1- ما رميتَ إذ رميتَ
2- فتحٌ مِن اللهِ
مقدمة:
القرآن دستور المسلمين، يرجعون إليهم في أمورهم كلّها؛ صغيرها وكبيرها، يهتدون بهديه إذ تتشعّب الطّرق، ويستنيرون بنوره إذ تظلم المسالك، ويستعينون بما فيه مِن إرشادٍ إذ تعسُرُ الجُدَد وتظهر العقبات الّتي ينبغي أن تُقتحم {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11].
كما يأتون إلى تعاليمه في أيّام الفرح والفتوحات، ليأخذوا منه التّوجيه والإرشادات، وقد عمّت الأفراح في الأسبوعين الفائتين، وكانت أفراحًا عظيمةً لم تتحمّلها قلوب كثيرٍ مِن النّاس، وعرف كثيرٌ مِن السّوريين دموع الفرح لأوّل مرّةٍ، بعدما ذرفوا طويلًا دموع الأحزان المتطاولة، ولن يدرك المرء عِظم الفرحة الّتي مرّ بها النّاس إلّا يدرك حجم الألم الّذي كانوا يعانونه، تأمّل نازحًا في خيمةٍ في هذا الشّتاء البارد يضرب أسداسًا بأخماسٍ، يفكّر كيف سيجابه برد الشّتاء القاسي إذ توشك الأربعين الباردة على الدّخول، يتحسّر على بيوته المسقوفة الّتي غادرها، وعلى دكّانه الذي كان يؤمّن له رزقًا كريمًا وحياةً متوسّطةً، ولا يرغب أن يتذكّر ابنه الأسير الّذي كان يرجوه سندًا له في هذه الحياة، ويرجو أن يورّثه ما منّ الله عليه به مِن مالٍ، لا يريد أن يتذكّره؛ لأنّ ذكراه وحدها كفيلةٌ بتنغيص أجمل لحظات الفرح، فكيف به وهو في غمٍّ أصلًا، تأمّل هذا النّازح والد الأسير في لحظة اليأس مِن أيّ فرجٍ تُزفّ له بيوته ودكّانه وحرّيّة ابنه دفعةً واحدةً، كيف لقلبه أن يتّسع لهذه الفرحة؟ أم كيف يمكنه أن يحبس دموعه! فإن جمعت إلى تلك البشارات الّتي زُفّت له أن بُشّر بزوال سبب هذا الظّلم مجتمِعًا، وأنّ هذا الظّالم فرّ وتفرّقت عصبته، فصاروا مطلوبين بعد أن كانوا الطّالبين، لقد كان فتحًا عظيمًا مفاجئًا بكلّ المقاييس، فما توجيهات القرآن حيال فتحٍ عظيمٍ وفرحٍ تضطرب له القلوب؟
1- ما رميتَ إذ رميتَ
إنّ ممّا يعدّل المزاج ويضبط المشاعر أن يتذكّر المرء القاعدة العامّة الّتي لا تتخلّف {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النّحل: 53].
فإذا أضاف المرء النِّعم العظيمة الّتي طرأت علينا في هذه الأسابيع إلى ما ألفه مِن نعمٍ سابقةٍ -كنعمة البصر والسّمع- وسلكها جميعًا في سلكٍ واحدٍ؛ فشكر الله سبحانه عليها جميعًا فهذا فعلٌ محمودٌ، فأفضال الله عز وجل علينا قديمةٌ متجدّدة، وما هذه بأوّلها ولن تكون آخرها بإذن الله "الله عوّدك الجميل، فقِس على ما قد مضى".
هذا، وقد امتنّ الله جل جلاله على عباده وذكّرهم بما كانوا عليه مِن ضيقٍ وشدّةٍ؛ فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].
كم تنطبق هذه الآية على واقعنا، فنحن قبل شهرٍ كنّا مستضعفين في الأرض، يلوّح لنا الصّديق والعدوّ بوجوب العودة إلى حكم الطّاغية، فالحمد لله الذي آوانا وأيّدنا بنصره!
