1- تحذير الله ورسولُه من التزوير
2- التزوير العلمي والفقهي والإفتائي والقضائي
3- التزوير السياسي
4- أنواع أخرى من التزوير
5- عقوبة المزوِّر
مقدمة:
الحديث اليوم عن أمر خطره جسيم، والكلام اليوم عن عمل إثمه عظيم، فكم بسببه من حقوق أكلت، وكم بسببه من بيوت هدمت، ورقاب قطعت، ودماء أهرقت، وبلاد هدمت، في الشام وغيرها من بلاد الإسلام في هذا الزمان العجيب الغريب الرهيب.
زَمَانٌ رَأَيْنَا فِيهِ كُلَّ العَجَائِبِ وَأَصْبَحَتِ الأَذْنَابُ فَوْقَ الذَّوَائِبِ
أتدرون ما السبب؟ أتدرون لماذا فعلت كل هذه الفظائع؟ وارتكبت كل هذه الشنائع؟
إن السبب هو الزور والتزوير.
1- تحذير الله ورسولُه من التزوير
الزور والتزوير حدَّث عن خطره وشره ومصيره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ) قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: (الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)
إنهم الغشاشون إنهم المزورون إنهم مثل الحدباء يتلونون حسب الحاجة ويزورون حسب المصلحة، جعلوا التزوير طريقهم لكل وظيفة وعمل، قلبوا الحقائق بالتزوير، ودمروا وقتلوا واغتصبوا بالتزوير، حالهم كما قال الله تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204].
عُمْيٌ بَصَائِـرُهُمْ طُمْــسٌ مَشَـاعِرُهُمْ كَأَنَّهُمْ فِي مَرَاعِي وَهْمِهِمْ غَنَـمُ
فَالزّورُ مَنْطِقُهُـــمْ وَالغَـــــدْرُ شِيمَتُهُمْ وَالخُبْثُ دَيْدَنُهُمْ إِنَّ العَدُوَّ هُمُ
إن الزور والتزوير ليس من شيم الأبرار الأحرار وليس من صفات الأماجد الأبطال، ولا من أخلاق المجاهدين الشجعان، فقد قال الله مادحاً عباد الرحمن في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].
لم يقل لا يفعلون الزور، بل لا يشهدونه.
جَمَالَ ذِي الأَرْضِ كَانُوا فِي الحَيَاةِ وَهُمْ بَعْدَ المَمَاتِ جَمَالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ
أَخْلاقُهُـــمْ نُـورُهُـمْ مِــنْ أَيِّ نَاحِيَـةٍ أَقْبَلْـتَ تَنْظُرُ فِي أَخْلاقِهِمْ سَــطَعُوا
جعلنا الله جميعاً منهم بفضله وكرمه.
واعلموا يا أيها الناس: أن الزور والتزوير من أخلاق الساقطين، وصفات المنافقين، وأعمال الكافرين لذلك حذر الله منه أعظم تحذير، وقرنه بأعظم جريمة، وأشنع نقيصة، جمع الله التزوير والشرك وجعلهما بمنزلة وضيعة ونهاية وخيمة، وأمر عباده بالابتعاد عنهما واجتناب القرب منهما بآية واحدة، فقال الله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} [الحج: 30].
أتعلمون لما اقترن الزور والتزوير بالشرك بالله العلي القدير، إن السبب هو: إن الشرك كذب على الخالق، والتزوير كذب على المخلوق.
فَالمَرْءُ يَعْلُو بِالهُدَى فَإِذَا هَوَى عَاشَ الحَيَاةَ مُطَبِّلاً وَمُزَمِّرَا
أيها الأخوة: ولأن التزوير عم وطم ودخل علينا من كل باب ومارس أهله الكذب والخداع، كان لا بد من بيان أنواعه الكثيرة وبيان أخطاره الجسيمة وإيضاح مصيره.
التزوير: هو تمويه الباطل بما يظهر أنه حق، ومن صوره ومظاهره الذي بلينا به في هذا الزمان.
