الخميس 6 صفر 1447 هـ الموافق 31 يوليو 2025 م
الحدود المصطنَعة لا تُلغي حقيقة الأخوَّة
الأربعاء 5 صفر 1447 هـ الموافق 30 يوليو 2025 م
عدد الزيارات : 133
الحدود المصطنَعة لا تُلغي حقيقة الأخوَّة
عناصر المادة
1- ذيول الهزيمة
2- علائم العزيمة
مقدمة:
يعاني إخواننا في غزّة ما يعانون، اجتمعت عليهم مِن المصائب ما لو صُبّت على جبالٍ مِن حديدٍ لأذابتها، الخوف مِن القصف، وفقد الأموال والمنازل، والتّهجير القسريّ، وفقد الأحبّة، وكأنّ كلّ هذا ليس كافيًا، حتّى اجتمع إلى ذلك كلّه تجويعٌ ممنهجٌ يحيل الأطفال إلى هياكل عظميّةٍ، إنّها مصيبةٌ كبيرةٌ، وفاجعةٌ تحمل معها ذلّ الدّهر، وعارًا يسجّل في التّاريخ، أمّةٌ تؤمن بالحديث الّذي رواه أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ). المعجم الكبير للطّبرانيّ: 751
أمّةٌ تؤمن بوجوب التّناصر بين الإخوة؛ فقد قال أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا). صحيح البخاريّ: 2443
أمٌّة تؤمن بالأخوّة المنبثقة عن العقيدة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
أخوّةٌ حقيقيّةٌ تثمر تناصرًا في الشّدائد، فعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ). صحيح البخاريّ: 2442
أين هذه الأمّة ممّا يجري في غزّة؟
يرغب الإنسان بطبعه أن ينتمي إلى أمّةٍ قويّةٍ تدفع عن أبنائه غوائل الخوف والجوع، فلماذا آل حال أمّتنا إلى هذا الحال؟ وكيف أَنصرُ إخواني في غزّة؟
1- ذيول الهزيمة
نحن ننتمي إلى أمّةٍ عظيمةٍ ولا شكّ، أمّةٍ لها مِن الأمجاد والبطولات ما لو أردنا سردها لضاقت عنها اللّيالي والأيّام، وهي أمّة محفوظةٌ في الماضي والمستقبل، محفوظةٌ عن الزوال والهلاك، لكنّها ليست محفوظةً عن الاستضعاف والوهن؛ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً فَأَطَالَ قِيَامَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَلَّيْتَ صَلَاةً أَطَلْتَ قِيَامَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا؟ قَالَ: (إِنَّهَا صَلَاةُ رَغِبٍ وَرَهَبٍ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِيَ اثْنَتَيْنِ، وَزَوَى عَنِّي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلَّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِي، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا). المعجم الكبير للطبرانيّ: 279
وعن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، قَالَ: "فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ ". صحيح مسلمٍ: 247
وإنّ مَن تأمّل التّاريخ يرى في أيّامنا الفائتة مصاعب ومتاعب عانت منها الأمّة ما عانت، فهذه أكوام الرّؤوس في القدس يوم دخلها الصّليبيّون تنبيك عن أهوالٍ جسامٍ تشهد عليها حجارة المسجد الأقصى، فهل استمرّ الحال كذلك؟ لقد هيّأ الله لهذه الأمّة رجالًا سطّروا الملاحم بصبرهم وجهادهم حتّى استنقذوا ثالث الحرمين مِن أيدي الصّليبيّين، هذا منذ قرونٍ متطاولةٍ، فماذا عن التّأريخ القريب؟
استولت على حكم بلاد الشّام منذ عقودٍ عائلةٌ مجرمةٌ أظهرت في الأرض الفساد، وعلت علوًّا كبيرًا، وما تزال آثار إجرامهم ماثلةً أمام الأعين، لا تحتاج إلى قويّ البراهين، وطويل الوصف والتعّيين، فهل دام الحال لهم؟ هبّت الأمّة في وجههم أوّل مرّةٍ منذ أربعين سنةً، فلم تنجح في إزاحتهم، والمعركة الخاسرة درسٌ مفيدٌ، كالمعركة النّاجحة، ثمّ استجمعت الأمّة قوّتها مِن جديدٍ وانطلقت ثورتها الميمونة، فلم تحطّ رحالها إلّا في قصور دمشق، هذا في التّأريخ القريب.
