1- لنرضَ رغم الألم
2- التّكبير وصلة الرّحم
مقدمة:
يبحث النّاس عن السّعادة، والأعياد مواسم لما يبحثون عنه، والكلّ يأمل بعيدٍ سعيدٍ، تملؤه البهجة والفرح، فكيف يتحصّل المرء على السّعادة؟ إنّ السّعادة تدور على الرّضا، مَن رضي عن نِعم ربّه سبحانه عليه سعد، ومَن انتقصها واستقلّها شقي، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النّحل: 18].
لذا نجد أنّ الله جل جلاله وعد نبيّه صلى الله عليه وسلم بالرّضا فقال: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضّحى: 1-5].
فلم يتكفّل له بالسّعادة، بل أقسم له أنّه سيعطيه عطاءً يرضيه، وكذلك الصّدّيق أبو بكرٍ رضي الله عنه موعودٌ ذات الوعد {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [اللّيل: 17-21].
وليس هذا الوعد قاصرًا على نبيٍّ وصدّيقٍ، بل يتعدّاهما لكلّ صاحب نفسٍ مطمئنّةٍ، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27-30].
ولكلّ مؤمنٍ عمل الصّالحات {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البيّنة: 8].
وبما أنّ السّعيد مَن حظي بالجنّة، ومَن حظي بالجنّة رضي، فالسّعادة الرّضا.
1- لنرضَ رغم الألم
كيف للسّعادة أن تجد طريقها إلى قلوب النّاس في العيد وواقعهم مؤلمٌ شديد الألم، مرٌّ شديد المرارة! إنّ النّظرة الشّرعية إلى الأمور تتعدّى ظاهرها إلى باطنها، هل يمكن أن يكون خرق سفينةٍ لمساكين يعملون في البحر خيرٌ؟ كان الأمر على الحقيقة خيرًا رغم أنّ ظاهره مؤلمٌ لهم، {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79].
هل يمكن لمقتل غلامٍ أن يكون خيرًا لأبويه؟ وهو مؤلمٌ لهما ولا شكّ؟ لقد كان خيرًا، {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80].
كن عن همومك مُعرضا وكلِ الأمور إلى القضَا
فلربّ أمرٍ مسخطٍ لكَ في عواقبه رضا
ولربّما اتّسع المضيـ ــــق وربّما ضاق الفضا
الله يفعل ما يشاء فلا تكن معترضا
الله عوّدك الجميل فقس على ما قد مضى
يُحكى في قصص الحكمة أنّ وزيرًا كان يرى الخير في أقدار الله عز وجل، وكلّما وقع ما يكره الملك سلّاه بقوله: "لعلّه خيرٌ"، حتّى قطعت أصبع الملك يومًا؛ فقال الوزير: "لعلّه خيرٌ" فاغتاظ الملك وأمر بسجن وزيره، فقال الوزير: "لعلّه خيرٌ" فتعجّب الملك، كيف يكون خيرٌ في قطع أصبع الملك، وسجن الوزير؟ ثمّ حصل أن خرج الملك للصّيد، فندّ به المقام عن حرسه، وخلا به قومٌ وثنيوّن أخذوه أسيرًا، واستحسنوا هيئته، فقرّروا جعله قربانًا لأصنامهم، ولمّا بدا لهم أصبعه المقطوع عدلوا عن ذلك، فنجا الملك مِن الذّبح بما قُطع مِن أصبعه، وأدرك أنّه تعجّل في سجن وزيره إذ تبيّن له أنّ بعض النّقص قد يجلب الخير الكثير، ولمّا اتّفق له أن عاد إلى ملكه أمر بإطلاق الوزير وإحضاره إلى مجلسه، جاء الوزير فسأله الملك: "كان قطع أصبعي خيرًا نجوت به مِن الذّبح، فما الخير في أن أسجنك؟" قال الوزير: "لو لم أسجن لكنت معك، ولعدل القوم عن ذبحك إلى ذبحي، فنجوتَ، وهلكتُ، ولكن تمّت نجاتك بما كرهتَ، وتمت نجاتي بما سجنتني" ربّنا سبحانه حكيمٌ ورحيمٌ، وفي أقداره الرّحمة والحكمة، إنّ عدم الوجدان لا يلزم منه عدم الوجود، فقد يفوتنا أن نلحظ حكمة الله جل جلاله في كلّ قدرٍ، لكنّ الّذي نحن على يقينٍ منه أنّ ما يجري في الكون فيه حكمة الحقّ الحكيم ورحمته، من أين لنا في كلّ حادثة بكليم الله ورجلٍ صالحٍ يكشف لنا حجب الغيب بما علّمه الله سبحانه مِن لدنه؛ لنطلّع إلى ما وراء خرق سفننا وقتل أبنائنا، ذاك النّموذج لنقيس عليه، "فقس على ما قد مضى".