2- التزوير العلمي والفقهي والإفتائي والقضائي
فكم نرى من عمائم تحتها رمم، وكم من علماء عملاء، تصدروا مجالس القضاة والإفتاء، وهم من العلم خواء بعداء، منهم من جاء كذباً وزوراُ بشهادات باطلة، صنعت بأيد مجرمة ضالة، ومنهم من تخرج من دورة شرعية لشهور معدودة محدودة، وأعدَّ نفسه من الراسخين في العلم، ومنهم من وصل لمجالس القضاء والإفتاء، ومنابر الكلمة والخطباء بسلاح فصيله وقوة عضله ومكيجة حاله وزور مقاله، وصدق من قال فيهم:
تصــدر للتدريــس كل مـهـوس جهول ليسمى بالفقيه المدرس
فحـق لأهل العلم أن يتمثـلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس
وأيم الله: إن كل هؤلاء دجلة مزورون، كَذَبَة أفاكون، تجرؤوا على الدين والشريعة، وقد جعل الله هذا التزوير والقول عليه بغير علم ولا كتاب منير من أعظم الكبائر إثماً، وأشد النهايات وَخَمَاً، فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
أَشْكُو إِلَى الرَّحْمَنِ مِنْ عَلَقٍ يَعِيشُ عَلَى جِرَاحِي
مِنْ جِلْدَتِي لَكِنْ أَشَـدْدُ عَلَيَّ مِـــنْ طَعْــنِ الرِّمَاحِ
أَخَـذَالدِّيَانَةَلاعَنْ مُسَيْ لِمَةَ الكَذُوبِ وَعَنْ سَجَاحِ
مِنْ كُلِّ تَيْسٍ كُلَّمَا كَبَّرْتُ بَـرْبَـرَ لِلنِّطَاحِ
إياكم ثم إياكم من هذا الدركات السيئة، والنتائج القاتلة، فإن التزوير قاتل للشهامة والرجولة، وقاض على المروءة والعدالة، لهذا وصف عليه الصلاة والسلام المزور بقوله: (المُتشبِّعُ بما لم يُعطَ كلابِس ثوبَيْ زُورٍ)
الله أكبر؛ ما أعظم هذا الحديث! والله أكبر؛ كم يُلامِسُ أُسًّا في واقعِنا!
3- التزوير السياسي
ومن أخطر أنواع التزوير التزوير في ولاية الأمر، التزوير في الإمارة والحكم، التزوير في تسليم أعمال المسلمين، هذا التزوير من فعل فرعون اللعين، فقد زور للناس حاله وفعله {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51].
وللأسف فقد تبعه قومه على زوره وتزويره كالعميان، وكالفراش الذي يقذف نفسه في النيران، وصدق فيهم قول الملك الديان {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
وما زال فراعنة العصر في كل زمان ومصر، يزوِّرون على الخلائق بضلالهم وخبثهم، ولازال وللأسف المغفلون من الأمم يتبعونهم ويؤيدونهم، كما يحدث اليوم في الشام يزور النظام الخبيث الفاجر على الناس فيقفون معه ويناصرونه، ويزور النظام العالمي ويمكر والعرب يتبعونهم حذو القذة بالقذة، وصدق القائل في وصفهم:
مازال فينا ألوف من بني سبأ يؤذون أهل التقى بغيا وعدوانا
مازال لابن سـلول شيعة كثروا أضحى التزوير لهم سمتا وعنوانا
هذه هي أخلاقهم، الزور والتزوير، والكيل بمكيالين، والتطفيف في الموازين، فلا تعجب منهم ولا تستغرب من فعلهم، فهم كالحية الرقطاء لا تنفس إلا سماً، ولا تبصق إلا علقماً، ولكن تعجَّب واستغرب ممن ارتدى زيَّ الإسلام والمسلمين، وتهيئ بهيئة العباد الصالحين، ثم تراه يزور بهتاناً، ويغش عياناً، عن معقل بن يسار قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ، وَيَنْصَحُ، إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ)
4- أنواع أخرى من التزوير
ومن أنواع التزوير:
التَّزْوِيرُ فِي الْبُيُوعِ بِإِخْفَاءِ عُيُوبِ السِّلْعَةِ وَتَزْيِينِهَا وَتَحْسِينِهَا؛ لإِظْهَارِهَا بِشَكْلٍ مَقْبُولٍ تَرْغِيبًا فِيهَا، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟)، قال أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني).
