهي أضافوا لهم كلّ ما يمكن للمتدّرب أن يحتمل، حتّى يخرج مِن التّدريب بأقصى فائدةٍ ممكنةٍ، ورمضان يدرّبنا على ترك ما تهواه النّفوس، وبذل الوسع في العبادة كي نذوق لذّتها، فنحافظ عليها، والمتسابقون يبدؤون السّباق بجهدٍ منظّمٍ لئلّا ينقطعوا مِن بداياته، فإذا لاحت شارات النّهاية لهم استفرغوا وسعهم، وبذلوا أقصى طاقتهم ليحصّلوا أفضل النّتائج، وهذه علامات الشّهر الفضيل تتراءى، وما هي إلّا غمضة عينٍ وتسمعون تكبيرات العيد، فنهنّئ المجتهدين بما اجتهدوا، ويلوم المقصّرون أنفسهم، ولات ساعة مندمٍ، وممّا يحفّز المرء على بذل المزيد في ختام رمضان أنّ فيه ليلةً هي {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 3- 5].
تُرجى في خاتمة رمضان، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى).
فإذا كان كلّ هذا الخير في ختام رمضان فلنحرص عليه أشدّ مِن حرصنا على بداياته، وكأنّه الرّحيق المختوم {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].