1- خَير قُدوة
2- قُدوةٌ في الخَندق
مقدمة:
أرسل الله سبحانه الرّسل، ونصبهم قدواتٍ للنّاس {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
فمَن كان يرجو الله واليوم الآخر فليقتدِ بهم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة: 6].
فالمعتقدات الصّحيحة تحتاج إلى أمثلةٍ عمليّةٍ يراها النّاس أمامهم، حتّى يقتدوا بها، أمّا التّنظير الخالي عن التّطبيق فهو محلّ نظرٍ وتشكيكٍ، إذ سيقول النّاس: "لو كان حقًّا وصدقًا لامتثل به قائله"، سيقولون:
يا أيّها الرَّجل المعلِّم غيره هلَّا لنفسك كان ذا التَّعليمُ
تصِف الدَّواء لذِي السِّقام وذي الضَّنى كيما يصحَّ به وأنت سقيمُ
ونراك تصلح بالرَّشاد عقولنا أبدًا وأنت مِن الرَّشاد عديمُ
فابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ
فهناك يُقبل ما تقول ويُهتدى بالقول منك وينفع التَّعليمُ
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
1- خَير قُدوة
أرسل الله عز وجل خاتم النّبيّين صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بطاعته واتّباعه، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النّاس بالخُلق الحسن، وكان لهم قدوةً في ذلك {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وأمر الرّسولُ صلى الله عليه وسلم النّاس بالإحسان إلى الأهل، وكان صلى الله عليه وسلم خير مَن أحسن إلى أهله؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي).
وندب النّاس إلى صلاة القيام، وقام حتّى تورّمت منه الأقدام، يَقُولُ المُغِيرَة رضي الله عنه: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: (أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا).
وندب النّاس صلى الله عليه وسلم إلى الصّبر على المصائب، وكانت آلامه صلى الله عليه وسلم في المصائب مضاعفةً، فهو لا يدعو إلى الصّبر بعيدًا عن مرارته، بل يعرف صلى الله عليه وسلم حقيقة ما يدعو النّاس إليه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ قَالَ: (أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ) قُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: (أَجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا).
ولمّا ندب صلى الله عليه وسلم النّاس للخروج إلى عير قريشٍ، لم يرسلهم، ويتخلّف وراءهم، بل سار صلى الله عليه وسلم بنفسه بمَن خرج، يَقُولُ كَعْب بْن مَالِكٍ رضي الله عنه: "لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ".
وخرج صلى الله عليه وسلم في النّاس يوم أحدٍ، إذ دهم الخطر المدينة، وقاتل صلى الله عليه وسلم مع النّاس حتّى أصيب في سبيل الله، وقُتل شبيهُه حتّى شاع في النّاس أنّه صلى الله عليه وسلم قتل، فأنزل الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
وهذا ملمحٌ مهمٌّ يؤكّد أنّ الجهاد لا ينطفئ بموت القائد، بل هو فكرةٌ، والأفكار لا تموت {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].
2- قُدوةٌ في الخَندق
أمرنا الله سبحانه أن نقتدي بنبيّه صلى الله عليه وسلم، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فأين كان هذا الأمر؟ لقد كان في سياق الحديث عن غزوة الأحزاب، فالآية السّابقة {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 20].
والآية اللاحقة {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
فما سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في يوم الأحزاب حتّى نقتدي بها؟ مع العلم أنّ المطلوب الاقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في كلّ أحواله، لكنّ يوم الأحزاب مقصودٌ أصالةً، ويتحقّق فيه السّياق.
في الأحزاب حجرٌ يلامس البطن الشّريفة مِن شدّة الجوع؛ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: (لَمَّا حَفَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ الْخَنْدَقَ، أَصَابَهُمْ جَهْدٌ شَدِيدٌ، حَتَّى رَبَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا مِنَ الْجُوعِ).