نحن ننتمي إلى أمّة عظيمةٍ، تعرّضت مِن قرابة قرنٍ لهزيمةٍ منكرةٍ، ما تزال ذيولها إلى اليوم، لقد خرجت الدّولة العثمانيّة تمثّل الأمّة الإسلاميّة مهزومةً مِن حربها مع القوى العظمى، وأنتجت الهزيمة حدودًا فرّقت بين المصريّ والغزّيّ، وعزلت الأخ عن أخيه، وسلّمت الأقصى غنيمةً باردةً لليهود، بعد أن صدّهم عنه السّلطان العثمانيّ زمانًا، وما تزال الخطوط الّتي رُسمت يومها تفعل فعلها؛ فتحول بين نصرة الأخ لأخيه، صحيحٌ أنّنا انتصرنا مِن قريبٍ على أعدائنا فدخلنا دمشق، إلّا أنّ هذا نصرٌ جزئيٌّ، إنّها معركةٌ في حربٍ لمّا تضعْ أوزارها بعد، فحريٌّ بنا نتأهب لها أهبتها.
2- علائم العزيمة
صحيحٌ أنّ أمّتنا اليوم في حالٍ مزريةٍ، إلّا أنّ فيها مِن العلامات الّتي تشير إلى حيويّتها، وأنّها بعد نابضةٌ بالحياة، على ضعفٍ مستحكمٍ، لأنّ الأفراد فيها ما زالوا يسألون عن سُبل نصرة إخوانهم في غزّة، وهذا السّؤال دليلٌ على حياة معنى الأخوّة الإيمانيّة، وما تزال التّظاهرات والتّجمّعات وأدعية الأئمّة في الصّلوات تشير إلى أنّ معنى الأمّة ما يزال حاضرًا في الأذهان، وإنّ مظاهر التّناصر هذه -على ضعفها- دليلٌ على أنّ الخطوط الّتي رسمها العدوّ لم تفلح في مسح الأخوّة مِن الأذهان، فالّذي يمنع التّناصر ليس الحدود، بل حرس الحدود.
وإنّ ممّا يُنصر به أهل غزّة -إذ امتنع التّناصر بالسّلاح- أن تُجمع لهم التّبرعات؛ فتوصل إليهم على أحسن وجهٍ، وقد انطلقت الحملات الكثيرة لهذا الغرض {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمّد: 38].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَقُولَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: (اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا) وَيَقُولُ الْآخِرُ: (اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا). السّنن الكبرى للنّسائيّ: 9134
وقد يسّرت التّطبيقات على الأجهزة المحمولة اليوم سبل التّبرّع، وأتاحت إخفاء هويّة المتبرّعين، حتّى لا يخجل أحدٌ مِن قلّة ذات اليد فيحجِم، ويسرّ مريد الإسرار بصدقته ويخفيها، فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه.
ومِن علائم العزيمة في هذه الأمّة وقوفُها في وجه أذناب الصّهاينة في بلادنا، فقد رفع أناسٌ أعلام العدوّ في جنوب البلاد، فانبرى النّاس لهم يقاومونهم ويقاومون أغراضهم الانفصاليّة، إذ أظهروا رغبتهم في خدمة العدوّ بإضافة المزيد مِن الخطوط التّي تزيد مِن ضعفنا، لقد رأى العدوّ نجاح الخطّ الّذي رسمه بين سيناء وغزّة، فأراد أن يخطّ مثله بين ريف دمشق والسّويداء.
