1- في مِحراب الجمال
2- في رِحاب الشَّمائل
مقدمة:
مع هبوب نسمات ربيعٍ يطيب الحديث عن رّؤوفٍ رّحيمٍ صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التّوبة: 128].
صلّوا عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم صلى الله عليه وسلم.
يطيب الحديث عن دعوة أبي الأنبياء {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127-129].
وعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنِّي عِنْدَ اللهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ، دَعْوَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةِ عِيسَى قَوْمَهُ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ).
صلّوا عليه أفضل الصّلاة وأتمّ السّلام صلى الله عليه وسلم.
يطيب الحديث عن مِنّةٍ امتنّ الله سبحانه بها على عباده {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
صلّوا وسلّموا على سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
يطيب الحديث عن منقذ الأمّة مِن الظّلمات إلى النّور صلى الله عليه وسلم {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطّلاق: 10-11].
صلّوا وسلّموا على المبعوث حقًّا وصدقًا صلى الله عليه وسلم.
1- في مِحراب الجمال
نبيّنا صلى الله عليه وسلم موصوفٌ في التّوراة والإنجيل {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 157-158].
وهو صلى الله عليه وسلم في نظر صحابته رضي الله عنهم الشّمس المنيرة؛ فعَنْ كَعْب بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ، قَالَ: "فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا الأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا، وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ".
وهو في الليل القمر، بل أجمل مِن القمر؛ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ إِضْحِيَانٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى القَمَرِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَإِذَا هُوَ عِنْدِي أَحْسَنُ مِنَ القَمَرِ".
وأحبّه أصحابه فعدّوا الشّعر الّذي شاب في رأسه؛ سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَخَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: "إِنَّهُ لَمْ يَرَ مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا نَحْوَ سَبْعَةَ عَشَرَ، أَوْ عِشْرِينَ شَعَرَةً فِي مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ".
ووصفوا رائحة عرقه؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَزْهَرَ اللَّوْنِ، كَأَنَ عَرَقُهُ اللُّؤْلُؤَ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، وَلَا مَسِسْتُ دِيبَاجًا، وَلَا حَرِيرًا، أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا شَمِمْتُ رَائِحَةَ مِسْكٍ، وَلَا عَنْبَرٍ، أَطْيَبَ رَائِحَةً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم".
وكَانَ عَلِيٌّ، إِذَا وَصَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْمُمَّغِطِ وَلاَ بِالقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ القَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالجَعْدِ القَطَطِ وَلاَ بِالسَّبِطِ كَانَ جَعْدًا رَجِلاً وَلَمْ يَكُنْ بِالمُطَهَّمِ، وَلاَ بِالمُكَلْثَمِ، وَكَانَ فِي الوَجْهِ تَدْوِيرٌ، أَبْيَضُ مُشْرَبٌ، أَدْعَجُ العَيْنَيْنِ، أَهْدَبُ الأَشْفَارِ، جَلِيلُ الْمُشَاشِ، وَالكَتَدِ، أَجْرَدُ ذُو مَسْرُبَةٍ شَثْنُ الكَفَّيْنِ وَالقَدَمَيْنِ، إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ، وَإِذَا التَفَتَ التَفَتَ مَعًا، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، أَجْوَدُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً، وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً، وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً، مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ، يَقُولُ نَاعِتُهُ: لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ".
2- في رِحاب الشَّمائل
لئن فاتنا أن نعاين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسنا فقد نقلت لنا كتب السّيرة وصفه مشروحًا؛ كأنّك تنظر إليه، إذ (لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ الْمُمَّغِطِ) أَيِ: الْمَمْدُودِ مِنَ الْمَغْطِ وَهُوَ الْمَدُّ، (وَلَا بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ) أَيِ: الْمُتَنَاهِي فِي الْقِصَرِ كَأَنَّهُ تَرَدَّدَ بَعْضُ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَانْضَمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، وَتَدَاخَلَتْ أَجْزَاؤُهُ، (وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ) أَيْ: مُتَوَسِّطًا مِمَّا بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ، فَهُوَ فِي الْمَعْنَى تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، (وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ) أَيِ: الْفَاحِشِ السَّمِينِ، وَقِيلَ النَّحِيفُ الْجِسْمِ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، قِيلَ: هُوَ الْمُنْتَفِخُ الْوَجْهِ (وَلَا بِالْمُكَلْثَمِ) أَيِ: الْمُدَوَّرُ وَجْهُهُ غَايَةَ التَّدْوِيرِ، بَلْ كَانَ وَجْهُهُ مَائِلًا إِلَى التَّدْوِيرِ وَلِذَا قَالَ: (وَكَانَ فِي الْوَجْهِ) أَيْ: فِي وَجْهِهِ (تَدْوِيرٌ)، أَيْ: نَوْعُ تَدْوِيرٍ أَوْ تَدْوِيرٌ مَا، (أَبْيَضُ مُشْرَبٌ) أَيْ: مَخْلُوطٌ بِحُمْرَةٍ (أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ)، أَيْ: أَسْوَدُ الْعَيْنَيْنِ مَعَ سِعَتِهِمَا، (أَهْدَبُ الْأَشْفَارِ)، أَيْ: طَوِيلُ شَعْرِ الْأَجْفَانِ (جَلِيلُ الْمَشَاشِ): بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ عَظِيمُ رُءُوسِ الْعِظَامِ كَالْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَتِفَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، (وَالْكَتَدِ) أَيْ: وَجَلِيلُهُ، هُوَ مُجْتَمَعُ الْكَتِفَيْنِ وَهُوَ الْكَاهِلُ، (ذُو مَسْرُبَةٍ) أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَجْرَدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُحْمَدُ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي سَائِرِ أَعْضَائِهِ أَجْرَدَ، وَلَا سِيَّمَا الصَّدْرُ، (شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ) أَيْ: غَلِيظُهُمَا، الغلظ الدَّالّ عَلَى قُوَّةِ الْبَطْشِ وَالثَّبَاتِ، الْمُشِيرَيْنِ إِلَى صِفَةِ الشَّجَاعَةِ وَنَعْتِ الْعِبَادَةِ، (إِذَا مَشَى يَتَقَلَّعُ) أَيْ: يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ رَفْعًا بَائِنًا بِقُوَّةٍ مُتَدَارِكًا إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، كَمِشْيَةِ أَهْلِ الْجَلَادَةِ، لَا كَالَّذِي يُقَارِبُ الْخُطَا احْتِشَامًا وَاخْتِيَالًا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَشْيِ النِّسَاءِ يُوصَفْنَ بِهِ، (كَأَنَّمَا يَمْشِي) أَيْ: يَنْحَطُّ، (فِي صَبَبٍ) أَيْ: مُنْحَدَرٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قُوَّةِ الْمَشْيِ وَالْمَيْلِ إِلَى الْقُدَّامِ، (وَإِذَا الْتَفَتَ) أَيْ: أَرَادَ الِالْتِفَاتَ إِلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ، (الْتَفَتَ مَعًا)، أَيْ: بِكُلِّيَّتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُسَارِقُ النَّظَرَ، وَقِيلَ: أَرَادَ لَا يَلْوِي عُنُقَهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيْءِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الطَّائِشُ الْخَفِيفُ، وَلَكِنْ كَانَ يُقْبِلُ جَمِيعًا أَوْ يُدْبِرُ جَمِيعًا، يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الشَّيْءِ تَوَجَّهَ بِكُلِّيَّتِهِ، وَلَا يُخَالِفُ بِبَعْضِ جَسَدِهِ بَعْضًا كَيْلَا يُخَالِفَ بَدَنُهُ قَلْبَهُ وَقَصْدُهُ مَقْصِدَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّلَوُّنِ وَآثَارِ الْخِفَّةِ، (وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، أَجْوَدُ النَّاسِ صَدْرًا) إمَّا مِنَ الْجَوْدَةِ بِمَعْنَى السَّعَةِ وَالِانْفِسَاحِ، أَيْ: أَوْسَعُهُمْ قَلْبًا؛ فَلَا يَمَلُّ وَلَا يَزْجُرُ مِنْ أَذَى الْأُمَّةِ والْأَعْرَابِ، وَإِمَّا مِنَ الْجُودِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ ضِدِّ الْبُخْلِ، أَيْ: لَا يَبْخَلُ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَلَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي فِي صَدْرِهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَسْخَى النَّاسِ قَلْبًا، (وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً) أَيْ: لِسَانًا، (وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً) يُقَالُ: فُلَانٌ لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ إِذَا كَانَ سَلِسًا وَمُطَاوِعًا مُنْقَادًا قَلِيلَ الْخِلَافِ، (وَأَكْرَمُهُمْ عَشِيرَةً) أَيْ: قَبِيلَةً، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عِشْرَةً، أَيْ: مُعَاشَرَةً وَمُصَاحَبَةً، (مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً) أَيْ: أَوَّلَ مَرَّةٍ أَوْ فَجْأَةً وَبَغْتَةً (هَابَهُ) أَيْ: خَافَهُ وَقَارًا وَهَيْبَةً مِنْ هَابَ الشَّيْءَ إِذَا خَافَهُ وَأَقَرَّهُ وَعَظَّمَهُ، (وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ) أَيْ: بِحُسْنِ خُلُقِهِ وَشَمَائِلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ لَقِيَهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ بِهِ وَالْمَعْرِفَةِ إِلَيْهِ هَابَهُ لِوَقَارِهِ وَسُكُونِهِ، فَإِذَا جَالَسَهُ وَخَالَطَهُ بَانَ لَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَحَبَّهُ حُبًّا بَلِيغًا، (يَقُولُ نَاعِتُهُ) أَيْ: وَاصِفُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ وَصْفِهِ، (لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ).
خاتمةٌ:
نبيّنا صلى الله عليه وسلم الباب المشرّع الموصل إلى حبّ الله عز وجل {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31-32].
فهو الأسوة الحسنة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فالواجب علينا بعد تصفّح سيرته العطرة، ووقوع حبّه في القلوب، أن يدفعنا ذلك الحبّ إلى التّأسّي به، وإحياء سنّته، ومَن أراد التّأسّي به في باب الأخلاق فعليه أن يلتزم عظيم الأخلاق {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
فهو الرّحمة المهداة للعالمَين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وبلغ مِن رحمته أن يمتنع يومًا عن الدّعاء على المشركين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً).
على أنّه مع رحمته هذه قاتلهم يوم قاتلهم بشجاعةٍ وقوّة بأسٍ.
هذا، ونختم بأبلغ ما يمكن أن يُمدح به إنسانٌ؛ أن يمدحه الله جل جلاله، ويذكر الرّتبة الّتي صار إليها دون سائر النّاس {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النّجم: 1-18].
صلاة الله وسلامه عليه دافقةً نهرًا، شفعًا ووترًا.