1- الحِلم في القرآن والسُّنَّة
2- صِفةٌ طيِّبةٌ، وخُلُقٌ عظيمٌ
مقدمة:
مِن بين الفضائل الّتي دعانا إليها الإسلام، ورغّبنا في التّخلّق بها: الحِلم والأناة، والرّفق واللّين، والعفو والتّسامح، والحِلم هو: ضبط النّفس والطّبع عن هيجان الغضب.
فيضبط الإنسان نفسه عند ثورة الغضب حال وجود ما يدعو إليه، ويتملّك عنانها خوف الاسترسال في هيجانها وغليانها، وهناك فرقٌ بين الحِلم والصّبر، فالحِلم: إمهالٌ بتأخير العقاب المستحقّ، ولا يصحّ الحِلم إلّا ممّن يقدر على العقوبة وما يجري مجراها، وأمّا الصّبر فهو: حبس النّفس لمصادفة المكروه، وصبَرَ الرّجل: حبس نفسه عن إظهار الجزع.
وإنّ الحلم أو التحلّم دليلٌ على قوّة الشّخصيّة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ).
ومظهرٌ مِن مظاهر الرّشاد والسّكينة، وثمرةٌ مِن ثمار التّهذيب والتّديّن الصّحيح، كما أنّه صفةٌ مِن الصّفات البارزة الّتي لا يستغني عنها كلّ إنسانٍ يعيش في مجتمعٍ تتضارب فيه الأهواء، وتتصارع فيه الآراء، وتختلف فيه وجهات النّظر في العقائد والمذاهب والمبادئ، وإنّ للدِّين الإسلاميّ توجيهاتٍ حكيمةً، وإرشاداتٍ ساميةً؛ مِن شأنها أن تحمل المؤمن البصير بعواقب الأمور على التّخلّق بهذه الصّفة الكريمة، والاستمساك بعراها الوثيقة، والبُعد به عن مزالق الجهالة والضّلالة، ومهاوي الهلاك والرّذيلة، فالله عز وجل إنّما أعدّ جنّته لعباده المتّقين، وجعل مِن صفاتهم أنّهم يكظمون غيظهم، ويضبطون أنفسهم، ويحلمون على مَن جهِل عليهم، ويعفون عمّن أساء إليهم، طمعًا في تحقيق السّعادة والعيش الهانئ لأنفسهم ومجتمعهم، حيث سيعكس الحلم آثارًا إيجابيّةً، وثمراتٍ يانعةً، فتتحقّق راحة النّفس، وطمأنينة القلب، وإنّه لمقامٌ عظيمٌ لا يظفر به إلّا الّذين زكت نفوسهم، وسمت أرواحهم، وطهرت قلوبهم مِن الحدّة والغضب، ومِن العجلة والانتقام {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصّلت: 33-35].
فلنتعرّف على الحِلم في كتاب الله، وكيف تخلّق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، علّنا نقتدي به، وننال شرف الاتّباع.
1- الحِلم في القرآن والسُّنَّة
إنّ مَن تدبّر كتاب الله، وقلّب صفحاته، لَيقف على آياتٍ قرآنيّةٍ كثيرةٍ تشير إلى صفة الحِلم، الّتي وصف الله بها ذاته، وسمّى نفسه: الحليم، فقال: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].
ووصف بعض أنبيائه بالحِلم، فقال عن إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75].
وبشّره بولدٍ حليمٍ، وهو إسماعيل، فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصّافات: 101].
ودعا ربّنا عباده إلى كظم الغيظ، والحِلم على الجاهل، ورغّبهم في العفو عن الإساءة، فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133-134].
قال ابن كثيرٍ: "{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}،أي: لا يُعملون غضبهم في النّاس، بل يكفّون عنهم شرّهم، ويحتسبون ذلك عند الله، ثمّ قال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} أي: مع كفّ الشّرّ يعفون عمّن ظلمهم في أنفسهم، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فهذا مِن مقامات الإحسان".
عن ابن عبّاس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}: "أمرَ الله المؤمنين بالصّبر عند الغضب، والحِلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله مِن الشّيطان، وخضع لهم عدوّهم كأنّه وليٌّ حميمٌ".
ولقد تمثّل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخُلق الحِلم، وبدا ذلك في مواقفه الّتي كانت تستدعي الغضب، ولكنّه عالجها بالحِلم، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ وقد أثرّت فيها حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ له بعطاء.
فلنتخلّق بأخلاق القرآن، ولنقتدِ بالرّسول العدنان، لنصل إلى برّ الأمان.
