الباحث:
مقدمة:
لا يخفى على مبصر عداك عن المتبصر ما تعرضت له هذه الأمة من ظلم أدى إلى خراب كبير في بنيتها الفكرية، فتهدم جانب الأمل فيها، وأرخت روح الهزيمة والقنوط وظلمة اليأس بظلالها عليها.
والريادة -كما هو معلوم- لا تحصل إلا بالأمل، والأمل يحتاج من العلماء إلى بثه روحاً وجوهراً في عروق الأمة، ومداواة أمراضها وعلل نفوس أبنائها، عبر المتابعة الحثيثة لما في المجتمع من أحداث جسام، فيبينوا للناس كيف يتعاملون معها ويرشدوهم إلى دورهم الإيجابي الفعال فيها.. والمتبصر لأحوال المنابر يجد أنها تدور بين واقع تغلب عليه المرارة وأمل تشرق شمسه من أصلاب الجيل المرتقب.
أولاً - المنبر وواقع الفتن:
كغيره، إن أساء الراقي استخدامه، أو أخطأ في فهم رسالته، انقلب خير المنبر شراً ووبالاً على المسلمين، فكان سبباً لتفريقهم، ونشر العداوة والبغضاء بينهم، عبر ما ينشره الخطيب من أفكار تفريقيه، تعبر عن حزبه وتوجهه، وتحث على مذهبه وفكره، وتشنع على غيره رأيه وتسفه فكره، فيقطع بذلك دابر التواصل، وينهي أواصر الترابط ويشتت الأفكار، ويتفرق أبناء البلد الواحد، بل أبناء العائلة الواحدة، وذلك لتركيز الخطيب في خطبه على ما يفرق ولا يجمع، ويشتت ولا يلم، فتنشئ الفتن، وتسعر نيرانها من على المنابر التي من أول مهمات خلقها إطفاء ما ينتشر من الفتن في المجتمعات، وتقسم المساجد إلى أحزاب، والمنابر إلى فرق، ويأخذ المنبر صفة خطيبه وسمته، ويسبغ بلون مذهبه وفكره، وتزول صبغة الإسلام العامة عنه، حتى صرت تسمع منبر السلفية ومنبر الصوفية ومنبر الجهادية، وهذا منبع الفتن ومنشأ الشرور والخصام بين المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فصارت الخطب ذات الألوان النكدة ظاهرة بارزة، تلقى بألسنة كاذبة تسهم بشكل أو بآخر في تثبيت سبات عميق تغفو به الأمة، فلا هم عالجوا قضاياها الجسام، ولا هم أدركوا دورهم المنوط بهم، بل صارت صفة المنابر محكومة بقيم السلبية والاتكالية وحب الذات، ومناقشة الموضوعات التي لا تخدم الأمة واقعاً ولا مستقبلاً، إن لم نقل أضرت بها فرقة وشتاتاً، فخمدت من لحن الخطابة روح التغيير، فأروث ذلك يأساً وخنوعاً.
ولو أنهم قلدوا السلف لنجوا، ذلك أن المصلحين كانوا يبرزون أمام الأمة فيخمدوا للفتنة كل شعلة ويحرقوا على الفرقة كل فكرة، فيزداد الناس بخطبهم بالإسلام تمسكاً وبالدين التزاماً وبالوحدة ترابطاً، وقد روي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَنْزِعْ ثَنِيَّتَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فَلَا يَقُومُ خَطِيباً فِي قَوْمِهِ أَبَداً، فَقَالَ: (دَعْهُ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسُرُّكَ يَوْمًا)، قَالَ سُفْيَانُ: فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَفَرَ أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: "مَنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم إِلَهَهُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَاللَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ"، فثابت قريش إلى الحق.