2- التّكبير وصلة الرّحم
مهما كانت همومنا عظيمةٌ، فإنّ ربّنا عز وجل أعظم، ومهما كانت همومنا كبيرةٌ فإنّ ربّنا سبحانه أكبر، مِن هنا فإنّ التّكبير سببٌ مِن أسباب جلب السّعادة والرّضا، لذا نكبّر في أعيادنا، لنقول لهمومنا: "لنا ربٌّ كبيرٌ" {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
فالله أكبر.. الله أكبر...
علّمتني الحياة أن أتلقّى كلّ ألوانها رضًا وقبولا
ورأيت الرّضا يخفّف أثقالي ويلقي على المآسي سدولا
والّذي ألهم الرّضا لا تراه أبد الدّهر حاسدًا أو عذولا
أنا راضٍ بكلّ ما كتب الله ومزجٍ إليه حمدًا جزيلا
أنا راضٍ بكلّ صنفٍ مِن النّاس لئيمًا ألفيته أو نبيلا
وممّا يمنح المرء السّعادة والرّضا أن يصل رحمه يوم العيد، فيلتقي بمَن يأنس ويحبّ، وقد حثّنا شرعنا الحنيف على صلة الرّحم؛ فجعلها مِن دأب أولي الألباب {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرّعد: 19-21].
وشنّع على الّذين يقطعونها {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمّد: 22-23].
وعن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ الرَّحِمَ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، تَقُولُ: يَا رَبِّ إِنِّي قُطِعْتُ، يَا رَبِّ إِنِّي أُسِيءَ إِلَيَّ، يَا رَبِّ إِنِّي ظُلِمْتُ، يَا رَبِّ)، قَالَ: (فَيُجِيبُهَا، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَنْ أَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ).
ونحن إذ نصل أرحامنا نرضى منهم الأخلاق الحسنة، ونتجاوز عن سواها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ).
ومَن ذا الّذي تُرضى سجاياه كلّها كفى المرء نبلًا أن تعدّ معائبهْ
خاتِمةٌ:
لنرضَ عن أقدار ربّنا فنسعد، ولنرض ممّن حولنا ما هم عليه، فليس مِن طبع الدّنيا الكمال..
إِذا كُنتَ في كُلِّ الذُّنوبِ مُعاتِباً صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه
فعش واحداً أوصل اخاك فإنّه مقارف ذنبٍ مرّة ومجانبه
إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِراراً عَلى القَذى ظَمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه
وهذا عمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يروي لنا ما يربط بين الرّضا ولذّة الإيمان، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا).
لذا نكرّرها في أذكار الصّباح والمساء ثلاثًا، لنرضى ونسعد ونذوق لذّة الإيمان، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ)؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا وَقَالَ: (اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ).
فلنرضَ بما قسم الله لنا مِن أرزاق، ويشمل الرّزق كلّ ما وهبنا الله، مِن مالٍ ومتاعٍ وصحّةٍ وبنين وأصدقاء وأقرباء، لنرضَ بهم كما هم، أمّا عن نفوسنا، فلا نرضى عن تقصيرها، وإنّما نطالبها بالاستقامة، فإن استقامت فالثّبات.