1- نماذج مشرِقةٌ
2- العفو كرمٌ
مقدمة:
خلق الله سبحانه الإنسان، ووصفه بالضّعف والعجلة قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].
وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النّساء: 28].
وضعفه هذا وعجلته يؤدّيان إلى وقوعه في الأخطاء، فالخطأ لازمٌ مِن لوازم الآدميّة، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ).
والحديث هنا لا يصف حالة ابن آدم فقط مِن حيث كونه كثير الخطأ، بل يصف العلاج لهذا الأمر وهو التّراجع عن الخطأ وعدم التّمادي فيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ).
لا بدّ للصّفات أن تظهر، صفة الآدميّ الخطأ، وسيظهر خطؤه، وصفة الرّب سبحانه أنّه غفورٌ.
1- نماذج مشرِقةٌ
نهى الله جل جلاله أبانا وأمّنا أن يقربا شجرةً في الجنّة، وأباح لهما الأكل ممّا وراءها: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35].
لكنّ الشّيطان أغراهما بها؛ فأكلا منها: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36].
والدّرس الأهمّ هو أن تعلّم مِن أبوينا كيفيّة التّراجع عن الخطأ: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
واعتذر إخوة يوسف عمّا بدر منهم تجاه أخيهم، واعترفوا صراحةً بخطئهم: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97].
لم يكتفوا باعترافهم ذاك أمام أبيهم، بل صرّحوا به أمام أخيهم الّذي أخطؤوا بحقّه: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91].
واعتذر نبيّ الله موسى؛ للرّجل الصّالح الّذي يتعلّم منه، لمّا خالف ما اتّفقوا عليه؛ وكان الاتفاق: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70].
لكنّ كليم الله؛ نسي لمّا رأى عجبًا: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 71 - 73].
ولمّا تجاوز الاتفاق مرّةً أخرى لم يشأ أن يكثر التّجاوز والاعتذار: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76].
وهذا قضيبٌ في يدٍ شريفةٍ ينخس بطن سواد بن عمرٍو رضي الله عنه فيطلب القصاص مِن حامل القضيب، فيكشف النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليقتصّ سواد رضي الله عنه، لكنّ الصّحابي الجليل رضي الله عنه يقبّل البطن الشّريفة، "فكشف لي عن بطنه، فجعلت أقبّله".
فتأمّل كيف جاد سيّد البشر صلى الله عليه وسلم بالقصاص لطالبه، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ القِيَامَةِ).
2- العفو كرمٌ
يخطئ الصّحابيّ بحقّ أخيه، لكن يبادر بالاعتذار إليه، فيقيل الكريم زلّة الكريم، ويعفو رجاء أن يعفو الله عز وجل عنه: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النّور: 22].
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ رضي الله عنه لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: "وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ" -أي في حادثة الإفك- فَأَنْزَلَ اللهُ سبحانه: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} [النّور: 22].
قَالَ حِبَّانُ بْنُ مُوسَى: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: "وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي"، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ رضي الله عنه النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: "لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا".
وقد حذّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم مِن الاستمرار في الخصومة، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ).
فإذا جاءك أخوك معتذرًا يريد إزالة الخصومة فاقبل منه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلًا فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ).
وها هو سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ، فَلَمَّا لَقِينَا الْعَدُوَّ انْهَزَمْنَا فِي أَوَّلِ عَادِيَةٍ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ لَيْلًا فَاخْتَفَيْنَا، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ خَرَجْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاعْتَذَرْنَا إِلَيْهِ، فَخَرَجْنَا، فَلَمَّا لَقِينَاهُ قُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ، وَأَنَا فِئَتُكُمْ) قَالَ أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ: (وَأَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ).
وقد تكفّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن أقال المسلم أن يقيله الله سبحانه، فالجزاء مِن جنس العمل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ).
ويقول ابن قيم الجوزية: "وَأَمَّا قَبُولُكَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، ثُمَّ جَاءَ يَعْتَذِرُ مِنْ إِسَاءَتِهِ، فَإِنَّ التَّوَاضُعَ يُوجِبُ عَلَيْكَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، حَقًّا كَانَتْ أَوْ بَاطِلًا، وَتَكِلُ سَرِيرَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي الْغَزْوِ، فَلَمَّا قَدِمَ جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ أَعْذَارَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى".
خاتمةٌ:
"الاعتذار ثقافةٌ عالميّةٌ، إمبراطورا اليابان (ونيكسون وكلينتون) اعتذرا لشعوبهم.. جميلةٌ هي الاعتذارات، وقاسيةٌ عندما تنكأ ذات الجرح.. مع السنوات اكتشفتُ أنّ الاعتذار لا يُسقط الهيبة، وأجمل الاعتذارات ما كان مِن موقع القوّة، أن تعتذر لابنك، لزوجتك، لكن هناك مِن الكراسي ما تتّرفّع عن الاعتذار، نتّذكر النّكبة والنّكسة، ويغيب الجاني، آسفٌ لك يا ربّ، عن كل موقفٍ وجدتني فيه أتستّر عن عبادك وأغفل عن عينيك الّتي لا يفوتها شيءٌ وإن دقّ، آسفٌ لك والدي ترحل فجأةً دون أن أودّعك وأظلّ العمر كلّه متأخرًا عن الكمال الّذي أردته لي، آسفٌ لك أمّي، عن انتظارٍ وقفته خلف الباب؛ متى أعود؟ وفي كل مرّةٍ آتي متأخرًا عن فرحتك، آسفٌ لك صغيري، تكبر فجأةً وأنا البعيد عنك، آسفٌ لزوجتي الّتي انتظرت كلمةً جميلةً فنامت مجهدةً قبلها، آسفٌ لأستاذي الّذي علّمني الحرف الأوّل ثمّ كبرت ولم أقل له شكرًا، آسفٌ عن (آسف) قلتُها لا تحمل مثلّث التّوبة؛ النّدم والعزم على التّصحيح وتحمّل المسؤولية"
خيرٌ مِن الاعتذار أن تحتاط قبل الاعتذار، فتتحرّز عمّا يلجئك إليه، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي وَأَوْجَزْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكَ بِالْإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمِعَ فَإِنَّهُ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ، وَصَلِّ صَلَاتَكَ وَأَنْتَ مُوَدَّعٌ، وَإِيَّاكَ وَمَا تَعْتَذِرُ مِنْهُ).
فإذا وقع الخطأ فبادر إلى إزالته؛ مبادرة أبيك للتّوبة بعد إذ أُنزل مِن الجنّة، وإذا جاءك أخوك معتذرًا عن خطئه فاقبل وأقِل؛ فالإقالة كرمٌ، واقبل أدنى الاعتذار، فقد قبل الحقّ سبحانه مِن بني إسرائيل كلمة (حطّة): {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58].
الاعتذار يحتاج إلى شجاعةٍ، وما أحسن أن يتحلّى بالشّجاعة مَن جعله الله في موقع المسؤوليّة، فيبيّن للنّاس موطن خطئه، ويتحمّل تبعاته.