فرح المسلمين بنصر بدرٍ، وفرحوا لمقتل رؤوس الكفر وإلقائهم في القليب، فذكّرهم البيان الإلهيّ {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17].
فالله هو المحيي والمميت {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156].
ورمى رسول الله فنزلت {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45].
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ جَمْعٍ؟ -وَذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ- قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَانْهَزَمَتْ قُرَيْشٌ نَظَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آثَارِهِمْ مُصْلِتًا بِالسَّيْفِ، يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، وَكَانَتْ لِيَوْمِ بَدْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِيهِمْ: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون: 64].
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28].
وَرَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَسِعَتْهُمْ الرَّمْيَةُ وَمَلَأَتْ أَعْيُنَهُمْ وَأَفْوَاهَهُمْ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُقْتَلُ وَهُو يُقْذِي عَيْنَيْهِ رِمَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
2- فتحٌ مِن اللهِ
إنّ استقراء سورة الفتح يؤكّد على أمرٍ مهمٍّ، وهو نسبة النّصر إلى الله سبحانه، فالّذي فتح الفتح المبين هو الله جل جلاله، والّذي أنزل السّكينة هو الله سبحانه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 1-4].
فإن قال قائلٌ: "جندنا هم الّذين فتحوا" تجيبه الآية {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 7].
وفي بيعة الرضوان يد الله سبحانه فوق أيديهم {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10].
وهو الّذي أنزل السّكينة بعد البيعة {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
وهو سبحانه الّذي كفّ الأيدي {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح: 20-21].
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24].
وهو جل جلاله الّذي جعل الصّلح الّذي كان مقدّمة الفتح {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 26-28].
ثمّ تصل السّورة إلى شهادة الحقّ عز وجل برسالة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وتأمر المسلمين بالتّراحم فيما بينهم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29].
وكأنّ المطلوب بعد الفتح أن يتراحم المسلمون؛ فلا يختلفوا على الغنائم، وأن يركعوا ويسجدوا شكرًا لله على ما أنعم.
خاتمةٌ:
تحقّق وعد الله سبحانه لعباده {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النّور: 55].
تحقّق وعد الله عز وجل بعد استيئاسٍ، بعد أن ظنّ النّاس أنّ العدوّ محيطٌ بهم لا محالة، وعذلهم العرب والعجم أن وقفوا في وجه الظّلم، واجتهد في تخطئتهم القاصي والدّاني، يقولون: "كان الأجدر بكم ألّا تغامروا" بعد أن انقطع الأمل مِن كلّ مددٍ أرضيٍّ، جاء المدد مِن السّماء {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
كم دعا النّاس الله سبحانه أن يخلّصهم مِن الظّالم {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الرّوم: 6].
والواجب علينا اليوم أن نزيد يقيننا بموعودات الله سبحانه، وأن نستغفر لما أظهرنا مِن يأسٍ، وأن نشكر الله على ما أنعم، فكيف نشكر؟ الشّكر يكون بالعمَل، أن نشمّر عن ساعد الجدِّ، وأن ينهض كلٌّ منّا -في الموقع الّذي هو فيه- فيعمل أحسن العمل وأجوده، ويتقن بالغ الإتقان، فإنّ الكرّة الآن في ملعبنا، وأمامنا وطنٌ جريحٌ يحتاج جهودًا جبّارةً لاستنقاذه، وإنّ شبابًا أظهروا عزمًا صلبًا أطاح بأكبر وأعتى الطّغاة، جديرون أن يظهروا عزمًا صلبًا كذلك في إعمار ما هدمه الطّاغية، ولنتساعد مع أشقّائنا في نهضة هذا البلد وعمارته، ولنتنافس في خدمته بدل التّنازع، فالتّنازع -قد علمتم- فشلٌ.