والتزوير في المكاييل والأوزان وغش الناس وخداعهم بها، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1-5] .
والتزوير في البينات بِمُحَاكَاةِ خَطِّ الْقَاضِي أَوْ تَزْوِيرِ تَوْقِيعِهِ أَوْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ فِي سِجِلاَّتِ الْقَضَاءِ بِمَا يَسْلُبُ الْحُقُوقَ مِنْ أَصْحَابِهَا، ويقع أيضا في تزوير الأختام والتواقيع، وكذا الغش في الوثائق والسجلات، ومحاكاة خطوط الآخرين وتوقيعاتهم بقصد الخداع والكذب.
عَنْ أَبِي بكرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا، فجلس فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
فتزوير الأوراق الرسمية والوثائق من أنواع التزوير المحرم.
ومنه التزوير الإعلامي والإلكتروني الحاصل في أيامنا حيث يسرق فلان عمل فلان وينسبه له. فعن عائشة، أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني فقال عليه الصلاة والسلام: (المتشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور).
قال الإمام النووي رحمه الله بشرح على مسلم: "قال العلماء معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس ويتزين بالباطل فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور، قال أبو عبيد وآخرون هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع ومقصوده أن يظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة، ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه فهذه ثياب زور ورياء".
وما أكثر ما يقع كل ما سبق في أيامنا.
ومن ذلك التزوير في اليمين، وَهِيَ اليمينُ الغَمُوسُ الَّتِي يَكْذِبُ فِيهَا الْحَالِفُ عَامِدًا عَالِمًا، وسميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ومِنْ ثَمَّ في النار، والإتيان باليمين الغموس حرام، ومن الكبائر؛ لما فيه من الجرأة العظيمة على الله.
وقد عدها الإمام ابن حجر الهيتمي من الكبائر.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: "لا كفارة فيها لعظم إثمها".
عن عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو عليها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان) فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}
كَمَا يَقَعُ التَّزْوِيرُ فِي النِّكَاحِ بِأَنْ يَكْتُمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَيْبًا فِيهِ عَنِ الآْخَرِ فيكتشفه بعد الزواج. وهذا كله محرم وداخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غش فليس منا).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).
ومن التزوير: تغيير حدود الأرض وضمُّ ما ليس منها إليها، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من غير منار الأرض)
5- عقوبة المزوِّر
إن المزور كالغاصب ما ليس له بحق، والسارق ما ليس له بملك، وكالكاذب يقول بغير صدق، إن المزور قد جمع كل صفات المكر والخديعة، واتصف بكل رذيلة وشنيعة، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، المزور أعماله باطلة، وعباداته مردودة، وأدعيته غير مسموعة، صدق فيه قول الصادق الأمين: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
واعلموا أيها الأخوة المؤمنون: أن المسلم الحق بعيداً عن التزوير بعد المشرق عن المغرب، لأن المسلم يرى أن التزوير جريمة فظيعة، وخلة شنيعة، وصفة وضيعة، المسلم الحق يعيش حياته واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، لأنه يعلم أن الزرق بيد الله، والحياة والممات بيد الله، فممن يخاف حتى يزور ومن يرجو حتى يغش، إنه يردد دائماً:
أَقُولُ الحَـقَّ لا أَخْشَى وَإِنِّي لأُبْصِرُ خَلْفَهُ عُنُقِي تُدَقُّ
وَلَسْتُ بِجَازِعٍ مَا دَامَ قَلْبِي يُرَدِّدُ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَـقُّ
وعقوبة التزوير في الدنيا التعزير بما يراه الحاكم، كأي جريمة ليس لها عقوبة مقدرة شرعاً، فإذا ثبت أنه تعمد التزوير، فيعزر بما يراه الحاكم من تشهير أو ضرب أو حبس، أو إلى غير ذلك؛ فقد روي: أن معن بن زياد عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال فأخذ مالا، فضربه عمر رضي الله عنه مائة جلدة، وحبسه، ثم ضربه مائة أخرى، ثم ثالثة، ثم نفاه.
اللهم اجعلنا من الصادقين لا المزورين، ومن الأمناء لا الغشاشين، واحشرنا في زمرة الصادق الأمين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.