مقدمة:
لو فقدتَ كلّ شيء إيّاك أن تفقد ثقتك بالله..
في مشهدٍ قرآنيٍّ بديعٍ يسبر لنا سُبل تعامل الأنبياء ﻹ مع الابتلاء وتحديات الدّعوة ومشقّتها بأسلوب المتقين من عون الله وتأييده {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [سورة الصافات: 99].
ثقةٌ مطلقةٌ وعظيم توكّلٍ بأنّ الله سبحانه سيظهر له سُبل الهداية والرشاد..
كلّ ذرة فيه كانت تقول: أنت قصدي ومرادي وملاذي يا رب، فدلّني على أبواب الخير، وما فيه صلاح أمر دِيني ودنياي..
في أيامٍ عصيبةٍ.. وابتلاءات متلاحقةٍ.. تأتي وصيّة يعقوب: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
ثقل السّنين لم يرهق روحه، ولم يفقده الأمل، ولا يزال واثقاً مِن وعد ربه، لعله يلتقي بقرّة عينه بعد طول غيابٍ، ويفرّج عنه ما هو فيه..
رسالة نبيّ الله يعقوب تقول لنا: عليكم أن تحرصوا وتجتهدوا في التفتيش عن أسباب الخير وطرقه -مهما ضاقت بكم السّبل- فالسّعي للعبد مطلوبٌ، والاجتهاد في تقصّيه واجبٌ، والقنوط مِن الكبائر؛ فهو يورث اليأس ويزرع التثاقل والتباطؤ في العقل والروح، {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
تغيب كلّ أسباب النّجاة في حصارٍ خانقٍ مِن التّحديات والنوازل القاضية، ما بين عدوٍ متجبرٍ قويٍّ وبحرٍ هائجِ الموج وريحٍ عاصفةٍ..
هنا ساءت ظنون العُصبة مِن الأصحاب، وبخوفٍ من أقرب النّاس إلى موسى، وبقلبٍ مرتجفٍ يقولون: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61].
لترتفع إجابته بلسان قلبه وحاله، وبقوة إيمانه وثبات يقينه: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
فمَن ربّاني ببيت طاغية الأرض -فرعون- ونجّاني مِن زبانيته في مدين سيكون عوني وحسبي أمام هذه البحر اللّجيّ والجيش المتجبّر، وأنا بمعيته في مثل هذه الشدائد.
هنا تُعدم قيمة الوقت، وسط ذهولٍ ممزوجٍ بالرعب، تحترق الدمعات مختنقةً مِن الصّديق رضي الله عنه فيما آلت إليه الأمور داخل غارٍ مكشوفٍ وجيش يلاحقهم وخوفٍ على حبيبه؛ يجبر عينه أن تذرف الدّموع حزناً على مصابٍ سيحدث لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه، فيطمأنه بهدوء الواثق بتأييد الله وبقلبٍ مطمأنٍ؛ قائلاً صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا).
إنّها ثقة المصطفى صلى الله عليه وسلم بتمام المعيّة من ربّه وتأييده ونصره، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
ولعلّ النّفس تهمس بحزنٍّ: "لكنهم الأنبياء الأصفياء المعصومون المسدَّدون بمعيّة ربّهم، فَمن نحن أمامهم؟ وكيف لنا أن نكون بحالهم؟"
فيأتي خاطبٌ ربّانيٌ بلسان حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي... فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ).
(أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي... وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي).
(أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي... وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي).
فأيّ معيّةٍ ربّانيةٍ نحتاج أكثر منها؟ وأيّ تأييدٍ وجبرٍ نريد بعدها؟
أجب قلبك عندما يأتيك خطاب ربك: {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِين} [الصافات: 87].
إيّاك أن تجعل مِن هذا الظن وهماً... كمن جاء وصفهم: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].
ليكن لسان حالك قائلاً: ظنّي بربّ العالمين أنّه خالقي ورازقي وهاديني إلى سبل الرشاد {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} [طه: 50].
ظنّي بالله ثقةُ ويقينٌ بأنّه سيعينني على وعثاء السّفر في تحدّيات الحياة والابتلاءات التي تأتينا من كلّ حدبٍ وصوب..
فإذا وثق العبد بالله وأيقن أنّه رازقه وكافيه استقرت روحه واستعاد توازنه وعاش في دنياه راضياً مطمئناً.
قيل لحاتم الأصم يوماً: على ما بنيت أمرك هذا مِن التوكل؟ قال على أربع خلال: "علمت أنّ رزقي لا يأكله غيري، فلست أهتم له، وعلمت أنّ عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغولٌ به، وعلمت أنّ الموت يأتيني بغتةً، فأنا أبادره، وعلمت أنّي بعين الله في كل حال، فأنا مستحيي منه".
إنّها معية الله.. تتحصّل لمن استحقها بالعمل وأخذ بالأسباب ضمن الوسع والمتاح، وتخلّى عن كل ما يشوب العلاقة معه سبحانه، وطلب منه، لا مِن أيّ مخلوقٍ ضعيفٍ، وجدّد الصّلة بربٍ كريم رحيمٍ معطاءٍ..
هيّا: اقرع الباب بأيّ وقتٍ تشاء؛ فمن يمنعك؟! ألم تسمع قول الله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
نعم، ليس بينك وبين الاتصال إلّا أن ترفع يديك وتناجيه؛ طالباً منه العون والسّند،
وقلبك حاضرٌ بين يديه، وقد صرفت عقلك وفكرك وروحك عن كلّ الشّواغل إلّا هو،
فحقٌ على الله ألّا يرد هاتين اليدين خائبتين..
ليس بينك وبينه إلّا سجودٌ تمرّغ به كبرياء الدنيا في ذلّ العبودية له سبحانه..
لأنّ أقصر مسافة بين مشاكلك وحلّها = المسافة بين جبهتك والأرض
فمن سَجَد؛ وَجَد.. {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
وهكذا يظلّ العبد متعلقاً بجميل الظّن بربه، وحسن الرجاء فيما عنده، مقتدياً بهدي نبيه: (ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ).
تلك مرتبةٌ ستتحصّل عليها عندما تدرك أنّه لا عون ولا ملجأ منه إلّا إليه، ومقاليد كلّ شيءٍ بين يديه
وإني لأدعو الله حتى كأنني أرى بجميل الظّن ما الله صانعُ
فكن واثقاً بالله واثقاً بحفظه لك إذا كنت حافظاً لحدوده وقّافاً عليها..
كن واثقاً بأنّه كافيك ورازقك ومثيبك على أعمالك الصّالحة، ومعينك على فعلها لو أردتها واتخذت إليها سبيلاً..
فالثقة بالله نعيم الحياة وأنشودة السّعداء