وقد تحكمت في العصور المتأخرة بأعواد المنابر فتن الجهل والطمع والنفعية، يصبح الرجل معتنقاً لفكر ومذهب، ويمسي وقد غير هذا الفكر وتحول عن ذلك المذهب، لكثرة ما يسمع في الخطب من تضارب في الأفكار واختلاف في الآراء وتخبط في المرجعية، وضياع لجوهر المنهج، في سجالات بعيدة عن روح التوافق، وسمت التآلف، لا يحكمها شيء أكثر من دعوى الجاهلية، لتكون المواضيع التي تناقشها الخطب قد عفى عنها زمن الخلاف، وخبا نوره في زمن ظهرت أمور كان الأولى أن يخاض بحرها عبر سفينة المنبر مما يتكلم عنه.
والذي يظهر من حال الأمة أن أغلب من يتصدر للخطابة فيها، ويعتلي درجات المنبر في مساجدها يكون خاوي الوفاض من أي قراءة للواقع الموزون بالمصالح، إذ تنم أغلب الخطب عن قراءة الغير متفهم والغير متدبر، بعيدة عن استيعاب الواقع من جوانبه الرئيسة، فتكون الخطب بعيدة عن التفسير المبين للناس، إن لم نقل بعيدة عما تحمله الأحداث نفعاً أو ضراً.
ولكم سمعت من خطيب يدور موضوعه عن أحكام الطهارة وفضل الصلاة، والمسلمون يتخبطون في طارئ جديد، أو قضية مهمة، فتكون تصرفاتهم غير محكومة بالنظرة الشرعية للأمور، لنصل إلى القول بأن المخرج الأخير لفهم الناس للأحداث قد خبا نوره، فتعددت الرؤى والأفكار، وتنوعت الألسنة وعلت الأبواق، وهل هذا إلا تربة خصبة تنمّي شوك فتن.
وأحياناً يأخذ المنبر دور المحرض على الشر وشكل المنبه إليه، فتستعر العداوات بكلمة تلقى أو خطبة تتلى، ولربما نشبت الحروب وشبت العداوات التي لا طائل منها ولا نفع، والتي كانت مبتداها من المنابر، ولربما تفرقت الأسر وتبددت الوحدة وتغير السرور حزناً والجمع فرقة، وكان مبتدأ كل ذلك المنبر، نتيجة لاستعمال خاطئ أو مغاير لمعايير الرسالة المنبرية.
فهذا الزبير بن علي ، تجتمع عليه الخوارج وتوليه أمرها، فلما رأى فيهم انكساراً شديداً وضعفاً بيناً لجأ إلى الخطبة ليستحثهم على النهوض، واستكمال درب الفتنة، وقتال المسلمين وشق عصا الطاعة فقال لهم: "اجتمعوا"، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل عليهم فقال: "إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف، وقد أصبتم منهم مسلم بن عبيس وربيعاً الأجذم والحجاج بن باب وحارثة بن بدر، وأشجيتم المهلب، وقتلتم أخاه المعارك، والله يقول لإخوانكم من المؤمنين: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، فيوم سِلّى كان لكم بلاء وتمحيصاً، ويوم سُولاف كان لهم عقوبة ونكالاً، فلا تغلبُنَّ على الشكر في حينه، والصبر في وقته، وثقوا بأنكم المسْتَخلَفون في الأرض، والعاقبة للمتقين".
فهذه الكلمات على إيجازها لم تكن إلا كلم حق أريد به باطل، فقتل الزبير بها من المسلمين بعدد حروف كلماتها.. بل أضعاف، وأشعلت كلماته الدالة في معانيها على الخير باب كل شر، فلم يكن في نهوضه إلا الخزي له ولقومه، والفرقة لصف المسلمين والفتنة الحارقة للأمة.
ومثلها خطب غيره من الخوارج كخطبة حمزة بن سنان الأسدي، وخطبة شريح بن أوفى العبسي، ويزيد بن عاصم المحاربي يرد على علي رضي الله عنه، وخطبة المستورد بن علفة قبل النهروان ، وكالخطب التي جرت خلال فتنة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وخلع طاعة الحجاج، ومنها خطبة عامر بن واثلة الكناني وخطبة عبد المؤمن بن شبث وغيرهما.