لذا لا تحدّثني كثيرًا عن فضل الجوع في سبيل الله، بل دعني -إذ أحسر ثوبي عن حجرٍ على بطني- أن أرى ثوبك ينحسر عن حجرين، عندها ستجدني أصبَر وأقدَر، وبالنّصر أجدر، في الأحزاب آلةُ حفرٍ تتشرّف أن مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الخَنْدَقِ، وَهُوَ يَحْفِرُ وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ، وَيَمُرُّ بِنَا، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ).
هنا شعارات يكلّلها العمل، وتختلف كثيرًا عن الشّعارات الّتي يتمّ إطلاقها في الهواء كظاهرةٍ صوتيّةٍ ليس إلّا، في يوم الأحزاب صخرةٌ كأداء، تأبى أن تتفتّت إلّا تحت ضرباتٍ عنيفةٍ مِن يدٍ شريفةٍ؛ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحْفِرَ الْخَنْدَقَ عَرَضَ لَنَا فِيهِ حَجَرٌ لَا يَأْخُذُ فِيهِ الْمِعْوَلُ فَاشْتَكَيْنَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَلْقَى ثَوْبَهُ، وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَقَالَ: (بِسْمِ اللهِ)، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الصَّخْرَةِ قَالَ: (اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِحَ الشَّامِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ الْآنَ مِنْ مَكَانِي هَذَا) قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى وَقَالَ: (بِسْمِ اللهِ)، وَكَسَرَ ثُلُثًا آخَرَ وَقَالَ: (اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِحَ فَارِسَ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنَ الْأَبْيَضَ الْآنَ)، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ وَقَالَ: (بِسْمِ اللهِ)، فَقَطَعَ الْحَجَرَ قَالَ: (اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِحَ الْيَمَنِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ بَابَ صَنْعَاءَ).
ليقتدِ القادةُ برسول الله صلى الله عليه وسلم في التّضحية ومشاركة الجُند.
خاتمةٌ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاءِ رضي الله عنه، فَقَالَ: أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَبَا عُمَارَةَ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا وَلَّى، وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخِفَّاءُ مِنَ النَّاسِ، وَحُسَّرٌ إِلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ هَوَازِنَ، وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ، فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَانْكَشَفُوا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ، فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ، وَهُوَ يَقُولُ: (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ، اللهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ)، قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
بهذه المعاني تفانى الصّحابة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنّ منطق الجيوش يقتضي أن تتمّ حماية القادة؛ لأنّهم العقل الّذي يدير المعركة، فهم مركز القيادة والتّحكّم، وإذا اختلّ هذا المركز اختلّ الجيش، فهم بمنزلة الرّأس مِن سائر الجسد، وقد روعي هذا المعنى يوم بدرٍ إذ بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم العريش -عريش القيادة- لكنّه صلى الله عليه وسلم مع ذلك شارك بنفسه في تلك الغزوة، وكذلك بقي عمر رضي الله عنه في المدينة وأرسل الجيوش بقيادة الصّحابة إلى فارس والرّوم، ونال الشّهادة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يرجو، ومع أنّ هذا المنطق له وجاهته إلّا أنّ القادة المؤثّرين في الثّورات هم الّذين يحضّون النّاس أن يجودوا بأرواحهم في سبيل القضيّة، ثمّ يكونون أجود، ويطلبون مِن النّاس أن تُقبل في المعركة فلا تدبر، ثم يكونون أعظم إقبالًا على الموت، فيا أيّها القائد المغوار: بدل أن تحدّثني طويلًا عن مقاومة العدوّ حتّى آخر نفَسٍ؛ دعني أراك تقاومه كذلك، وبدل أن تقول لي: "قاوم بما وقع تحت يدك، فإن لم تجد إلّا العصا تلوّح بها في وجه الطائرة فلوّح" بدل أن تقول لي ذلك، دعني أرَ عصاك تلوّح في وجهها، واعلم حينها أنّني وراءك مقبلٌ على ما أقبلت عليه مِن موتٍ شريفٍ، ملوّحٌ بما لوّحت، هذا الخِطاب وإن بدا خاصًّا بالقادة، إلّا إنّه في الحقيقة عامٌّ في كلّ راعٍ، وكلّكم -قد علمتم- راعٍ.