1- صمودٌ أسطوريٌّ مشرِّفٌ
2- خذلانٌ فاضحٌ
مقدمة:
لم يعد خافيًا على العالم جميعًا الحرب الشّرسة الّتي يشنّها الصهاينة المجرمون ضدّ إخواننا المستضعفين في غزّة، وأهلها صامدون راسخون كالجبال الرّاسيات، يدافعون عن دِينهم وأرضهم وأعراضهم، يسطّرون أروع البطولات، ليعلّموا العالم كلّه معنى الثّبات على المبدأ، طائراتٌ مدمِّرةٌ، وبيوتٌ مهدَّمةٌ، وأشلاءٌ ممزَّقةٌ، حتّى مِن النّساء والأطفال والشّيوخ، ولا يجد الجرحى مَن يُسعفهم، أو يقدّم لهم علاجًا، وليس هذا بمستغرَبٍ مِن اليهود الحاقدين {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].
ولقد أقلق هذا العدوان كلّ إنسانٍ حرٍّ في العالم الإسلاميّ، فالمؤمنون إخوةٌ في الدِّين والعقيدة {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].
فإذا ما أوذيت ثلّةٌ مِن المسلمين، تألّمت لها الأمّة كلّها، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
فالمؤمن قويٌّ بأخيه المؤمن، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
فمتى حصلت القدرة وجبت النّصرة، عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
فالأمّة الّتي يتناصر أبناؤها ينصرها الله عز وجل، والأمّة الّتي يخذل أفرادها بعضهم بعضًا يخذلها الله سبحانه، فهل سيجاهد العالَم الإسلاميّ الجهاد الحقّ الذّي ينتج حياة العزّة والكرامة، ويفضي إلى شهادةٍ تغيظ العدا؟ أم سيظل يغطّ في رقاده الطّويل وسباته العميق، ويدع المجال مفتوحًا للعدوّ ليقتّل أهل غزّة جميعًا!
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الرّدى
فإمّا حياةٌ تسرّ الصّديق وإمّا مماتٌ يغيظ العِدا
ونفس الشّريف لها غايتان ورود المنايا ونيل المنى
1- صمودٌ أسطوريٌّ مشرِّفٌ
لقد أوضح الله عز وجل في كتابه الكريم، أنّه قادرٌ على أن يجعل النّاس كلّهم مؤمنين {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99].
كما أنّه قادرٌ على أن ينصر المؤمنين مِن دون دماءٍ تُراق، ولكنها سنّة التّدافع بين الحقّ والباطل {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمّد: 4].
وما يجري على أرض غزة الأبيّة إبادةٌ جماعيّة، فقد غلا المرجل وانفجر، وتكالبت الأمم بدعمها اليهود لمحق المسلمين {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
والعالَم كلّه يرى هذه المذابح الأليمة، والمجازر الّتي تُدكّ لهولها الجبال، وتشيب لها الرّؤوس، دُون أن يحرّك ساكنًا، ولم يكن في وُسْع الأبطال إلّا مقاومة هذا الظّلم والبغي والإجرام، فهّبوا جميعًا مدافعين عن عقيدتهم ودِينهم، وسجّلوا أشرف المواقف {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشّورى: 41].
مستمدّين قوّتهم مِن إيمانهم بالله، فهو ناصرهم وخاذل عدوّهم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49].
فهو عزيزٌ لا يَذلّ مَن توكّل عليه، فالإيمان بالله هو الّذي يمدّهم بروح القوّة، فلا يبالون بشيءٍ في جنب الله، ويتوكّلون عليه فتحصل لهم شحنةٌ تغمرهم بقوّة المقاومة، وتشحذ فيهم العزم الصّارم، والإرادة الشّمّاء، ولقد قصّ الله علينا آثار هذا التّوكّل في أنفس رسل الله، إزاء أعداء الله {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
فالرّسل وأتباعهم يعلمون أنّ الحقّ أحقّ أن ينتصر، والباطل أولى أن يندحر {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].
كما يوقنون بأنّ الجهاد سيثمر حياة عزيزةً، ونعيمًا خالدًا، عَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: انطلَقَ رسولُ اللَّهِ وأصحابهُ، حتَّى سَبقُوا المشركينِ إلى بدرٍ، وجاءَ المشركونَ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماَوَاتُ وَالأرْضُ)، قالَ عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ : بَخٍ بَخٍ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ما يَحْمِلُكَ على قولكَ: بَخٍ بَخٍ؟) قال: لا واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ إلّا رجاءَ أنْ أكونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: (فَإِنَّكَ مِن أَهلِهَا)، قال: فاخترجَ تمراتٍ فجَعَلَ يأكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئنْ أَنَا حَيِيتُ حتَّى آكُلَ تَمراتِي إنّها لحَيَاةٌ طويلةٌ، قال: فَرَمَى بما كَانَ معَهُ مِنَ التَّمر، ثمّ قاتَلَهم حتَّى قُتِلَ.