إنّ مِن انتصارنا لأهل غزّة أن نحول بين أطماع الانفصاليين ومبتغاهم، سواءً في الجنوب أو في الشّرق أو في الغرب، إذ إنّ كلّ انفصالٍ وتقسيمٍ جديدٍ ضعفٌ نُعِدّه، وقد أُمرنا أن نتبرّع ونعدّ القوّة لا الضّعف {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
إنّ التّبرّع لأهل غزّة حلٌّ إسعافيٌّ، نخفّف به مِن ألم تأنيب الضّمير، ويصل به جزءٌ مِن تبرّعاتنا لإخواننا؛ فيستشعرون انتماءهم إلى أمّةٍ حيّةٍ متعاطفةٍ، لكنّ الحلّ طويل الأمد هو أن نقاوم أذيال المحتلّ في بلادنا فنسوءهم في أهدافهم الّتي يؤمّلون.
خاتمةٌ:
معركتنا مع عدوّنا الّذي يجوّع أهلنا في غزّة مستمرّةٌ، وعلينا أن نسرج لها خيول الشّجاعة والرّأي الحكيم، وقد أظهر النّاس شجاعةً بالغةً في حروبهم مع النّظام البائد ومع فلوله، لكنّ الرّأي والحكمة غابا في كثيرٍ مِن الوقعات.
الرّأي قبل شجاعة الشّجعانِ    هو أوّلٌ وهي المحلّ الثّاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ حرّةٍ    بلغت مِن العلياء كلّ مكانِ
وفي المعركة الأخيرة الّتي كانت مع أذناب العدوّ الصّهيونيّ في السّويداء طاشت بعض بنادقنا عن الهدف المحدّد، وخبطت هناك خبط عشواء، وهي وإن كانت حالاتٍ فرديّةً مرفوضةً مِن عموم المقاتلين إلّا أنّ العدوّ استغلّها أقبح استغلالٍ وضخّمها، وعاد وزاد، وتباكى واستبكى، وتناسى الجرائم المروّعة الّتي قام بها بحقّ البدو وعناصر الأمن والجيش، ممّا جعل صورة العشائر عند البعض كصورة داعش، تكفّر وتهاجم وتفجّر وتدمّر لا ترعى في مدنيٍّ إلًّا ولا ذمّةً، نحتاج إلى الرّأي الحكيم الّذي يقسِم القوم إلى قسمين، قسمٍ يقف على الحياد، وقسمٍ عدوٍّ ذنبٍ للاحتلال، فنهاجم العدوّ ونحمي المحايد ونذبّ عنه، فنكسبه إلى صفنا، أو نضمن بقاء حياده على الأقلّ، أمّا أن نُقدم فلا نعرف متى نحجم فهذه طامّةٌ لا أشدّ ولا أكبر.
ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له    بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له    حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا
قد يبدو للبعض أنّها ردّة فعلٍ طبيعيّةٍ على جرائم أذناب العدوّ، لكنّنا لسنا في حالة طبيعيّةٍ حتّى نقبل ما يُرى أنّه طبيعيّ، أيّ طبيبٍ هذا الّذي يأتيه مريضه بضرسٍ منخورٍ فيقلعه ويقلع ما جاوره مِن سليم الأضراس؟ ثمّ يصوّر ذلك كلّه ويتباهى على مواقع التّواصل بأنّه الحكيم؟
 
1 - المعجم الكبير للطّبرانيّ: 751
2 - صحيح البخاريّ: 2443
3 - صحيح البخاريّ: 2442
4 - المعجم الكبير للطبرانيّ: 279
5 - صحيح مسلمٍ: 247
6 - السّنن الكبرى للنّسائيّ: 9134
دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 125) 81%
غير فعال (صوتأ 27) 18%
لا أدري (صوتأ 2) 1%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 154