ثانياً - المنبر سلاح الحق ومأمول الإصلاح:
إن من مهمات المنبر المهمة أن يجمع المفرق على الحق، ويسدد الخطائين إلى الصواب، ويذيب أساسيات الخلاف، مهما كان حاداً، ومهما كانت هوته متسعة.
والتاريخ يشهد، فكم من مرة التقى الجمعان وتراءت الفئتان، فقام القراء والمصلحون وانبروا بخطب حركت القلوب نحو الحق، وألجمت العقول بلجام الخير، فثاب الناس إلى الرشد، وهجروا الغي وما كانوا يصنعون.
فلطالما كانت الخطب المنبرية المخرج الأيسر من الفتن، لتبقى هي السلاح الذي به يعرف الحق من الباطل والهدى من الضلال والصحيح من السقيم.
فمن على المنبر تبين شريعة الله عز وجل، وتفصّل سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو مرقاة الأحبار والربانيين والعلماء والمصلحين تحذيراً من الفتن، ونهياً عن الاقتراب من الحمى، ودفعاً عن الخوض في غمار الشرور، {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63].
وهل من مكان للنهي عن الإثم إلا أعواد المنابر.
فهو وسيلة يستطيع بها المتعلم أن يتكلم بالحق فيسمِع، ويدل إلى الصراط المستقيم فيهدي، ويرد على أهل الضلال فيرشد، ويلجم أهل الشر والمنافقين، ويجاهدهم بالحجة واللسان، بالسنة وآي القرآن، فترد شبهاتهم وتفضح أباطيلهم.
ولهذا كان سلاحاً ماضياً من أسلحة الجهاد، امتازت به الأمة كشعيرة وعبادة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73].
وفي زمن الفتن يخبط الناس خبط عشواء فيختفي الحق ويغيب الصواب، بسبب كثرة الآراء والشكوك والشبهات، وهنا يبرز دور المنبر الذي يمكن العالم من أن يصدع بالحق وينهض لإظهاره، ويبين المنهج الوسط المأخوذ من الدليل المفارق للهوى, ولاشك أن بيان الحق من الواجبات في الفتن،, ومما يؤكد ضرورة البيان سكوت بعض العلماء عن البيان.
والخطب التي كانت ذات تأثير في درء الفتن وإخماد شرورها كثيرة في تاريخ الأمة، منها خطب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه قبل الجمل، خطبها بعد أن وصله كتاب الإمام علي رضي الله عنه من الربذة ليستنفر الناس لقتال عائشة ومن معها، فثبط الناس عن الفتنة وأقعدهم فقال: "يا أيها النَّاسُ، إنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي الْمَوَاطِنِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ جل وعز وبرسوله صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ لَمْ يَصْحَبْهُ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا حَقًّا فَأنَا مُؤَدِّيهِ إِلَيْكُمْ.
كَانَ الرَّأْيُ أَلا تَسْتَخِفُّوا بِسُلْطَانِ اللَّهِ عز وجل، وَلا تَجْتَرِئُوا عَلَى اللَّهِ عز وجل، وَكَانَ الرَّأْيُ الثَّانِي أَنْ تَأْخُذُوا مَنْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ فَتَرُدُّوهُمْ إِلَيْهَا حَتَّى يَجْتَمِعُوا، وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ تَصْلُحُ لَهُ الإِمَامَةُ مِنْكُمْ، وَلا تُكَلَّفُوا الدَّخُولَ فِي هذا، فأما إذ كَانَ مَا كَانَ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ صَمَّاءُ، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقْظَانُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدُ خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ، فَكُونُوا جُرْثُومَةً مِنْ جَرَاثِيمِ الْعَرَبِ، فَاغْمِدُوا السُّيُوفَ، وَانْصِلُوا الأَسِنَّةَ، وَاقْطَعُوا الأَوْتَارَ، وَآوُوا الْمَظْلُومَ وَالْمُضْطَهَدَ حَتَّى يَلْتَئِمَ هَذَا الأَمْرُ، وَتَنْجَلِي هَذِهِ الْفِتْنَةُ".