إنّها عقيدةٌ أعطتهم ثقةً لا حدود لها، وقوّةً لا تقهرها قوّة البشر، وهذا ما يتّصف به أهل غزّة الأشاوس اليوم.
2- خذلانٌ فاضحٌ
إنّ الأحداث الأليمة، والحروب الطّاحنة، الّتي تدور رحاها على أهلنا في غزّة، لَتوجب علينا التّذكير بواجبٍ شرعيٍّ، وحقيقةٍ ساطعةٍ، ألا وهي: وجوب نصرة المستضعفين، ومؤازرة المظلومين {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72].
ولقد أمر الله سبحانه المؤمنين بالاعتصام بحبله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
ونهاهم عن التّنازع المؤدّي للفشل {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
فالمسلم يجب أن يقاسم أخاه المسلم الهموم والمكاره، ولا يخذله ولا يسلمه، عَنْ جَابَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي طَلْحَةَ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنَ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنَ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ).
فهل نرى لهذا الحديث أثرًا في واقعنا، وفي نصرتنا لأهل غزّة؟
فالمسجد الأقصى أُبيح حرامه قُتل الأرامل فيه والأيتام
ماذا أقول ففي الفؤاد لواعجٌ زادت بها الآلام والأسقام
إنّ هذه الحالة المخزية، لَتذكّرنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا)، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ)، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الْحَيَاةِ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ).
فإخوتنا في فلسطين يعانون مِن مِحنٍ عظيمةٍ منذ عشرات السّنين، وكان مِن الواجب على المؤمنين أن ينصروهم وأن يقفوا معهم {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التّوبة: 71].
ولكنّ المسلمين -للأسف- تخلّوا عن نصرة إخوانهم عند حاجتهم إليهم، وأسلموهم لأعدائهم، فكان أهل غزّة اليوم بين ظلم الأعداء وخذلان الإخوان، فيا ليت شعري ما الّذي يحرّك ضمائر الأمّة ويوقظها مِن سباتها إذا لم يحرّكها هذا الواقع المرير مِن الدّماء والأشلاء؟!
خاتمةٌ:
إنّ كلّ طاغيةٍ له يومٌ مِن أيّام الله جل جلاله، يجعله الله فيه عبرةً لعباده، وإنّ طغيان اليهود، وإفسادهم في الأرض لن يكون نهاية المطاف، بل سيكون ظلمهم وطغيانهم سببًا لتقويض ممالكهم، فسنّة الله ماضيةٌ في الطّغاة والظّالمين، وإنّنا نقول لأهل غزّة مِن هذا المنبر: اصبروا؛ فالله معكم، وأنتم الأعلون بإذن الله {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 137-140].
ونقول لأنفسنا: إن كنّا قد عجزنا عن نصرة إخواننا بأنفسنا، فلننصرهم بأموالنا ودعائنا، فإنّهم في كربٍ شديدٍ، يصبح الواحد منهم في أسرته، ويمسي ولا أسرة له، ويمسي في منزله، ويصبح ولا منزل له، فما أحوجهم لمعونتنا! فلنكن معهم؛ يكن الله معنا، ولنثبّتهم على مبدئهم الحقّ، بفضل مالٍ ندفعه، ودعاءٍ نلجأ به إلى مولانا، وتوبةٍ صادقةٍ تكون سببًا للعزّ والنّصر والكرامة، وإن بدا هذا الطّريق شاقًّا لا تقدر عليه كثيرٌ مِن النّفوس، لكنّه الطّريق الصّحيح، ولا طريق غيره، فأعداء الإسلام قد أسفروا عن وجههم الحقيقيّ في العداء لنا جميعًا، ومحاولة استئصالنا، وليس المسلمون مثلهم في السّلاح والعتاد والجيوش، ولن يردّ عدوانهم عنّا، وعن إخواننا في غزّة، إلّا نصرٌ مِن عند الله، وطريق النّصر قد سددناه بتفرّقنا وذنوبنا، فلنفسح الطّريق لنصر الله باعتصامنا بحبل الله المتين، وتوبتنا إلى ربّنا الرّحمن الرّحيم، فعسى بتوبتنا يحصل العزّ والتّمكين، ويُكتب لإخواننا المحاصرين النّصر والفوز المبين.