2- صِفةٌ طيِّبةٌ، وخُلُقٌ عظيمٌ
إنّ دِيننا الحنيف دعا المسلمين إلى التّحلّي بكلّ فضيلةٍ، وإلى التّخلّي عن كلّ رذيلةٍ، ومِن بين الصّفات الّتي تمثّلت برسول الله صلى الله عليه وسلم: صفة الحلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ لَهُ، قَالَ: فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: (دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا) قَالَ: (اشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ) قَالُوا: لَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: (فَاشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً).
وهكذا تعلّم منه هذا الخلق الرّفيع صحابته الأجلّاء، فقد أغضب رجلٌ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقال له: واللهِ ما تقضي بالعدل، ولا تعطي الجزل، فغضب عمر وهمّ بالرّجل، فقال رجلٌ مِن القوم: يا أمير المؤمنين: ألا تسمع قول الله لرسوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فهذا مِن الجاهلين، فقال عمر: صدقت، وكان وقّافًا عند كتاب الله، وقال موصيًا للمعلّمين والمتعلّمين: "تعلّموا العِلم، وتعلّموا للعِلم السّكينة والحِلم".
وشتم رجلٌ أبا ذرٍّ رضي الله عنه، فقال: "يا هذا لا تُغرق في شتمنا، ودع للصّلح موضعًا، فإنّا لا نكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر مِن أن نطيع الله فيه".
وقال رجلٌ لعمرو بن العاص: "والله لأتفرغنّ لك، قال: هنالك وقعت في الشّغل، قال: كأنّك تهدّدني، واللهِ لئن قلت لي كلمةً لأقولنّ لك عشرًا، فقال عمرو: وأنت واللهِ لئن قلت لي عشرًا لم أقل لك واحدةً".
ولقد كان الرّجل يقول لمعاوية: والله لتستقيمنّ بنا يا معاوية أو لنقوّمنّك، فيقول: بماذا؟ فيقولون: بالخشب، فيقول: إذًا أستقيم، وقال: "لا يبلغ العبد مبلغ الرّأي حتّى يغلب حِلمه جهلَه، وصبرُه شهوته، ولا يبلغ ذلك إلّا بقوة الحلم".
وقد تكون صفة الحِلم خلقًا جبلّيًّا، فُطر الله الإنسان عليها، وهذا مِن أجلّ إكرام الله لعبده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ، الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ).
وقد يحتاج المسلم إلى ترويض نفسه وتدريبها، حتّى يغرس فيها هذه الصّفة النّبيلة، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ).
فإذا درّب الإنسان نفسه عليه صار مثل السّجيّة والطّبع.
خاتمةٌ:
بمثل هذه الأخلاق الفاضلة تسود الأمم، وبمثل هذا الحِلم الواسع تسير الأمور إلى غايتها المثلى، وبمثل هذه السّجايا الطّيّبة تتآلف القلوب، وتتصافى النّفوس، ويتكوّن مِن أفراد الأمّة أمّةً جبّارةً يحار فيها العدوّ، ويندحر خاسئًا على أعقابه، ألا ما أجمل التّأمّل في كتاب الله الكريم، وفي سيرة الرّسول الأمين! لنتعلّم الحِلم والصّبر، والأناة والرّفق، والعفو والصّفح، وما أحلى النّظرة في قراءة تاريخ الصّحابة أجمعين! لنقتبس دررًا مِن أقوالهم الهادية، وأفعالهم المثاليّة، تدفعنا إلى التّأسّي بهم والاهتداء بهديهم.
إنّ صفة الحلم، وسعة الصّدر، والعفو والتّسامح، صفاتٌ ضروريّةٌ لِمَن ينشد عيشةً راضيةً، وأركانٌ لازمةٌ لمَن يطلب حياةً كريمةً، تحفّها السّعادة، ويخالطها الهناء، ويسعد صاحبها بمحبّة النّاس، ورضوان الله الحليم الغفور، فلنتجمّل بصفة الحِلم، فإنّه نِعْم الخُلق العظيم، ولنوطّن أنفسنا: إنْ أحسنَ النّاس أن نُحسن، وإن أساؤوا ألّا نسيء، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ، حَفِظَهَا مَنْ حَفِظَهَا، وَنَسِيَهَا مَنْ نَسِيَهَا، فَقَالَ: (أَلَا وَإِنَّ شَرَّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ، أَلَا وَخَيْرُ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ، فَإِذَا كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ فَإِنَّهَا بِهَا، وَإِذَا كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ فَإِنَّهَا بِهَا، أَلَا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ).
والمؤمن القويّ هو مَن يحلم على مَن جهل عليه، و يمسك زمام نفسه عند الغضب، ويقاوم هواه حين الميل عن الحقّ، ويقارع شيطانه كلّما يدعوه إلى الانتقام.